هو إمام الأمـة
وهو سيد ولد آدم
وهو خير خلق الله جميعاً
ومع ذلك يجد من الوقت ما يُكلّم به جارية
أو يقضي به حاجة عجوز
أو يُلاعب به طفلا
صلى رسول الله في إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر وهو حامل الحسن أو الحسين ، فتقدم النبي فوضعه ثم كبر للصلاة ، فصلى ، فلما قضى رسول الله الصلاة قال الناس : يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك هذه سجدة قد أطلتها فظننا أنه قد حدث أمر ، أو أنه قد يُوحى إليك . قال : فكلّ ذلك لم يكن ، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضى حاجته . رواه الإمام أحمد والنسائي .
تأمل في جوابه لأصحابه : فكلّ ذلك لم يكن !
لم يحدث أمر جلل
ولم يكن يوحى إليّ
ولكن ابن بنته ارتحله ( ركب على ظهره )
وفي تعبيره : ارتحلني ما يفوق الوصف من الشفقة والرحمة بالصغير
ارتحلني : أي جعلني كالراحلة له !
لا إله إلا الله !
وسبحان الله !
أهذا سيد ولد آدم ؟!
أهذا الذي يأتيه خير السماء ؟!
أهذا أفضل الأنبياء والرسل الله فضلا عن غيرهم ؟!
أهذا قائد الأمـة ؟!
يكون ظهره مركبا لابن بنته ؟!
حتى استنبط بعض العلماء من فعل الصبي أنه لو لم يكن قد اعتاد على هذا في البيت لما تجرأ عليه أمام الناس !
وكان رسول الله يدلع لسانه للحسين فيرى الصبي حمرة لسانه فيهشّ إليه ، فقال له عيينة بن حصن بن بدر : ألا أرى تصنع هذا بهذا ؟! والله ليكون لي الابن قد خرج وجهه وما قبلته قط ! فقال رسول الله : من لا يرحم لا يرحم . رواه ابن حبان بهذا اللفظ .
وعلى هذا المنوال سار أصحابه الذين دانت له الأصقاع بينما لبسوا جلود الضأن
وهم في بيوتهم يُلاعبون أهليهم ويُداعبون صبيانهم ويهشّون لهم
وقال عمر بن الخطاب : ليعجبني الرجل أن يكون في أهل بيته كالصبي ، فإذا ابتغي منه وُجد رجلا . رواه البيهقي في شعب الإيمان .
وقال ثابت بن عبيد : كان زيد بن ثابت من أفكه الناس في أهله ، وأزمَته عند القوم .
قال الحكيم الترمذي : وكان السلف الصالح ينبسطون إلى أهاليهم وأولادهم وإخوانهم ، ويُظهرون النشاط في الأمور ، ويتفقدون من أنفسهم الوقوف عند الحدود كي لا يرتطموا في النهي .
وقال إبراهيم النخعي : يُعجبني أن يكون الرجل في أهله كالصبي ، فإذا بُغي منه وُجد رجلا .
يعني إذا طُولب بما لا يجوز في الحق وُجد صلبا في دينه .
تذكّرت هذه المعاني يوم أن أصرّ ابني الأصغر – الذي تجاوز عمره السنتين بقليل – أن ألعب معه !
فهو لا يرى الدنيا سوى أرجوحة وحلوى !
تركت ما كان بيدي وقمت معه
ذهبت معه إلى الأرجوحة
أصرّ على ركوبي معه !
رَكِبتُ !!
وتفكّرت كم بيني وبينه من مدى زمني ؟!
كم تفصل بيننا سنوات العمر ؟
ثم جال بخاطري كلمات كان يُرددها
فردّدتُ وردّد معي
هذا قمرٌ ... ما أحلاه
هذا نجم ... ما أبهاه
هذا بحر ... مَنْ سوّاه ؟
إنه الله القدير
إنه الله القدير
فكنت أقول له الكلمة الأولى ويقول الثانية !
فحفر هذا الموقف في ذهن طفلي مشهداً لا أظنه ينساه
أما إني ما كنت أعي ماذا بعد هذا المشهد
إلا لما سمعته مراراً يقول : ركبت في ( الملديحة ! ) وركب معي أبوي !
وقال ... وقلتُ ...
وكرر هذه الكلمات كثيراً !
علمت بعدها كم للتبسّط مع الأطفال من أثر
وكم لِلَعب الأب أو لجلوسه مع أطفاله من كبير القدر
يرون أنه قريب منهم
وأنه يُشاركهم أفراحهم وأحزانهم
قال أنس بن مالك : كان رسول الله أحسن الناس خُلقا ، وكان لي أخ يقال له : أبو عمير ، كان فطيما ، فكان إذا جاء رسول الله فرآه قال : أبا عمير ما فعل النغير ؟ قال : فكان يلعب به . رواه البخاري ومسلم .
كيف بك لو دخلت على عمر بن الخطاب فرأيته يمشي على يديه ورجليه يحمل صبيا له على ظهره ؟!
هل تخـيّلت هذا المشهد ؟!
إنه خليفة المسلمين
إنه أمير المؤمنين
إنه الذي قيل فيه :
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً = مِن بأسه وملوك الروم تخشاه
لكنه هكذا يكون في بيته !
يكون مع صبيانه كالصبي !
هذه بعض أخلاق أسلافنا ، وبعض جوانب التربية عندهم .. فلله درّهم .
كتبه
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم