لم يعد البيت الدمشقي يتماهى مع عرائش العنب، وزهور الياسمين، ونوافير المياه المتدفقة في ساحاته كإرث جمالي يساهم في صياغة وجدان الإنسان، ويشكّل اقترابه الكامل من مضامين الحب، والجمال، والعذوبة، ولم يعد ذلك البيت العتيق الذي ينثر عبق التلاحم في الغايات والأهداف والرؤى بسموّها وشموخها نحو المجد العروبي الذي احتضنته عاصمة الأمويين، وقدمت من خلاله قصة الزمن العربي بحضارته المتألقة، وعنفوان تعاطيه مع الإنتاج الفكري والمعرفي والإنساني.
لم يعد البيت الدمشقي ذلك الفضاء الرحب لقيم المحبة والتسامح والتماهي مع قيم الحرية والعدالة وحق الإنسان في العيش بسلام وأمن، وكرامة الحياة في تفاصيلها الكاملة، وحصوله على الدواء، والغذاء، والتعليم كحق مكتسب لا منة لأحد في منحه، أو فضل يمكن أن يدعي كائن جهد توفيره، بل تحقق هذا نتيجة المواطنة، والتضحية، والشعور بعمق الانتماء للأرض والتاريخ، وأصّله العقد الاجتماعي الذي كان قائماً بين النظام والشعب، قبل أن يحوّل النظام الإنسان إلى حالة القطيع في مزرعة القهر والاستبداد.
تلاشت رائحة الخبز من تنور البيت الدمشقي، وتبددت رائحة القهوة الصباحية في ساحاته وقناطره، واغتيل الحلم عند إنسانه بيوم منتج في المروج الشامية، وامتدادات الحقول في سهولها، وعلى ضفاف بردى، وحول ينابيعها، وغابت مواويل الفلاح الشامي التي تتماهى مع الأرض، تحرض خصوبتها على الإنتاج، وتقوم بينها وبين مخزونها الثري والمدهش لغة حوارية تتفاعل بالعطاء والخصب والنماء، فالأرض رحم أحلام الكائن البشري، وتطلعاته، وعشقه الأزلي والسديمي، والأرض في كل أحوال فصولها، وتقلباتها، وسخائها، وشحها، وقسوتها، وعذوبتها هي في كل ذلك حب الإنسان، وهويته، وشخصيته.
تضافرت آلة النظام العسكرية والمخابراتية في سورية، واستشرست عقلية الإجرام والعنف، فأخرجت الفرح من كل بيت دمشقي وبالتالي من كل بيت شامي، وأسكنت بدلاً عنه الحزن والقهر والوجع، وطغت رائحة الدم على كل الروائح المبهجة المنبعثة من زهور الفل والورد الجوري التي كان إنتاجها مهنة الإنسان، ورعايتها حرفته، فصار في كل بيت مأساة، وعند كل عائلة مأتم، وأصبح الموت الجماعي والمجاني بفعل رصاص النظام وشبيحته وطائراته ومدفعيته حالة يومية بحيث لم يعد بإمكان الناس دفن شهدائهم، ولا جمع أشلاء أطفالهم، ولا تطبيب جرحاهم من النساء والشيوخ.
النظام السوري ألغى كل قوانين التعامل الإنساني مع شعبه، وارتكب المجازر الجماعية في حق الأطفال والنساء، وشرد المواطنين من مدنهم وقراهم إلى حيث التيه والغربة والجوع والمعاناة، ومارس إجراماً من سخريات الأقدار أن يأتي قادة الدولة العبرية ليطلقوا عليه تعريف «الإبادة الجماعية» للشعب السوري، ويعلنون عن دعمهم لإسقاط النظام.
هذه ثقافة القتل والإرهاب التي مارسها نظام الأسد الذي هو محاصر، وفي رمقه الأخير، والبقاء للمواطن السوري.