عد العرب «الخل الوفي» من المستحيلات، التي يعجز المرء عن تحصيلها في هذه الحياة، فقال قائلهم: لمّا رأيتُ بَني الزّمانِ وما بهِم خلٌّ وفيٌّ، للشدائدِ أصطفي أيقنتُ أنّ المستحيلَ ثلاثة ٌ الغُولُ والعَنقاءُ والخِلّ الوَفي وهذا مع التسليم بعدم دقته؛ لأننا نعرف نماذج تاريخية وواقعية في الوفاء، إلا أن هذه المقولة ربما جاءت على طريقة العرب في المبالغة؛ للتعبير عن ندرة الشيء. إحدى أكبر إشكاليات انهيار الصداقات، التي تبدو في الظاهر راسخة قوية، أنها لا تُبنى على أسس متينة، ولكن تساهم بعض الظروف في تشكيلها: كقرابة، أو زمالة عمل، أو شراكة تجارية، ونحوها، ففي ظل هذه الظروف التي تدفع المرء للاجتماع مع شخص آخر لفترات طويلة من الوقت، تظهر بعض صور الانسجام مع هذا الشخص، التي تكفي لإقامة علاقة تشاركية جيدة ومفيدة، ولكنها لا تكفي لبناء أسس علاقة متينة قائمة على الوفاء والتضحية وإنكار حظوظ الذات. سيظهر لك أكثر الناس على قدر من الخلق، واللطف الذي يبهرك ابتداءً، ولكنه قد يغشك لاحقاًيقدم لنا الفاروق عمر بن الخطاب، معايير دقيقة لفحص الشخصية، التي تكون جديرة بثقة المرء وتزكيته على الأقل. فقد شهد عند عمر بن الخطاب رجل شهادة؛ فقال له: لست أعرفك ولا يضرك ألا أعرفك، فائت بمن يعرفك. فقال رجلٌ من القوم: أنا أعرفه. فقال بأي شيء تعرفه؟ قال: بالعدالة والفضل. قال: فهو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا. قال: فمعاملك في الدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا. قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا. قال: لست تعرفه. ثم قال للرجل: ائت بمن يعرفك. هذه المعايير العُمرية لمعرفة الشخصيات في غاية الأهمية، فميزة التعامل المالي، والرفقة في السفر، والجوار في السكن، إنها حالات تبرز فيها رغبات الذات وحظوظها، وفيها تتجلى معادن الرجال وقدرتهم على كبح جماح أطماعهم المادية، وفرض آرائهم ورغباتهم على الطرف الآخر، وأما في غير تلك الحالات فسيظهر لك أكثر الناس على قدر من الخلق، واللطف الذي يبهرك ابتداءً، ولكنه قد يغشك لاحقاً. لا ريب أن للصداقات الراسخة معايير أخرى: كالتوافق النفسي، والانسجام الفكري، والاجتماعي، وغيرها، ولكن هذه المعايير يسهل التعرف عليها دون مشقة، وأما المعايير العُمرية فقد يتعذر الحصول عليها في كل الأحوال. ومن هنا، فيحسن بالإنسان أن يتأنى ويتريث في انتقاء أصدقائه. في أحيان كثيرة نُصدم في أشخاص أعطيناهم الكثير من ثقتنا ومحبتنا، وربما لم تكن تلك الصدمة بسبب هؤلاء الأشخاص، بل بسبب تقييمنا الخاطئ في بداية علاقتنا بهم لأخلاقهم وقيمهم. قبس: الأصدقاء يستمعون لما تقول.. ولكن أفضل الأصدقاء هو الذي يستمع لما لم تقل.