هذا كتابٌ في «الإيجازِ وبَلاغَةِ الإشارَةِ في البيانِ النَّبَوِيّ»، يَعْرِضُ لِتَطْبيقِ قَواعِدَ وَنَظَراتٍ مِنْ مسائِلِ الدَّرْسِ اللُّغَوِيِّ والْبَلاغِيِّ، عَلى نُصوصٍ مِنَ الْحَديثِ النَّبَوِيِّ الشَّريفِ، لإِخْراجِ الْمَعْرِفَةِ اللُّغَوِيَّةِ مِنْ إِطارِها النَّظَرِيِّ الْمَسْطورِ في مُصَنَّفاتِ النَّحْوِ والْبَلاغَةِ والمُعجَم، إِلى مَيْدانِ التَّطْبيقِ عَلى نُصوصٍ بَليغَةٍ لَها قيمَةٌ عَمَلِيَّةٌ وقُوَّةٌ إِنْجازِيَّةٌ.
و يأتي هذا الكِتابُ، في سِياقِ الاسْتِفادَةِ من المَباحِثِ المُتَعَدِّدَةِ والأدواتِ المَعْرِفِيّةِ في اللّسانِيّاتِ وعُلومِ اللّغةِ والبَلاغَةِ؛ للتّوصُّلِ إلى كَشْفِ ما بِالحَديثِ النَّبَوِيِّ مِنْ بَلاغةٍ وحُسْنِ بَيانٍ، وما اجْتَمَعَ فيهِ مِنْ صِفاتِ الإفادَةِ و الإجادَةِ عَنْ فِطْرَةٍ و سَليقةٍ و مِنْ غَيْرِ صِناعَةٍ ولا تَعَمُّلٍ، وما امْتازَ بِه مِنْ تَعْبيرٍ بِالكَلِمَةِ الموجزَةِ الجامِعَةِ واكْتِفاءٍ باللّمحَةِ الدّالّةِ والإشارَةِ المُعبِّرَةِ .
و الجَديدُ في الكِتابِ هُوَ تَوْسيعُ مَفْهومِ الإيجازِ البَلاغِيِّ والخُروجُ بِه مِنْ دائِرَةِ الكَلامِ والعِبارةِ اللُّغَوِيَّةِ إلى دائِرةِ الفِعْلِ والسُّلوكِ، لِيَصيرَ مَنْهَجَ حَياةٍ وأسْلوباً في الفِكْرِ والفِعْلِ؛ وانْتِقالاً بالأمّةِ مِنْ حالَةِ الفَوْضى في المَنْهَجِ إلى حالَةِ النِّظامِ والتَّوازُنِ، ومِنْ طَريقِ الإسْرافِ والتَّبْذيرِ إلى طَريقِ الوَسَطِيّةِ والقَصْدِ والاعْتِدالِ .
و الجَديدُ الثّاني هُوَ اسْتِثْمارُ "الإشاراتِ النّبوِيّةِ" لاسْتِخْراجِ ما بِها مِنْ لَمَحاتٍ دالَّةٍ وفَوائِدَ إيجازِيّةٍ بَليغَةٍ؛ اسْتِثْماراً يستَشْرِفُ ما بِها مِن آفاقٍ تَعْبيرِيّةٍ قدْ لا تَتَحَقَّقُ بلُغةِ الكَلامِ في بَعْضِ الظّروفِ .
