فهذا بحث حسن ربما غفل عنه الناس،وقد أودعه الشيخ عبد الرحمن بن حسن قائد حاشية تحقيقه النفيس جداً للمنتخب من كتاب المنثورات لابن طاهر المقدسي = فأحببتُ إفراده هنا؛لينتبه له أناس،وينتفع به آخرون..
قال وفقه الله :
((في وصف الحاكم بالرفض غلوٌّ وإسراف , والله يحبُّ الإنصاف , وسننظر في نسبته إلى التشيُّع , ونبسط القول فيها في مقاماتٍ أربعة :
الأول : من وصفه بذلك .
* اتهمه أبو إسماعيل الأنصاري ( ت : 481 ) بالرفض , كما في العبارة التي هنا , وسيأتي النظر فيها , وعلى خطاه سار تلميذه محمد بن طاهر ( ت : 507 ) فنعت الحاكم بالتعصُّب الشديد للشيعة في الباطن , مع التظاهر بالتسنُّن في التقديم والخلافة , والانحراف المعلن الغالي عن معاوية , وستأتي عبارته , وانظر كذلك :
« الأنساب المتفقة » ( 70 ) , وقال في « تذكرة الحفاظ » ( 146 ) : « كان يتَّهم بالتعصُّب للرافضة » , وتلـقَّف هذا عنه ابن الجوزي , فذكر عبارته في « العلل المتناهية » ( 1 / 233 ) .
* ووصفه بالتشيُّع فحسب , أو بالميل إليه , جماعةٌ من أهل العلم , منهم :
الخطيب البغدادي ( ت : 463 ) , وقال في « تاريخ بغداد » ( 5 / 473 ) :
« كان ابن البيِّع يميل إلى التشيُّع » .
وأبو سعد السمعاني ( ت : 562 ) , وقال في « الأنساب » ( 2 / 371 ) :
« وكان فيه تشيُّع » .
وابن الجوزي ( ت : 597 ) , وقال في « المنتظم » ( 8 / 269 ) : « كان متشيعًا ظاهر التشيُّع » .
وابن تيمية ( ت : 728 ) , وقال في « منهاج السنة » ( 7 / 373 ) : « منسوبٌ إلى التشيُّع » .
والذهبي ( ت : 748 ) في مصنفاته : « السير » ( 17 / 165 , 174 ) ,
و « التذكرة » ( 1045 ) , و « العبر » ( 3 / 91 ) , و « الميزان » ( 3 / 608 ) ,
و « المعجم المختص » ( 303 ) , وستأتي عباراته .
وابن كثير ( ت : 774 ) , وقال في « البداية والنهاية » ( 8 / 583 , 9 / 243 ) : « ينسبُ إلى شيءٍ من التشيُّع » , « كان فيه تشيُّع » .
وابن الجزري ( ت : 833 ) , وقال في « غاية النهاية » ( 2 / 185 ) : « كان شيعيًّا , مع حبه للشيخين ا » .
وابن الوزير ( ت : 840 ) , وقال في « الروض الباسم » ( 237 , 568 ) :
« فإنهم [ أي : أئمة الحديث ] مجمعون على أن أبا عبد الله الحاكم ابن البيِّـع من أئمة الحديث , مع معرفتهم أنه من الشيعة » .
الثاني : دلائل تشيُّعه .
1 – تصحيحُه لحديث الطير , وإدخاله إياه في كتابه : « المستدرك على الصحيحين » , وجمعه لطرقه , وهو أنه كان عندالنبي ^ طير , فقال : « اللهم ائتني بأحبِّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير , فجاء عليٌّ فأكل معه » .
قال الخطيب في « التاريخ » ( 5 / 435 ) : « وكان ابن البيِّـع يميلُ إلى التشيُّع ؛ فحدثني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الأرموي , بنيسابور , وكان شيخًا صالحًا فاضلًا عالمًا , قال : جمع الحاكمُ أبو عبد الله أحاديث زعم أنها صحاحٌ على شرط البخاري ومسلم , يلزمهما إخراجها في صحيحيهما , منها : حديث الطائر , و من كنت مولاه فعليٌّ مولاه , فأنكر عليه أصحاب الحديث ذلك , ولم يلتفتوا فيه إلى قوله , ولا صوَّبوه في فعله » .
وقال محمد بن طاهر : « ورأيت أنا حديث الطير ، جَـمْعَ الحاكم ، بخطِّه , في جزءٍ ضخمٍ , فكتبته للتعجُّب » . انظر : « السير » ( 17 / 176 ) .
