يقولون:
اقرأوا ما كتب الصوفية من دعوة
إلى التسامي والروحانية،
والتأملات الشاعرة في أسرار الكون،
وسرائر النفس والحياة،
والاستسلام المطلَق إلى مُبْدع الوجود.
وأقول لهم:
بل اقرأوا ما كتب الصوفية عن الله ورسله،
واقرأوا ما كتب الصوفية عن معتقدهم.
ابتلوا العقائد،
قبل ابتلاء الأخلاق يا أسارى الصوفية!،
فما الخُلُق إلا نتيجة.
والصوفية نفسها تقرر أنها دين وعقيدة،
قبل أن تكون دعوة خلقية،
فلتحاسَبْ على دينها واعتقادها
قبل محاسبتها على دعوتها الأخلاقية!
وما أحكم وأحسن
قول الفضيل بن عياض:
"إن العمل إذا كان خالصاً،
ولم يكن صواباً،
لم يُقَبِل،
وإذا كان صواباً،
ولم يكن خالصاً
لم يُقْبَل،
حتى يكون خالصاً صواباً،
والخالص ما كان لله،
والصواب ما كان على السنة،
وهذا هو المذكور في قوله تعالى :
( فمن كان يرجو لقاء ربه،
فليعمل عملاً صالحاً،
ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ) ( 1 ) .
فعلى الذين يعصف بهم الإعجاب
بدعوة الصوفية الخلقية،
أن يولوا إعجابَهم شطر كل فرقة
حكم الله عليها بالكفر،
ففيها أيضاً الدعوة إلى مثل تلك الأخلاق
التي يسحركم البيان عنها في الصوفية!،
بل في بعضها أروع مما في الصوفية،
اقرأوا هذه الدعوة:
"خَفِ الله إله آبائك، واخدمه بحب؛
لأن مخافة الله وحدها
هي التي تَرْدَع الإنسان عن الذنوب،
وحبَّه تعالى هو الذي يحث المرء على الخير،
دَرِّب نفسك على الخصال الحميدة،
أحِبَّ الحقيقة والاستقامة زينة النفس،
وتعلَّق بهما،
كن حازماً في المحافظة على كلمتك،
ترفَّع عن المُوَارَبة والتهرب والمراوغة،
أبغض الكسل والخمول".
دعوة حارة إلى أروع الأخلاق،
وحَقٌّ يَرِفُ إيماناً وقدسية ولكن!
ثم اقرأوا هذه :
"إننا نبغى من العالم الحقيقة المجردة،
ونجني الخير والطهر والجمال"
دعوى ريانة الجمال،
ولكن ليتها كانت صادقة!
اقرأوا هذه :
" إن لم تكن لنفسك ، فَلِمَنْ تكون ؟
ولكن إن كنت لنفسك فقط ، فلم تكون ؟ !"
دعوة إلى الإيثار النبيل والتكافل الرحيم الوَدود .
واقرأوا هذه :
"فكِّر ملياً في ثلاثة أمور،
تَنْجُ إلى الأبد من سيطرة الذنوب،
اعلم : أن فوقك عيناً ناظرة،
وأذناً سامعة،
وأن جميع أعمالك مسجلة في كتاب " ( 2 )
قول تظنه إيماناً يتهجد بالصلاة المؤمنة،
قول يوحي بالإيمان
بأن الله بكل شيء محيط.
تلك الدعوات الرائعة في تساميها الغائي
ليس في الصوفية مثلها،
ومع هذا حكم الله سبحانه
على أصحاب تلك الدعوات بأنهم عدوه،
وأن عليه غضبه ولعنته؛
لأنهم يهود،
والعقيدة اليهودية ضلاله، وباطل.
فكل ما انبعث عنها من عمل، أو قول،
فهو مثلها ضلال وباطل،
وحابِطٌ عند الله،
وإن كان يستهدف المثل العليا
في أعراف الأخلاقيين.
فلو أن الدعوة الخلقية كانت وحدها،
هي الميزان الذي تَزِنُ به إيمان الإنسان أو كفره،
لحكمنا على أولئك اليهود الملعونين
بأنه بررة يَتَبَتَّلون في المحاريب المقدسة!
لو كانت الدعوة الخلقية وحدها،
هي أساس الحكم على الإنسان
بأنه مسلم أو غير مسلم،
لدخل تحت الحكم بالإسلام
كل زنديق وملحد وكافر،
فما منهم من أحد
إلا ويدعو إلى الأخلاق الفاضلة.
*****************
( 1 ) ص 74 تفسير ابن القيم
( 2 ) تلك النصوص عن الفكر اليهودي ترجمة ألفريد يلوز
من ص 24، 200، 202 وما بعدها