لا أصعبَ من أن يرى الإنسان أخيه ورفيقه في طريقه وأنيسه في غربته في الدنيا, وقد تغير اتجاهه, وانقلبت أحواله, وانحرفت أفكاره.
فلا هي تلك النفسُ الطموحة, ولا ذاك الوجه الصبوح, ولا تلك الابتسامة الصادقة, ولا تلك الدعوة, وحملُ همِّ الدين.
إنَّ انفتاح العالم الهائل وبخاصةٍ الاعلامي كان سبباً مباشراً في بثِّ الشبهات المعارضة للعقيدة, وبثِّ الشهوات المعارضة للإرادة. اللذين يُشكِّلان مرضيْ القلب, وسببَ موته إنْ استشرى به.
فإن بُثتْ تلك الشبهات أوالشهوات وصادفت قلباً خالياً من صدق الإيمان بالله, وعيناً مجدبةً عن البكاء من خشية الله, وصدق إرادةٍ . فعلت فعلها في اقلب فكانت سبباً في شقائه وانحرافه عن طريقه, كما قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة(1/40):"وهذان الأمران أعني الشبهات والشهوات أصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده".
فتعملُ على إخراج الإيمان من القلب, كما قال بعضهم:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى *** فصادف قلبا خاليا فتمكنا
فإن لم يكن عملت على إضعافه في القلب.
ومن هنا يبدأ طريق الانتكاسة - أعاذنا الله وإياكم منها-, التي شاعت وتفشت هذه الأيام والله المستعان.
فعلى الإنسان أن يستعيذ بالله من تلك الانتكاسة, وسؤالِ الله الثباتَ في زمن الفتن والمغريات. وقد كان أكثرَ دعاء النبي سؤال الله الثبات كما عند الترمذي (5/538) عن شهر بن حوشب قال: قلت لأم سلمة: يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله إذا كان عندك؟, قالت: كان أكثر دعائه "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قالت: قلت يا رسول الله: ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال:"يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ ".
وقال الله تعالى:" ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا".
وعليه سؤال الله السلامة من تلك الأمراض فكما قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (2/169) عند كلامه عن قول الله تعالى:"ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى"الآية.
قال: "والمقصود أن من سلم من فتنة الشبهات والشهوات جُمع له بين الهدى والرحمة والهدى والفلاح".
ولكني في الواقع أرى تقصيراً في سؤال الله الهداية وثقةً مفرطةً في النفس, والاغترار بحلم الله تعالى, علماً بأن هذا من أسباب الانتكاسة وقد أحسن الغزالي إذ قال كما في موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين (1/387-388):" وقد كان السلف يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات والشهوات ويبكون على أنفسهم في الخلوات. وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين غير خائفين مع إكبابهم على المعاصي وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله تعالى زاعمين أنهم واثقون بكرم الله وعفوه كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى وينال بالهوينا فعلى ماذا كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم وقد قال تعالى:" ولمن خاف مقام ربه جنتان* ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد"؟!.
لذا حريٌّ بنا أن نصدق الإلتجاء إلى الله تعالى بسؤال الله الهداية والثبات على طريق الهداية.
ومن باب المساهمة في قطع مدِّ تلك الانتكاسات رأيت أن من الطرق الناجعة في تقويم الإعوجاج, وإصلاح القلوب, (أسلوب المكاتبة) متمثلاً في الرسالة, وهي أسلوب نبوي عمله النبي كما في مراسلاته, والولاة والعلماء, على امتداد التاريخ . وفي صفحاته من ذلك الشيءُ الكثير.
لذا فهذه رسالة إلى منتكس سُطِّرت بالدموع قبل المداد, إلى كل أخٍ حاد عن الجادة, وانحرف عن الطريق.
وهي لكل مُحبٍّ له أن ينقلها له, ويسطرها إليه. مساهمةً في حمل همِّ هذا الدين...
أخي العزيز / .................................................. سدَّد الله خُطاه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...وبعد:
أتمنى أن تقرأ هذه الرسالة وأنت تتمتع بوافر الصحة وجميل العافية .
أخي الكريم: هذه رسالة ودٍّ، وتجديد محبةٍ صادقةٍ، من أخيك وزميلك الذي عرفته والتقيت به مراراً، وأرجو أن تكون عرفته محباً، وناصحاً، ومشفقاً لا يألو الخير ما أصابه. لقد عرفتك جيداً سنون طويلة، وما كان لتلك السنون التي مضت أن تمحو من مخيلتي تلك الشخصية.