وقد أخرجه في « المستدرك » ( 3 /130 , 131 ) من طريق يحيى بن سعيد عن أنس , ثم قال : « هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين , و لم يخرجاه . وقد رواه عن أنس جماعةٌ من أصحابه , زيادة على ثلاثين نفسًا , ثم صحَّت الروايةُ عن عليٍّ وأبي سعيد الخدري وسفينة » .
وقال أيضًا : « حديث الطائر لم يخـرَّج في الصحيح , وهو صحيح » . انظر :
« المنتظم » ( 4 / 320 ) .
وهو حديثٌ منكر , له طرقٌ كثيرةٌ لا يصحُّ منها شيء , قال الذهبي : « أقربُـها غرائبُ ضعيفة , وأردؤها طرقٌ مختلقةٌ مفتعلة , وغالـبُها طرقٌ واهية » , انظر جملةً منها في : « العلل المتناهية » ( 1 / 225 – 234 ) , و « البداية والنهاية » ( 11 / 75 –
83 ) و « لسان الميزان » ( 1 / 37 , 42 , 177 , 408 , 2 / 217 , 285 , 353 , 359 , 434 , 3 / 80 , 183 , 226 , 287 , 336 , 4 / 12 , 351 , 5 / 57 ,
192 , 6 / 140 , 7 / 118 ) .
قال العقيلي : « هذا الباب الروايةُ فيها لينٌ وضعف , لا نعلم فيه شيء ثابت , وهكذا قال محمد بن إسماعيل البخاري » , « الرواية فيه متقاربةٌ في الضعف » , « طرقُ هذا الحديث فيها لين » . « الضعفاء » ( 1 /46 , 2 / 318 , 4 / 188 ) .
وقال الخليلي : « ما روى حديث الطير ثقة , رواه الضعفاء مثل : إسماعيل بن سلمان الأزرق , وأشباهه ، ويردُّه جميعُ أئمة الحديث » . « الإرشاد » ( 420 ) .
وقال أبو ذر الهروي : « كنا في حلقة الحاكم أبي عبد الله بن البيِّع الحافظ بنيسابور إذا أخرج عن السُّدِّي في الصَّحيح نتغامزُ عليه , وذلك أنه روى حديثَ الطير , ولم يتابعه أحدٌ عليه , وكان [ أي : السُّدِّي ] يُنْسَبُ إلى التشيُّع » . « معجم السفر » للسِّلفي ( 239 ) .
وقال محمد بن طاهر في « اليواقيت » : « حديثُ الطائر موضوع , إنما يجيء عن سُقَّاط أهل الكوفة عن المشاهير والمجاهيل عن أنسٍ وغيره , ولا يخلو أمرُ الحاكم من أمرين : إمَّا الجهلُ بالصحيح , فلا يُعْتـَمد على قوله , وإمَّا العلمُ به , ويقول به , فيكون معاندًا كذابًا دسَّاسًا » . انظر : « العلل المتناهية » ( 1 / 233 , 234 ) ,
و « المنتظم » ( 4 /320 ) , و « النكت على كتاب ابن الصلاح » للزركشي ( 1 /220 ) .
و قال أيضًا : « كلُّ طرقه باطلةٌ معلولة » . انظر : « تذكرة الحفاظ » له 146 ) , و « العلل المتناهية » ( 1 / 233 ) .
وذكر الحافظ عبد القادر الـرُّهاوي في كتاب « المادح والممدوح » له : أن الدارقطنيَّ لمَّـا وقف على « مستدرك » الحاكم أنكره , وقال : يستدركُ عليهما حديث الطير ؟! فبلغ ذلك الحاكم , فضرب عليه من كتابه . انظر : « الفروسية » لابن القيم
( 276 ) , و « العلل المتناهية » ( 1 / 233 ) , و « النكت » للزركشي ( 1 / 223 ) .
وروى ابن طاهر هذه القصة , فقال : « سمعت أبا محمد بن السمرقندي يقول : بلغني أن مستدرك الحاكم ذُكِرَ بين يدي الدارقطني ... » . انظر : « السير » ( 17 / 176 ) , و « تاريخ الإسلام » ( 9 / 99 ) .
وقال ابن تيمية في « منهاج السنة » ( 7 / 371 ) : « حديثُ الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم و المعرفة بحقائـق النقل » .
واستنكر متنه أبو بكر بن أبي داود , وله فيه عبارةٌ رديئة . انظر : « الكامل » لابن عدي ( 4 / 266 ) , و « السير » ( 13 / 232 ) .
وقال الحاكم : « لو صحَّ لما كان أحدٌ أفضل من عليٍّ بعد النبي ^ » . انظر :
« السير » ( 17 / 168 ) .
