في تاريخ الدعوة والإيمان والصبر على الأذى فيه أبطال وأفذاذ، وأناس ضربوا أروع المثل في حب الدين والتضحية من أجله.. وقد جمع هذا الطريق بين رجال ونساء أشهدوا الله على ما في قلوبهم، وأعلنوا لله بالوحدانية، وأقروا له بحق العبودية؛ فنالتهم أيدي المجرمين بالأذى والتنكيل، وجرت عليه آلة التعذيب ليردوهم عن دينهم ويصدوهم عن عقيدتهم، ولكنهم صبروا أمام صنوف العذاب، وشمخوا بالإيمان، وسموا بالعقيدة، وأثبتوا في كتاب التاريخ سطورا من نور أذهلت كل من اطلع عليها من موافق أو مخالف.
لقد ضم درب الصبر والثبات وطريق التضحيات رجالا أفذاذا أبطالا، راسخة عقيدتهم رسوخ الجبال، شامخة قلوبهم ونفوسهم شموخ عقيدتهم التي بين جنوبهم.. وقد ضم هذا الطريق إلى جانب الرجال نساء لم يكن حظهن من الإيمان والصبر والثبات والتضحية أقل من حظوظ الرجال، وحق لنا أن نفخر بهن، وأن نظهر بطولاتهن وجهادهن؛ ليتعلم منها أبناؤنا وبناتنا وليكون للمرأة المسلمة مثلا تحتذيه وأنموذجا تقتديه.. فلقد كانت لقريش صولة وانبساط بالأذى على من آمن من أولئك الضعفاء حتى لقد تجاوزوا به حد التعذيب والإيلام، إلى الافتنان في التمثيل، والتأنق في التنكيل (كما جاء في كتاب عودة الحجاب)، ومن أولئك اللواتي استعذبن العذاب (كما جاء في كتاب عودة الحجاب):
سمية بنت خُبَّاط: أم عمار بن ياسر، كانت سابعة سبعة في الإسلام، وكان بنو مخزوم إذا اشتدت الظهيرة، والتهبت الرمضاء، خرجوا بها هي وابنها وزوجها إلى الصحراء، وألبسوهم دروع الحديد، وأهالوا عليهم الرمال المتقدة، وأخذوا يرضخونهم بالحجارة، (وكان رسول الله يمر بعمار وأمه وأبيه وهم يعذبون بالأبطح في رَمْضاء مكة فيقول: [صبرًا آل ياسر، موعدكم الجنة].. حتى تفادى الرجلان ذلك العذاب المر بظاهرة من الكفر أجرياها على لسانهما، وقلباهما مطمئنان بالإيمان، وقد عذر الله أمثالهما بقوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}.. فأما المرأة فاعتصمت بالصبر، وقرت على العذاب، وأبت أن تعطي القوم ما سألوا من الكفر بعد الإيمان، فذهبوا بروحها، وأفظعوا قِتلتها، فقد أنفذ الشريف النذل أبو جهل بن هشام حربته فيها، فماتت ا، وكانت أول شهيدة في الإسلام.
قال ابن حجر: (وأخرج ابن سعد بسند صحيح عن مجاهد قال: أول شهيد في الإسلام سمية والدة عمار بن ياسر، وكانت عجوزًا كبيرة، ضعيفة،. ولما قُتل أبو جهل يوم بدر قال النبي لعمار: [قَتَل الله قاتِلَ أمك]. اهـ.
زنيرة الرومية: وغير سمية كثيرات احتملن فوق ما احتملت: فمنهن من كانوا يلقونها، ويحملون لها مكاوي الحديد، ثم يضعونها بين أعطاف جلدها، ويدعون الأطفال يعبثون بعينها حتى يذهب بصرها، وممن عُذب بهذا العذاب زنيرة جارية عمر بن الخطاب ، وكان هو (قبل إسلامه) وجماعة من قريش يتولون تعذيبها، ولما ذهب بصرها قال المشركون: "ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى"، فقالت لهم: "والله ما هو كذلك، وما تدري اللات والعزى من يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء، والله قادر على أن يرد عليَّ بصري"، قيل: "فرد عليها بصرها"، فقالت قريش: "هذا من سحر محمد" ، وقد اشتراها أبو بكر وأعتقها ". وفيها نزل قوله تعالى: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه}.. فقد ذكر أهل التفسير أنها لما دعت الله فرد عليها بصرها قال المشركون: لو كان في هذا الدين خير لما سبقتنا إليه زنيرة.. فأنزل الله الآية.
