سبحان من علَّم الإنسان البيان، سبحان من جعل أعلى البيان القرآن، سبحان من أنطق الأعراب في الصحراء أبلغ كلام نطقه إنسان!
حمدًا لله الذي جعلني من أُمَّتهم.
حمدًا لله الذي جعل لساني كلسان القرآن حرًّا عربيًّا.
أسأل الله أن يجعله فصيحًا بليغًا، وأن يجعله حربًا على أعدائه، سلمًا لأوليائه.
ولقد أجد الكلمة تعيش فيَّ كما تعيش في الناس، يأخذون منها ما يعبِّرون به، ويرددونها كصوت يعبرون من خلاله إلى أغراضهم.
لكني فجأةً أجد الكلمة - في بعض أحياني - عاريةً أمام تفكيري من كل ما ألبسها الناس من أغراض ومشارب، فأجدني أقف أمامها وجهًا لوجه دون أي ستر أو غطاء، فأصرخ بها: أن استتري!
وقد أتوعدها بالحرب والتفكيك، أو أفككها إن لم يتضح لي جُلُّ مغزى نظمها ونطقها وإعجازها.
أجدها في ذهني كأني أمام واضعها لأول مرة، فأحاورها وأحادثها؛ إما بحديث عذب،
أو بحديث حرب!
أتأمل دقة وضعها وواضعيها، وأتفكر: ماذا لو أخَّر الواضع هذا الحرف؟ وماذا لو قدَّم ذاك؟ وعلامَ اختار هذا الصوت بعينه، إلا لغرض عليَّ أن أعرف كنهه؟ ثم ما المعنى الذي مثَّلته هذه الحروف بمجموعها ومازها عن غيرها؟ ثم ما الفرق المعنوي الدقيق بينها وبين غيرها مما تقاربت حروفه ومخارجه من الكلمات؟ ثم كيف استطاعت تلك الكلمة الجبارة أن تسع كل هذه المعاني، علاوةً على حمل المعاني الأضداد؟! ثم ما المعنى المشترك بين المترادفات؟ وما صاحبة الحظ الأكبر من المعاني؟ ثم هل للسياق دور في زيادة معانٍ في هذه الكلمة أو سلبها؟
وماذا لو وُضعت هذه الكلمة في غير سياقها المعتاد عند العرب؟ أكان العرب محقين في استهجان ورودها في ذلك السياق؟ أإلى هذه الدرجة نطقها بهذا الأسلوب ومرورها على أُذن القلب الحاد قبيح ومُستَنْفَر؟!
ثم أرددها كأني طفل لأول مرة يسمع نغمًا، وأجد لها في أُذني صدًى لا يسمعه سواي، وفي قلبي لذة الطريف، وفي عقلي طربًا ومراحًا.
وإني لأسمع كلامًا كثيرًا في اليوم والليلة كما يسمع الناس، لكن كلمةً أو كلمتين تنالان جُلَّ تفكيري. ما هذا الإعجاز يا لغة الضاد؟! ما هذا السمو والعلو يا لغة القرآن؟! ما هذا التحدي أيها الحرف العربي؟!
ويا لها من حكمة اقتضت اختيارك حرفًا لحمل كلام الرب! ويا له من تحدٍّ حين حق لك الخلود إلى يوم العرض! ويا لها من عظمة حين تربعت على عرش اللغات البشرية بلا منازع!