واعلمْ: أنَّ المقصودَ مِن العبدِ عبادةُ الله ومعرفتُه ومحبتُه والإنابةُ إليه على الدَّوام، وسلوكُ الطريق التي تُوصلُه إلى دارِ السلام، وأكثرُ الناس غَلب عليهم الحِسُّ ومَلكتهم الشهواتُ والعادات؛ فلم يرفعوا بهذا الأمرِ رأسًا، ولا جعلوه لبِنائهم أساسًا؛ بل أعرَضوا عنه اشتغالًا بِشَهواتِهم، وتَركوه عُكُوفًا على مُراداتِهم، ولم يَنتَهُوا لاستدراكِ ما فاتَهُم في أوقاتِهم، فهُم في جهلِهم وظُلمِهم حائِرون، وعن ذِكر ربِّهم غافِلون، ولمصالِح دينِهم مُضيِّعون، وفي سُكر عِشقِ المألوفاتِ هائِمون: ﴿ نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ﴾ [الحشر: 19].
ولم ينتبهْ مِن هذه الرقدةِ العظيمة، و المُصيبةِ الجسيمة، إلا القليلُ مِن العقلاء، والنادرُ مِن النبلاء؛ فعَلِموا أنَّ الخسارةَ كلَّ الخسارةِ الاشتغالُ بما لا يُجدي على صاحبِه إلا بالوَبال والحِرمان، ولا يُعوِّضُه مما يؤمِّل إلا الخُسـران؛ فآثَروا الكاملَ على الناقص، وباعُوا الفانيَ بالباقي، وتحمَّلوا تعبَ التكليفِ والعبادة، حتى صارتْ لهم لذةً وعادة، ثم صارُوا بعد ذلك سادة، فاسمعْ صِفاتِهم، واستعنْ باللهِ على الاتِّصاف بها :