أم شريك: ومنهن من كانوا يسقونها العسل، ويوثقونها بالأغلال، ثم يلقونها بين الرمال، ولها حرٌّ يذيب اللحم، ويصهر العظم، حتى يقتلها الظمأ، وممن فعلوا بهن ذلك أم شريك غزيَّة بنت جابر بن حكيم.
قال ابن عباس ا: (وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة، فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرًّا، فتدعوهن، وترغبهن في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها، وقالوا لها: "لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا سنردك إليهم"، قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء موطأ ولا غيره، ثم تركوني ثلاثًا لا يطعموني، ولا يسقوني، فنزلوا منزلا، وكانوا إذا نزلوا وقفوني في الشمس واستظلوا، وحبسوا عني الطعام والشراب حتى يرتحلوا، فأوققوني يوما حتى ذهب عقلي أو كاد، فبينما أنا كذلك إذا بأثر شيء بارد وقع علي منه ثم عاد، فتناولته، فإذا هو دلو ماء، فشربت منه قليلا ثم نزع مني، ثم عاد فتناولته، فشربت منه قليلا، ثم رفع، ثم عاد أيضا، فصنع ذلك مرارا حتى رويت، ثم أفضت سائره على جسدي وثيابي، فلما استيقظوا إذا هم بأثر الماء، ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: انحللت فأخذتِ سقاءنا فشربت منه؟ فقلت: لا والله ما فعلت ذلك، كان من الأمر كذا وكذا، فقالوا: لئن كنت صادقة، فدينك خير من ديننا، فنظروا إِلى الأسقية فوجدوها كما تركوها، فأسلموا لساعتهم).
جارية بني مؤمل: وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - قبل أن يسلم- يتولى تعذيب جارية مسلمة لبني المؤمل، فلا يزال يضربها بالسياط، حتى إذا مَل قال لها: " إني أعتذر إليك أني لم أتركك إلا ملالة "، فتقول له: " كذلك فعل الله بك".
أم أيمن: وخرجت أم أيمن مهاجرة، وليس معها زاد ولا ماء، فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر، وكانت صائمة سمعت حسًّا على رأسها، فرفعته، فإذا دلو معلق، فشربت منه حتى رويت، وما عطشت بقية عمرها " (حلية الأولياء2/67).
أم كلثوم بنت عقبة وأمها: آمنت أم كلثوم بنت عقبة- وهو سيد من سادات قريش- دون رجال بيتها، وفارقت خدرها، ومستقر أمنها ودعتها، تحت جنح الليل، فريدة شريدة، تطوي بها قدماها ثنايا الجبال، وأغوار التهائم بين مكة والمدينة، إلى مفزع دينها، ودار هجرتها، إلى رسول الله ، ثم أعقبتها بعد ذلك أمها، فاتخذت سنتها، وهاجرت هجرتها، وتركت شباب أهل بيتها وكهولهم، وهم في ضلال يعمهون (الطبقات 8/167).
ذلك قليل من كثير مما يشهد للمرأة المسلمة باحتكام الدين في ذات نفسها، واستهانتها بالدم والروح في سبيله. فـلـو كان النسـاء كـما ذكــرنـا ... ... لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ... ولا الـتذكــير فخــر للهـلال.
فرضي الله عن هذه النفوس الزاكيات، وهذه الأرواح الطاهرات، ورضي الله عن صويحبات رسول الله كما رضي عن أصحابه الطيبين، وهدانا سبيلهم إلى أن نلقاهم في جنات النعيم.. آمين.