هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في بدايات سورة "القصص", وهي سورة مكية , وآياتها ثمان وثمانون (88) بعد البسملة , وقد سميت بهذا الاسم لورود قصتين من قصص الأولين فيها, إحداهما : قصة عبد الله ونبيه موسى بن عمران مع فرعون مصر وآله وجنده, وثانيتهما : قصة قارون وقومه. ويدور المحور الرئيس للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية , شأنها في ذلك شأن كل السور المكية.
هذا وقد سبق لنا استعراض سورة "القصص", وما جاء فيها من ركائز العقيدة , والإشارات التاريخية والعلمية, ونركز هنا على أوجه الإعجاز التشريعي في الآية القرآنية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال.
من أوجه الإعجاز التشريعي في الآية الكريمة
أنزلت سورة "القصص" على رسول الله- - في مكة المكرمة, والمسلمون قلة مستضعفة, في مقابل قوة المشركين التي كانت مهيمنة متجبرة ومسيطرة على أرض مكة وما حولها. وجاءت الآيات في سورة "القصص" مبشرة رسول الله والقلة المستضعفة من الذين آمنوا معه بالنصر على كفار ومشركي قريش- رغم كثرة عددهم ووفرة أموالهم- كما نصر موسى والمستضعفين من قومه على فرعون وجنده- رغم الفارق الهائل بين القوتين في العدد والعتاد. وكان الفرعون قد علا فى أرض مصر , وفرق أهلها شيعا , وأصبح طاغية متجبرا في الأرض, محاربا لدين الله وللمؤمنين من عباده , يذبح أبناءهم , ويستحيي نساءهم في سطوة بالغة وقسوة مشهودة. وللرد على ذلك الصلف والظلم بعث الله- سبحانه وتعالى- موسى بن عمران طفلا رضيعا, لا حول له ولا قوة, يتهدد به فرعون وملكه , فيغزو قصره رغم أنفه ويعيش فيه . ثم ينهار جبروت الفرعون أمام ما وضع الله- تعالى- في هذا الرضيع من أسرار . وتكفي في ذلك الإشارة إلى أن الفرعون لم يتمكن من قتل هذا الرضيع على الرغم من ميلاده في عام كان القانون الفرعوني يحتم فيه قتل كل الذكور من مواليد المؤمنين . وكان ذلك بسبب أن الله- تعالى- أدخل هذا الطفل الرضيع في رعايته , وألقى عليه محبة من عنده , وساق تابوته الى داخل قصر الفرعون, فلم يستطع قتله على الرغم من عداوته الشديدة لقومه , وخوفه منهم.
وبعد أن تلقى موسى- - رسالة ربه, تحدى بها الفرعون وجنده, فنصره الله- تعالى- عليهم نصرا مؤزرا.
وعرض القرآن الكريم لهذه القصة جاء ليؤكد لرسول الله- - وللمؤمنين به في زمانه , ومن بعده إلى قيام الساعة حقيقة أنه لا سلطان في هذا الوجود لغير الله- تعالى-, ولا نجاة من مخاطر هذا الوجود إلا بإرادته ورحمته , وذلك لأن سلطان العباد قاصر ومحدود , وقدراتهم على الإنقاذ محدودة , فعلى كل من يريد النصر والتمكين أن يكون مع الله , فمن كان في جانب الله- تعالى- وتمسك بإيمانه به , وتوكل عليه كان الله معه, ومنحه العزة والتمكين في الأرض. ومن كان الله معه كان دوما منتصرا على الرغم من ضعف قدراته المادية والبشرية ومحدوديتها. ومن ضحى بمعية ربه , واستغنى عن تأييده, تركه ربه لضعفه الذي لا يغني عنه شيئا. وإذاً يستحيل عليه أن يحقق لنفسه نصرا , أو أمنا, أو طمأنينة بال, ولو وقفت بجانبه كل قوى الأرض البشرية والمادية.