فالعنايةُ بتصحيح مثل هذا الحديث الواهي , والاحتشاد له , وجمعُ طرقه , والتصنيفُ فيه , ومخالفةُ الناس في الحكم عليه , والتجلُّد بإدخاله في المستدرك على الصحيحين , مع اعتقاد أنه لو صحَّ لما كان أحدٌ أفضل من عليٍّ بعد رسول الله ^ ؛ ألا يدلُّ كلُّ أولئك على أن في النفس ميلًا إلى اعتقاد ما دلَّ عليه , وهوىً في تصديقه , ورغبةً جامحةً لتصحيح الخبر الوارد به ؟!
2- امتناعه عن التحديث بحديثٍ واحدٍ في فضل معاوية , وقد طُلِبَ إليه .
قال محمد بن طاهر : « كان منحرفًا غاليًا عن معاوية وأهل بيته , يتظاهرُ به ولا يعتذرُ منه . فسمعتُ أبا الفتح ابن سمكويه , بهراة ، سمعت عبد الواحد المليحي ، سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : دخلتُ على أبي عبد الله الحاكم وهو في داره ، لا يمكنه الخروجُ إلى المسجد من أصحاب أبي عبد الله بن كـرَّام , وذلك أنهم كسروا منبره ، ومنعوه من الخروج ، فقلت له : لو خرجتَ وأمليتَ في فضائل هذا الرجل
[ يعني : معاوية . انظر : « المنتظم » ( 4 / 320 ) , و « طبقات الشافعية » ( 4 / 163 ) ] حديثًا لاسترحتَ من المحنة , فقال : لا يجيءُ من قلبي ، لا يجيءُ من قلبي » .
أبو الفتح محمد بن أحمد بن عبد الله بن سمكويه , إمامٌ حافظٌ ثقة . انظر :
« السير » ( 19 / 16 ) . وعبد الواحد بن أحمد الـمَـلِيحي الهروي محدِّث هراة في وقته ومسندها , ثقةٌ صالح . انظر : « السير » ( 18 / 255 ) .
ويصدِّقُ هذا أنه لم يذكر معاوية في كتاب معرفة الصحابة من
« المستدرك » , ولا خرَّج فيه شيئًا من فضائله .
قال ابن تيمية : « هذا مع إن الحاكم منسوبٌ إلى التشيع , وقد طُلِبَ منه أن يروي حديثًا في فضل معاوية , فقال : ما يجيء من قلبي , ما يجيء من قلبي , وقد ضربوه على ذلك فلم يفعل , و هو يروي في الأربعين أحاديث ضعيفةً بل موضوعةً عند أئمة الحديث , كقوله بقتال الناكـثين , والقاسطين , والمارقين » . « منهاج السنة » ( 7 /
373 ) .
ولا يقال : إنه لم يجد حديثًا في فضل معاوية على شرط الصحيح , وقد روىٰ عن أبي العباس الأصم عن أبيه عن إسحاق بن راهويه قوله : « لا يصحُّ عن النبي ^ في فضل معاوية بن أبي سفيان شيء » , أخرجه من طريقه ابن الجوزي في « الموضوعات » ( 823 ) , وابن عساكر في « تاريخ دمشق » ( 59 /106 ) = لأنـَّـا بلوناه يتساهل في فضائل غيره , ويخرج الضعيف والموضوع , فما بال التشدُّد لا يأتي إلا في فضائل معاوية ؟!
3- قوله : « إن عليًّا وصيٌّ » . أي : أوصى النبيُّ ^ بالخلافة إليه من بعده .
قال الذهبي في ترجمته من « الميزان » ( 3 / 608 ) : « ومن شقاشقه قوله : ... , وقوله : إن عليًّا وصيٌّ » .
وقال ابن الجزري في « غاية النهاية » ( 2 / 185 ) : « ومما انتُـقِد عليه قوله : ... وقوله : إن عليًّا وصيٌّ » . ثم قال : « وأما قوله : إن عليًّا وصيٌّ , فهو من زلَّاته , فإنه لا يجهل أن هذا غير صحيح , لكنه كان شيعيًّا مع حبِّه للشيخين ا » .
والقول بذلك موطِّئٌ للقول بالإمامة , إن لم يكن إيَّاه , وهي أصل دين الشيعة .
4- إنشاده مرثـيَّـةً في مقتل الحسين , في خبرٍ رواه المزيُّ في
« تهذيب الكمال » ( 6 / 448 ) , وانظر : « البداية والنهاية » ( 9 / 243 ) . وله فيه تصنيفٌ مستقل , انظر : « المستدرك » ( 3 / 177 ) .
5- ترجمة الشيعة له في كتبهم . انظر : « أعيان الشيعة » للعاملي ( 9 /391 ) ,
و « قاموس الرجال » للتستري ( 9 / 386 ) , و « مستدركات علم رجال الحديث » للشاهرودي ( 7 / 170 ) .