بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فإن كتاب الله عز وجل هو حبله المتين، وصراطه المستقيم، وصفه الله عز وجل بأوصاف عظيمة فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا}. [النساء: 174]. وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ}. [المائدة: 15، 16]. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}. [يونس: 57]. وقال سبحانه وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}. [النحل: 89]. وقال جل وعلا: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}. [ص: 29]. وقال سبحانه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. [فصلت: 42]. وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - : (أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلّم -). وقد اعتنى علماء الإسلام - رحمهم الله تعالى - بكتاب الله عز وجل أيما عناية، ومن وجوه هذه العناية تفسير القرآن وبيان معانيه، واستنباط الأحكام والفوائد من آياته، على حسب ما آتاهم الله عز وجل من العلم والإيمان، والفهم والتقوى. ومن هؤلاء العلماء شيخنا العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته - فقد عقد المجالس لتفسير كتاب الله عز وجل، واستنباط الفوائد والأحكام منه، في حله وترحاله، ومن هذه المجالس اللقاء المسمى بلقاء الباب المفتوح، حيث منَّ الله عز وجل على فضيلته بإتمام تفسير جزء عم، وقدم بسورة الفاتحة، وقد عرضت على فضيلة شيخنا رحمه الله تعالى إخراج هذا التفسير فوافق على ذلك، ولكنه لم يتمكن من مراجعته بعد تفريغه من الأشرطة سوى سورة الفاتحة، ولا يخفى أن المنقول من الأشرطة ليس كالمحرر من حيث انتقاء الألفاظ، وتحرير العبارة، والبعد عن التكرار، وغير ذلك. وقد بيَّن الشيخ - رحمه الله - منهجه في تفسير هذا الجزء من القرآن فقال في ختام تفسير سورة (عبس): هذا الكلام الذي نتكلم به على هذه الآيات لا نريد به البسط ولكن نريد به التوضيح المقرب للمعنى. وقال رحمه الله: اخترنا هذا الجزء لأنه يقرأ كثيرًا في الصلوات، فيحسن أن يعرف معاني هذا الجزء، والقرآن أنزل لأمور ثلاثة: الأمر الأول: التعبد لله بتلاوته. والثاني: التدبر لمعانيه. والثالث: الاتعاظ به. قال الله تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29]. ولا يمكن لأحد أن يتذكر بالقرآن إلا إذا عرف المعنى؛ لأن الذي لا يعرف المعنى بمنزلة الذي لا يقرأ، كما قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [البقرة: 78]. أي: إلا قراءة، لهذا ينبغي للمسلم أن يحرص على معرفة معنى القرآن الكريم حتى ينتفع به، وحتى يكون متبعًا لاثار السلف، فإنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل. وقال رحمه الله: حري بطلبة العلم أن يحرصوا في كل مناسبة إذا اجتمعوا بالعامة أن يأتوا بآية من كتاب الله يفسرونها، لاسيما ما يكثر ترداده على العامة مثل الفاتحة، فإنك لو سألت عاميًّا بل الكثير من الناس عن معنى سورة الفاتحة لم يعرف شيئًا منها. وامتاز تفسير فضيلة الشيخ رحمه الله بوضوح العبارة، ودقة المعنى، وتفسير القرآن بالقرآن، والبعد عن التكلف، إضافة إلى الوعظ بالقرآن الكريم، وكفى به موعظة، فجمع رحمه الله تعالى في هذا التفسير بين بيان المعنى والوعظ بكتاب الله تعالى، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأعلى درجته في المهديين، وأسكنه فسيح جناته إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.