بعث الله رسوله محمداً بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فدعا إلى الله وجاهد في سبيل الله وآزره أصحابه الكرام حتى تحقق وعد الله وظهر دينه على سائر الأديان، وخلّفه من بعده خلفاؤه الراشدون ومن جاء بعدهم فواصلوا الدعوة والجهاد في المشارق والمغارب حتى انتشر الإسلام وانقمع الكفر ودخل الناس في دين الله أفواجاً عن طواعية ورغبة لا عن إكراه وإجبار، ومن أصرّ على البقاء على الكفر دخل تحت سلطان الإسلام بعد دفعه الجزية عن يد وهم صاغرون. وفئة ثالثة أظهرت الإسلام لتعيش مع المسلمين في الظاهر وهي مع الكفار في الباطن وهم فئة المنافقين {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء}، وهم شر من الكفار الخلص، قال الله: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، فهم عدو باطن وهو شر من العدو الظاهر لكن الله كشف سترهم وفضح أمرهم في سور وآيات من القرآن الكريم تتلى إلى يوم القيامة، وقد ورثهم في وقتنا هذا فئات متنوعة في توجهاتها وثقافاتها لكنها تتفق مع المنافقين في العداء للإسلام، إذ يصفون المتمسك به بأنه متشدد وتكفيري وإن كان على هدى وبصيرة من الله، ويصفون المتساهل في دينه المهمل لكثير من واجباته التي يمليها عليه الدين الذي ينتسب إليه بأنه متحرر ومتنور، وعلى هذا الأساس يتناولون الأحكام الشرعية التي دوَّنها جهابذة العلماء بأنها جمود وأغلال وكهنوت، ويدعون إلى فقه جديد يصوغونه هم على وفق أهوائهم، بل تجاوزت وقاحتهم إلى ترك العمل بالأحاديث الصحيحة وعدم الاحتجاج بها لأنها تخالف العقل عندهم، وأي عقل يريدون! إنها عقولهم القاصرة الملوثة لا العقول السليمة، فإن العقول السليمة لا تخالف الأحاديث الصحيحة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، فإن اختلفا فإما أن العقل غير صريح وإما أن النقل غير صحيح ) .
هذا، وقد لا يدرك العقل كل ما جاء به الشرع، فهناك أمور لا يدركها العقل البشري، فواجبنا التسليم والوقوف عند حدنا، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : (أيها الناس اتهموا الرأي في الدين، فلو رأيتني يوم أبي جندل أن أرد أمر رسول الله فاجتهد ولا آلو)، وذلك لما رد الرسول أبا جندل إلى المشركين بموجب بنود الصلح فشق ذلك على عمر، وكان في هذا الصلح الخير الكثير للمسلمين. وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه).
فلو كانت العقول تستقل بمعرفة الأمور وإدراك المصالح لما احتجنا إلى الشرع ولا إلى الكتاب والسنة، فالواجب التسليم لما جاء عن الله وعن رسوله سواء أدركنا الحكمة في ذلك أم لا، فلا يسع مسلماً أن يقول: أنا لا أسلم إلا لما يدركه عقلي. بل يجب التسليم لما جاء عن الله ورسوله مع العلم أن أمر الله لا بد فيه من حكمة سواء أدركناها أم لم ندركها، وذا مقتضى الإيمان بالله ورسوله. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}، وما أمر به الرسول فقد أمر به الله تعالى، قال تعالى: }مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ}، وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وقال تعالى: }وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}، وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
ولذلك يجب احترام أحاديث الرسول ويحرم الخوض فيها بغير علم وتقوى، فإن كثيراً من المتعالمين اليوم سهل عليهم اقتحام سور السنة والكلام فيها بالتصحيح والتضعيف من غير علم وإنما لمجرد المطالعة في الكتب دون تلق عن علماء الحديث الراسخين ودون دراسة لعلم الحديث على علمائه، وهذا أمر ينذر بالخطر، قال الإمام أحمد – رحمه الله: (عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان)، فانظر إلى قوله: (عرفوا الإسناد وصحته)، والمعرفة لا تكون إلا عن تعلم وتلق عن اللماء الراسخين لا عن المتعالمين الذين لو سألت أحدهم عمن تلقيت علم الحديث لقال عن الكتاب الفلاني أو عن المتعالم الفلاني، وهذا من القول على الله وعلى رسوله بغير علم.فاللهم فقهنا في الدين وعلمنا ما ينفعنا وأنفعنا بما علمتنا واغفر لنا وارحمنا، وصلى الله على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.