التأليفُ فنٌّ وصناعة، وهي صناعة تحتاج إلى علْم، وكذلك فلا تستغني صناعةُ التأليف عن شرط الحكمة عند المؤلف؛ كي يضع الكلام موضعَه؛ لأنه ليس كلُّ ما يُعرف يُقال، وليس كل ما يُقال يقال بطريقة صحيحة، وليس كل ما يُقال بطريقة صحيحة يُوجَّه التوجيهَ الصحيح. وقديمًا كان التأليفُ قليلاً مع كثرة الاحتياج إليه، واليومَ التأليف كثير جدًّا مع قلة الاحتياج إليه!
وقديمًا كان المؤلف يَسْتقرئ مئاتِ المصنَّفات، ويُطالع هنا وهناك، ويُشافِهُ الرجال، ويطيل الأسفار؛ حتى يضَعَ مصنَّفًا واحدًا قد يستغرق من عمره عشراتِ السنين؛ لِيَبقى له ذُخرًا في الحياة، وأجْرًا بعد الممات، فيحمَده العلماء، ويستفيد منه الطلاب.
أمَّا اليومَ فلا أبالغ إنْ قلتُ: إنَّ بعض المؤلفين يكتب - إذ هو يكتب - مِن باب الصِّناعة، لا من باب الإفادة، فهي صناعة يَستفيد هو منها أجرًا، ويزداد بها شهرةً، دون أن يَكون عنده - في حقيقة الأمْر - مادَّةٌ تُمِدُّه بما يفيد به القُرَّاء، إلا الغُثَاء الذي يشمَئِزُّ منه العلماء، وإن كان الجهَلَةُ مِن العوامِّ قد يهلِّلون له طربًا.
وأنا أعجبُ جدًّا إذْ أجِدُ بعضَ المؤلفين يضَعُ مِن المؤلَّفات أكثرَ مِن الكتب التي قرأها!
وأَذْكر أني قرأْتُ لبعض المعاصرين مِن الغَرْب أنَّ تأليفَ كتاب يحتاج إلى قراءة خَمْسِمائة كتاب، أو إلى جَرْدِ نِصْفِ مكتبة!
هل تريد أن يقرأ لك ألوفُ القراء؟ إذًا فلا بد أولاً أن تقرأ ألوفَ الكتب، أمْ تظن أن المشتري يشتري كُتبَك فقط دون كتب غيرك؟
القراءة عندنا صارت أداةً للتأليف وفقط، أداةً لكتابة البحوث وفقط، أداةً لوضع الرسائل العلمية، والحصول على الماجستير والدكتوراه وفقط؛ فمعظم مَن تراهم مِن حولك من المؤلفين والكتَّاب إنما يقرؤون لأحد هذه الأهداف فقط!
أما مَن يقرأ ليتعلَّم ويعلِّم، من يقرأ ليتثقَّف ويثقِّف، من يقرأ ليزداد حكمةً ويقينًا، من يقرأ ليتقرب إلى الله - عزَّ وجلَّ - من يقرأ ليزيلَ عن نفسِه الإشكالاتِ، مَن يقرأ ليصير عالِمًا، فكل هذا لا يكاد يوجد، ولا تراه بعينك إلا نادرًا، فقد صار هؤلاء تحت التراب، أو في طَيَّات كتاب!
فنحن بحاجةٍ حقيقيَّةٍ إلى تحفيز الناس للقراءة، نحتاج إلى تشويق طلبة العلم إلى إدمان المطالعة، نحتاج إلى بَذْل المزيد مِن الجهد في الحثِّ على اقتناء الكتب والاستفادة منها، نحتاج إلى مزيدِ بيانٍ لفوائدِ الكتاب، وتَكرار كلام الجاحظ وما شابهه في ذلك: • الكتاب وِعاءٌ مُلِئَ عِلْمًا، وظَرْف حُشي ظَرفًا... إلخ. • وَخَيْرُ جَلِيسٍ فِي الزَّمَانِ كِتَابُ... إلخ. • مِلْتُ لِلكُتبِ وَوَدَّعتُ الصِّحابَا... إلخ. • أَخِلاَّءُ مَأْمُونُونَ رَأْيًا وَمَذْهَبَا... إلخ. • لَمَحْبَرَةٌ تُجَالِسُنِي نَهَارِي... إلخ. • في كل كتاب تقرؤه لذةٌ جديدة... إلخ. • الكتبُ أصداف الحِكَم... إلخ. • هي إنْ خلوتُ لذَّتي، وإن اهتممتُ سلوتي... إلخ.
وأخيرًا: أنصح بقراءة كتاب "المشوِّق إلى القراءة وطلب العلم"، للشيخ علي العمران.