ولذلك فإنه كلما استقوى أهل الباطل على أهل الحق , وغرتهم قوتهم المادية على البطش بهم , ومحاولة القضاء عليهم , وإشاعة الفساد بينهم , تجلت قدرة الله- تعالى- التي تبطش بأهل الباطل وتقضي عليهم , وتمكن لأهل الحق في الأرض , ولذلك قال- تعالى- : (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِوَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةًوَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ *) (القصص:5).
ونمن في اللغة أي: نتفضل وننعم , ويقال (منَّ) عليه (منَّا) بكذا أي أنعم عليه به من غير تعب ولا نصب.
(والذين استضعفوا) أي: الذين عدهم الناس من الضعفاء , المستضعفين في الأرض.
و (نجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) أي : ونجعل هؤلاء المستضعفين أئمة وقادة في الخير, ونجعلهم ورثة للأرض.
والأصل في التعامل مع القرآن الكريم أن "العبرة هي بعموم اللفظ لا بخصوص السبب". ولذلك فإن معنى الآية يبقى ثابتا على الرغم من أنها نزلت في عبد الله ونبيه موسى بن عمران وقومه الذين اضطهدهم فرعون مصر وجنوده وأذاقوهم ويلات العذاب, فأخذهم الله- تعالى- أخذ عزيز مقتدر , ونجى موسى والذين كانوا قد آمنوا معه. ويعني ذلك أن الظلم مرتعه وخيم, وأن المظلوم لا بد وأن ينصفه الله- تعالى- والذي تعهد بنصره ولو بعد حين. والحاكم المسلم إذا كان ظالما, كان أبغض إلى الله من الحاكم الكافر إذا كان عادلا.
وقد رأينا ذلك يتكرر عبر التاريخ , ونراه يتحقق في زماننا الراهن, فبعد أن عاش كثير من الدول العربية لعدة عقود تحت حكم بوليسي, شمولي, ظالم, جاءت ثورات الربيع العربي لتفك أسر المظلومين وتضع الظالمين تحت طائلة المحاكمات وفي غياهب السجون.
فقد حُكِمَت معظم شعوب الدول العربية لعدة عقود بقانون الطوارئ الذي أدى إلى الانفراد بالسلطة السياسية والعسكرية والأمنية, ووضعها في أيدي عدد قليل من الأفراد الذين جعلت منهم حكاما مطلقي الأيدي في حقوق العباد. وقد أدى ذلك إلى استشراء الفساد في مختلف نواحي الحياة, حتى نهبت ثروات البلاد وانهار الاقتصاد. وتضاعفت معدلات البطالة والفقر, وارتمى الحكام في أحضان أعداء الأمة. وفي محاولة الطغم الحاكمة لحماية جرائمها اطلقت أيدي الزمر الفاسدة من حولها في استباحة حقوق المواطنين بلا حدود, فتزايدت الاضرابات, وكثرت الاحتجاجات, حتى أطاحت بمعظم هذه النظم الفاسدة . ونجحت هذه الشعوب في تطهي بلادها من هؤلاء الحكام الفاسدين , وأوصلت إلى الحكم بانتخابات حرة نزيهة ما نرجو من الله ان يوفقها لإقامة حكم عادل يخاف الله ويتقيه في أمته ويقدر حجم المسئولية الملقاة على عاتقه أمام الله وأمام الناس (...وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِوَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *) (يوسف:21).
وهنا تتضح لمحة الإعجاز التشريعي في الآية التي اخترناها عنوانا لهذا المقال, والتي تؤكد حقيقة أنه لا سلطان في هذا الوجود كله لغير الله , ولا قدرة بجوار قدرة الله , ولا ناصر غير الله . ولو أدرك بنو آدم ذلك ما تظالموا, ولا تحاربوا, ولا جار بعضهم على بعض, ولا سفك بعضهم دماء بعض , لأن الله- تعالى- هو مالك الملك , ومجري الخير للعباد , ومحقق عدله المطلق بينهم. والله يقول الحق ويهدي إلى سواء السبيل , وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدهونه ‘لى يوم الدين ,