يبقى هلاك شنودة هو الأعنف والأعتى في ساحة العقيدة، وبقدر فرحنا بوفاة هذا الطاغية حزنا شديدا على من بكى وتباكى من أبناء المسلمين، وذلك أن بعضهم بينه وبين عقيدته فجوة واسعة وهُوَّة سحيقة تجعل منه مسلما ظاهرا الإسلام وأما باطنه فهو خاوي الوفاض ..
وإذا كان المسلمون يعيشون أنواع الضعف وفنونه إلا أنهم بعقيدتهم الصلبة وتمسكهم المتين بها يزاحمون ملل الكفر في كثير من المواقف، بل هم الغالبون، وإذا تم التخلي عن هذا السلاح فإننا نرجع من هذه الدنيا بخفي حنين بل لن نرجع بهما أيضا .
وإن المصيبة تظهر حين يعسر على عقل بعض المسلمين الجمع بين قوة الإسلام وسماحته وجهاده ورحمته ، فتُغلب طائفة جانبا وأخرى تغلب جانبا، وكلا الطرفين بعيد عن الفهم السليم وهدي المصطفى .
هلاك شنودة الكافر مايز بين الصف وظهرت معادن لم تكن خافية ولكن جلاها بصورة أكثر وضوحا، وأكد على أزمة العقيدة، وذلك أن المسلم يصرع خصمه بتسمكه بعقيدته قبل أن يصرعه بسلاحه، ولو فرَزنا جيوش الأرض لرأينا أصلبها وأخطرها تلك التي توظف العقيدة توظيفا قويا .
قوة العقيدة تجعل المسلم يقاتل بقلبه فيطير من عرينه باحثا عن الموت منافحا عن الدين، صلب الأرض .
قوة العقيدة جاذبية ساحرة تدعو من حولك إليك فيفتحوا أعينهم إعجابا بك وتوقيرا لموقفك واحتراما لديانتك .
وإذا فقَد المسلم عقيدته صار ريشة في مهب الريح، لا يفرق بين عدوه وصديقه، أو لا يبصر عدوه القريب وعدوه البعيد ، فتراه يتنقل بين أحضان عدوه على بطنه مرة وعلى ظهره أخرى باحثا عن السلام والأمان ونسي أن السلام في داخله ولكن لا يراه .
وقد كتبت مقالا بعنوان (( موقف المسلم من هلاك شنودة )).
لكن الحاجة ملحة للوقوف على طلل حدث لن يمحى من ذاكرة التاريخ لأنه جمع المأساة من أطرافها وألقاها على ثكلى ويتيم ذلك هو الموقف :
شيخ له لحية بيضاء مرتديا رداء أهل العلم وتعلوه القبة الأزهرية ينتصب ويدعو الداعي ليجلب له اللاقط ليتحدث على الملأ عن موقفه من شنودة، يبتدئ حديثه قائلا :
" قد علَّمنا الدين الحنيف أن نقول عند المصائب إنا لله وإنا إليه راجعون " .
ليسجل زللا عظيما حين اعتبر وفاة رأس الكفر مصيبة وكان الأليق به أن يذبح شكرا لله فرحا ويتهلل وتبدو أسارير وجهه لأن هذا الإسلام، فإن لم يكن كذلك فرحمة الله على أهله .
ثم يخلع قلوب المسلمين بقوله : " إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا "
فتتوقف رايات الإسلام لتتكسر بين أمواج البحر وتغرق السفينة بمن فيها ويرتفع الصليب قائلا : ربنا يسوع المسيح .
لقد زعزع المبادئ وأوهى القوى وشتت الشمل وبدد الجمع وفرق الصف وخالف الله ورسوله ، يقول عز من قائل متحدثا عن هلاك الكفار " فما بكت عليهم السماء والأرض "
قال ابن كثير :
" هؤلاء لم يكن يصعد لهم عمل صالح فتبكي السماء على فقده، ولا لهم على الأرض عمر صالح فتبكي الأرض عليه ".
فأي عين تبكيك يا شنودة وأي قبر يحتويك أيها الآثم وإنا لله .
وأما مخالفة الرسول حين مرت به جنازة :
" فَقَالَ مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ " صحيح البخاري .
أم أنه يبكي على ما قدم للإنسانية وبذل من للوطنية وكأنه تناسى قول الله :
( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا )
أتعرف الهباء المنثور ؟ هو ما يظهر من ذرات عندما تدخل الشمس من النافذة ، أي لا يساوي عند الله شيئا .
هذا هو أي عمل حسن يقوم به الكافر في الدنيا لا ينفعه عند الله أبدا لأنه لا يملك مفتاح الجنة ألا وهو الشهادتان : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله .
فإذا كان هذا شيخا معمما له تاريخ وعمل وقدم فما بالك أخي بعامة الناس والكلام يطول ، لكن هذه الحادثة أشد الحوادث على قلبي إيلاما والله المستعان .