و لا يَدّعي البَحْثُ أنّه قد اسْتَنْفَدَ ما بالأحاديثِ النَبَوِيَّةِ مِنْ خِصْبٍ و غِنىً، أو أحاطَ بِالمَنْهجِ السّديدِ لاسْتِخْراجِ ما بِها مِن فَوائِدَ و ثُمُرٍ، و لكنّه يَضَعُ لهذِه الغايَةِ لَبِنَةً في البِناءِ ومَعْلَماً في الطّريقِ ؛ فإنْ أصابَ بَعْضَ ما رامَ فَهُوَ المُبْتَغى، وإنْ لَمْ يُصِبْ فَحَسْبُه أنَّهُ أثارَ الإشْكالَ؛ «فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الإِشْكالِ عِلْمٌ في نَفْسِهِ»
هذا، و إنَّ صَفَحاتٍ مَعْدودَةً، و أَحْيازًا مَحْدودَةً، مِثْل هذا الْبَحْثِ الْمُتَواضِعِ، لَتَعْجزُ عَنْ أَنْ تُحيطَ بِالبِناءِ اللُّغَوِيِّ لِلْحَديثِ النَّبَوِيِّ بَحْثًا و اسْتِقْصاءً، بِما في هذا الْبِناءِ مِنْ دلالاتٍ عَميقَةٍ لا يَسْتَقيمُ إِدْراكُها إِلاّ بِالتَّمَرُّسِ بِلُغَةِ الْحَديثِ ، والْوُقوفِ عَلى جَزالَةِ أَلْفاظِهِ ، ووُضوحِ دلالاتِهِ ، جَزالَةً لا يَبْرَحُها الْوُضوحُ والْبَيانُ، ووُضوحًا لا تَحْجبُهُ مُفْرَداتٌ غَريبَةٌ ولا أَساليبُ مُلْتَوِيَةٌ .
فَما وَرَدَ في هذا الْبَحْثِ إِنَّما أَجْمَلَ تَفْصيلاً ، و أَتى بِما أَتى بِهِ تَحْصيلاً، فَاكْتَفى بِما يُرْشِدُ إِلى أَمْثالِهِ. و قَدْ صُرِفَ عَنْ كَثيرٍ مِنَ الْفُروعِ و الْمَعاني والْجِهاتِ التي يُسْتَطْرَدُ إِلَيْها، مِمّا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ فيهِ الْقَوْلُ ، وَ تَتَّسِعَ بِهِ الْمادَّةُ، مِمّا لَو اسْتُقْصِيَ واسْتُقْرِيَ لَطالَ وَلاسْتَنْفَدَ الْعُمُرَ كُلَّهُ ، و اسْتَفْرَغَ الْوُسْعَ جُلَّهُ . وإِنَّما الطَّريقُ الذي ريمَ في هذِهِ الْمَباحِثِ، دُنُوُّ الْمَأْخَذِ ، وقَليلٌ مِنْ كَثيرٍ ، و هُوَ لُزومُ البنْيَةِ البَلاغِيّةِ واللُّغَوِيَّةِ، مِنْ دونِ الاسْتِغْراقِ في الأُمورِ الشَّرْعِيَّةِ، التي لَها مُصَنَّفاتُها وَرِجالُها .
و لا يفوتُني أن أتقدّمَ بالحَمْدِ والشّكرِ و الثَّناءِ – أوّلاً - لله سُبْحانَه وتَعالى، الذي مَنَّ عليَّ بهذا الإنجازِ، خِدْمَةً لحَديثِ رَسولِه ، ثمّ أتوجَّه بالشّكرِ بَعدَ ذلِك لكلِّ مَن أعانَ عَلى إخراجِ هذا العَملِ في صورَتِه الحالية، ولكلِّ مَن رَأى رَأيًا، أَو أَثنى خَيرًا، أو أسْدى نُصْحًا
وأَرْجو، و أَنا الْعَبْدُ الْمُذْنِبُ الْمُقصرُ ، فيما قَصَدْتُ إِلَيْهِ ، أَنْ أَكونَ قَدْ وَضَعْتُ الْيَدَ عَلى ما رُمْتُهُ ، وَ بَلَغْتُ مِنْ جُمْلَتِهِ ما لا يقصرُ عَنِ الإِفادَةِ ، إِنْ قَصرَ عَنِ الإِجادَةِ .
أ.د.عبد الرحمن بودرع
hgYd[h. ,fghym hgYahvQm td hgfdhk hgkf,d~