بيت الـلـغـة العــربـيـة هنا لغة العقيدة، وسياج الشريعة، وهوية كل مسلم |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
17-05-15, 03:14 PM | المشاركة رقم: 1 | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
المنتدى :
بيت الـلـغـة العــربـيـة
لا يرفض التصوُّر الإسلامي للأدب غرضَ المديح ما دام ملتزمًا بضوابط شرعية معروفة، حدَّدها أهل العِلم والفقه، ولكن هذا الغرض كان من أكثر أغراض الشعر التي أصابها الانحرافُ العقَدي والفني؛ إذ مُدح في الشعر العربي فسَقَةٌ لئام، وعُملق سفلة أقزام، ودخل المديحَ الكذبُ والتملُّق والمبالغة والغلو؛ حتى بدا - بسبب من ذلك - في موطن شبهةٍ عند طائفة من أصحاب الأنَفة والكبرياء. ولذا ترفَّعت طائفةٌ من الشعراء العرب عن المديح، ولا سيما مديح التكسب؛ إذ عدُّوه منقصة للمروءة، يغتال شهامة الشاعر، ويذهب بماء وجهه، إنه متاجرة بالكلمة، وارتزاق بها، وذلك من شرِّ الارتزاق والكسب. وقد مثَّلت هذه الأنَفَةُ من شعر المديح، والترفعُ عنه وجهًا من وجوه التيار الإسلامي في نقدنا وأدبنا العربي القديم. دعا عِمران بن حطان - شاعرُ الخوارج - الفرزدقَ - وقد شاهده مرة ينشد مديحًا، والناس حوله مصطفُّون - أن يصُون نفسه عن طلب ما بأيدي الناس، وأن يسأل الله وحده، وألا يحمله الطمع في عطاء الممدوح على تزييف القِيَم، فيكذب ويَمِين، ويقول في الناس ما ليس فيهم: أيها المادح العباد ليُعطى إن للهِ ما بأيدي العبادِ فاسألِ اللهَ ما طلبتَ إليهم وارجُ فضلَ المقسم العوادِ لا تقُلْ في الجوَادِ ما ليس فيه وتُسمِّ البخيلَ باسم الجوادِ[1] وعقَد ابن رشيق في العمدة بابًا سماه "باب التكسُّب بالشعر والأنَفَة منه"، فذكر أن الترفُّع عن السؤال كان هو الغالبَ على الشُّعراء المتقدِّمين، قال: "وأما أكثر من تقدَّم فالغالب على طباعِهم الأنفةُ من السؤال بالشعر، وقلة التعرُّض به لما في أيدي الناس، إلا فيما لا يُزري بقدرٍ ولا مروءة؛ كالفلتة النادرة، والمهمَّة العظيمة..."[2]. وعبَّر شعراءُ كثيرون عن هذه الأنَفة، وبيَّنوا ما في السؤال من إسقاطٍ للمروءة، وتهجين للكرامة، قال عُبيد بن الأبرص: منْ يسألِ الناسَ يحرموه وسائلُ الله لا يخيبُ[3] وقال آخر: وإني امرؤٌ لا أسأل الناس مالهمْ بشِعري ولا تعيا عليَّ المكاسبُ[4] وعُرف عددٌ من شعراء الإسلام الذين ترفعوا عن المديح، وسَمَوْا بأنفسهم عن التكسُّب بالشعر، أو اتخاذ الكلمة متجرًا، ومن هؤلاء مثلاً جميل بن معمر العُذري، روي عنه: "أنه ما مدح أحدًا قط إلا ذويه وقرابته"[5]، وروي أنه صحب الوليد بن عبدالملك في بعض سفره، والوليد على نجيب، فرجز به ابن العذري فقال: يا بكرُ، هل تعلمُ مَن علاكا خليفةُ اللهِ على ذُرَاكا فقال الوليد لجميل: انزِلْ فارجز، وظنَّه يمدحه، فقال: أنا جميلٌ في السَّنام من مَعَدٍّ في الذِّروة العلياءِ والرُّكنِ الأشَدِّ وأخذ في مدح نفسه وقومه، فقال: اركَبْ، لا حملك الله[6] وممن أنِفوا من المديح كذلك عمر بن أبي ربيعة، والحارث بن خالد. قال أبو الفرج: والحارث بن خالد أحد شعراء قريش المعدودين الغزَليين، وكان يذهب مذهب عمر بن أبي ربيعة، لا يتجاوز الغزل إلى المديح ولا الهجاء.."