أتذكرك فأذكر ذاك الشاب حسنَ الخلقِ طيب المعشر كريم الودِ. أتذكرك فأتذكر ذاك الشاب الحريص على طاعةِ الله سبحانه وتعالى، فتارة أراه يصلي، وأخرى أراه تالياً للقرآن، أتذكرك فأتذكرك ذاك الشاب الذي كان يحدثني كثيراً عن الثبات وخطورة الانحراف، أتذكرك فأتذكر ذاك الشاب الذي كان يشارك زملاءه وإخوانه عبادتهم، وحفظهم للقرآن، ومجالس العلم والوعظ.
أخي الكريم: والله إن تلك الصور وغيرها لا تزال شاخصةً أمام عيني وناظري، وحين يقفز اسمك للذهن، ويدور خيالك بالبال تتسارعُ تلك الصور المضيئة، والجوانب المشرقة، وتتلاحق لتأخذ مكانها، حتى يعكِّرها ما صار إليه صاحبي بعد ذلك.
أخي الكريم: لن أنسى ذاك الأخ الذي أحببته في الله، وتمنيتُ أن أُحشر وإياه تحتَ ظل عرش الرحمن، ونلتقي إخواناً على سُررٍ متقابلين. وطُول تلك السنون التي فرقتنا وصورتك، وخيالك يقفزان إلى الذهن بين الفَينةِ والفَينةِ. ولكن صار ما كدَّر الخاطر، وأزعج الفؤاد مما لا يخفى عليك.
أخي الكريم: هل تتفضل على نفسك لتقف معها ساعة محاسبةٍ، ولحظات مصارحةٍ، فتقارن بين ما أنت عليه الآن وبين ما كنت عليه قبل ذلك ؟، أن تجري حساباً صادقاً مع نفسك قبل الحساب الذي ليس بعده عمل؟ ، أن تجري حواراً صريحاً له ما بعده قبل أن يتحاور أهل السعادة وأهل الشقاوة؟ .
أخي الكريم: لازال البابُ مفتوحاً، والطريق مُشرَعة، أوَ لستَ تقرأ قول العزيز الغفور:
{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم { ,فكن جريئاً أخي الكريم ، وجاداً وحازماً مع نفسك ، وأعلنها عودةً صريحةً إلى الله من الآن . إني لا أطلبُ منك أن تسلك طريقاً مجهولَ المعالم، لا تدري ما وراءه، إني أُطالبك أن تعود لفطرتك التي فطرك الله عليها، أن تعود لتلك الحال التي كنت فيها في قطارِ الصالحين والعابدين.
أخي الكريم: يعتذرُ بعض الذين حوّلوا مسار حياتهم بأعذارٍ تبدو لهم أول وهلةٍ أنها صادقة، ولو صدقت لما أغنت عنهم يوم القيامة.
يعتذرُ أحدهم بأن الصالحين الذين صاحبهم كان فيهم وفيهم... وقد يكون شيءٌ من ذلك صحيحاً، لكن هل الحل أن يغيرَ الشخصُ حالهُ, أم الحل أن يتميز باستقامته؛ فيصبح خيراً منهم؟, يعتذرُ بعضهم بأنه لم يكن جاداً، لم يكن صادقاً، كان يأتي المعاصي، كان متناقضاً مع نفسه فحسم الأمر بما آل إليه.!!
لكن شتانَ بين من يبقى على الخير ويجاهدُ نفسه، فيكبو وينهض، ويهوي ويفيق، ويحب الصالحين، ويجالسهم، فيكون حريّاً بأن يقال له: "أنت مع من أحببت" ويقال له:" هم القوم لا يشقى بهم جليسهم". ويتجنبُ المجاهرة بالمعصية ليصبح من أهل العافية"كلُ أمتي معافى إلا المجاهرين".
شتانً بين هذا وبين من يجاهرُ بسلوك غير طريق الصالحين.
ويجدُ غيرهم أعذاراً وأعذاراً، لكنها تبقى بعد ذلك حجج بينه وبين نفسه، وحجج يواجه بها الناس، ولن تنجيه أمام الله عز وجل.
أخي الكريم: سطرتُ لك هذهِ الرسالة، وكُلِّي أملٌ أن أرى وجهكَ المشرق، وأسعدَ بابتسامتك اللطيفة التي لم ولن أنسها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...