[7]. وقال سليمان بن عبدالملك يومًا لعمر: "ما يمنعك من مدحنا؟ قال: إني لا أمدح الرجال، إنما أمدح النساء"[8]. وتشبَّه من المحدَثين بعمر بن أبي ربيعة العباسُ بن الأحنف؛ فإنه - كما يقول ابن رشيق - ممن أنف عن المدح تظرفًا، وقال فيه مصعب الزبيري: العباس عمر العراق، يريد أنه لأهل العراق كعمر بن أبي ربيعة لأهل الحجاز، استرسالاً في الكلام، وأنفة عن المدح والهجاء، واشتهر بذلك، فلم يكن يكلِّفه إياه أحدٌ من الملوك ولا الوزراء.."[9]. ومنهم يحيى بن نوفل الحِميري، لم يمدح أحدًا، قال يذكر بلال بن أبي بردة: فلو كنتُ ممتدحًا للنَّوال فتًى، لامتدحتُ بلالاً ولكنَّني لستُ ممن يريدُ بمدحِ الرِّجال الكرامِ السُّؤالاَ[10] وعُرف ذو الرمَّة بهذا الموقف الخُلقي، فتجافى عن المديح، قال السيوطي: "كان ذو الرمة مليحَ الشِّعر، يشبِّه فيُجيد ويُحسن، ولم يكن هجَّاءً ولا مدَّاحًا..."[11]. وكان من هؤلاء كذلك عليُّ بن الجهم، قال في المتوكِّل: وما الشِّعرُ مما أستظلُّ بظلِّه ولا زادني قدرًا ولا حطَّ من قدري ولكنَّ إحسانَ الخليفةِ جعفر دعاني إلى ما قلتُ فيه من الشِّعرِ فذكر - كما يقول ابن رشيق - "أنه لا يستظل بظل الشعر"؛ أي: لا يتكسَّب به، وأنه لم يزِدْه قدرًا؛ لأنه كان نابهَ الذكر قبل عمل الشعر، ثم قال: "ولا حطَّ من قدري"، فأحسَنَ الاعتذار لنفسه وللشعر، يقول: ليس الشِّعر ضَعةً في نفسه، ولا صنعته فيمن دون الخليفة، وما كفاه ذلك حتى جعل نفسه بإزاء الخليفة، بل مكافئًا له بشعره على إحسان بدأه الخليفة به، ولم يرضَ أن يجعلَ نفسه راغبًا ولا مجتديًا..."[12]. وخاطب شاعر عبدالله بن طاهر بن الحسين فعكس هذه الأنفة قائلاً: لساني وقلبي شاعرانِ كلاهما ولكن وجهي مُفْحَم غيرُ شاعرِ فلو كان وجهي شاعرًا كسب الغنى ولكن وجهي مثلُ وجهِ ابن طاهرِ فتًى يتقي أن يخدِش اللؤمُ عِرضَه ولا يتَّقي حدَّ السيوفِ البواترِ[13] وعُرِف بهذه الأنَفَة ابنُ خفاجة الأندلسي؛ فقد ترفَّع عن مديح الملوك، قال ابن بسام عنه: "كان مقيمًا بشرق الأندلس، ولم يتعرَّض لاستماحة ملوك طوائفها، مع تهافتِهم على أهل الأدب.."[14]. ومن عجبٍ أن نجد الحُطَيئة - الذي كان سُؤَلة ملحافًا - يعكس موقفًا خُلقيًّا؛ إذ أدرك أن وضاعة الغرض الشعري تحدر صاحبها عن منزلته الشعرية، وترفَع فوقه مَن هو دونه، سأله ابن عباس مرة: من أشعرُ الناس؟ قال: أمن الماضين أم من الباقين؟ قال: من الماضين، قال: الذي يقول: ومن يجعلِ المعروفَ من دون عِرضِه يفِرْه، ومَن لا يتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ وما بدونه الذي يقول: ولستَ بمستبقٍ أخًا لا تلُمُّه على شَعَثٍ، أيُّ الرِّجالِ المهذَّبُ؟ ثم قال عن النابغة: "ولكن الضراعة أفسدته كما أفسدت جرولاً - يعني نفسه - والله - يا بن عم رسول الله - لولا الطمعُ والجشع لكنتُ أشعرَ الماضين..."[15]. وهكذا وُجدت طائفة من الشعراء في الجاهلية والإسلام، تأنف من المديح، والتكسب بالشعر، وتتخذ من ذلك موقفًا خُلقيًّا؛ إذ ترى في ذلك انتقاصًا من قدر الشاعر، وتهوينًا من شأن الكلمة، وتسخيرًا للفن في أغراض غيرِ نبيلة، وهو مزلقة إلى الكذبِ والنفاق، وتزوير القِيَم، فكم حقير عظَّمه! وكم قزم نفجه وعملقه! وكان هذا المعيار الدِّيني الخُلقي أحدَ أسباب انحدار مكانة الشاعر وسقوط منزلته، قال ابن رشيق: "كان الشاعر في مبدأ الأمر أرفعَ منزلة من الخطيب؛ لشدة حاجتهم إلى الشعر في تخليد المآثر، وشدة العارضة، وحماية العشيرة... فلما تكسبوا به، وجعلوه طُعْمة، وتولوا به الأعراض وتناولوها، صارت الخطابةُ فوقه، وعلى هذا المنهاج حتى فشت فيهم الضراعة، وتطعموا أموال الناس، وجشُعُوا فخشعوا، واطمأنت بهم دار الذلة، إلا من وقَّر نفسه وقارها، وعرَف لها مقدارها، حتى قُبض نقي العِرْض، مصُون الوجه..."[16]. وقال المرزوقي في بيان تأخُّر رتبة الشعراء عن رتبة البلغاء، فذكر من ذلك: "أنهم اتخذوا من الشِّعر مكسبة وتجارة، وتوصلوا به إلى السوقِ كما توصلوا به إلى العِلْية، وتعرضوا لأعراض الناس، فوصفوا اللئيم عند الطمع بصفة الكريم، والكريم عند تأخر الصلة بصفة اللئيم، حتى قيل: الشعر أدنى مروءة السريِّ، وأسرى مروءة الدنيِّ..."[17]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ [1] الكامل: 744، الأغاني: 18/79. [2] العمدة: 1/82. [3] اختيار الممتع في علم الشعر: 1/297. [4] السابق نفسه. [5] العمدة: 1/83. [6] اختيار الممتع: 1/301. [7] الأغاني: 3/312. [8] الأغاني: 1/74. [9] العمدة: 1/84 [10] الكامل للمبرد (ط: الدالي)، 569. [11] شرح شواهد المغني: 1/23، الموشح: 228. [12] العمدة: 1/42. [13] اختيار الممتع: 1/301. [14] وفَيات الأعيان: 1/56. [15] الأغاني: 2/193، العمدة: 1/97. [16] العمدة: 1/83. [17] شرح ديوان الحماسة لأبي تمام: 1/97. د. وليد القصاب الموضوع الأصلي: شعراء يترفعون عن المديح / مقالٌ نَقْديّ || الكاتب: تألق || المصدر: شبكــة أنصــار آل محمــد
المصدر: شبكــة أنصــار آل محمــد auvhx djvtu,k uk hgl]dp L lrhgR kQrX]d~
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
(مشاهدة الكل) عدد الذين شاهدوا هذا الموضوع : 1 : | |
ALSHAMIKH |
|
|