يعتقد الإنسان أنه برع في استهلاك "التقنية"، وينسى أنها استهلكته وجعلت منه: كائنا هشّا سريع الانهيار، جانحا للعوالم الافتراضية، مجافيا لعالمه الواقعي.
إنها استهلكت شعوره الحقيقي تجاه الأقارب، وشغلته بشعور افتراضي تجاه الأباعد.. حتما سيُصدم حين يعلم أنها جعلته مخلوقا اتّكاليا، وأذهبت عنه جملةً من مهاراته الحياتية التي لا يسعه جهلها، كالمهارات الذهنية الإدراكية، والمهارات الجسدية الأساسية وخاصة اليدوية منها.. ولم تُـبق له سوى مهارات يسيرة مثل الضحك، وطلب النكتة، والشكوى، وتفريغ شحنات الغضب، والانتقام الكتابي ممن جبن عن مواجهتهم في الواقع، وتأليب جمهوره على من لا يريد، ولفت انتباه الافتراضيين واهتمامهم، وترك حبل التفكير للمخيال الذي يغذّيه بالمثاليات فحسب.. وكذا لم تُبق له من المهارات اليدوية إلا مهارة نقر الشاشة ومداعبتها برقة.. ولهذا تجده إذا طولب بعقد مقارنة بين كذا وكذا أو نوقش في مسألة تتطلب تركيزا وإدراكا= شُده وأصبح في صمته كطفل ودود، وإذا عطب شيء من أدواته وأجهزته المنزلية البسيطة، أو احتاج بناء شيء أو إصلاحه= أعلن عجزه ورقّته، واستنجد بالاختصاصيين ثم خضع لاستغلالهم!
إننا لم نستهلك تلك التقنية كما نظن، بل هي استهلكتنا.. قديما كان الإنسان يخلو بربه، ويصل رحمه ومن في محيطه، ويقرأ كتابه، ويتأمّل في الكون من حوله، ويصلح الأعطاب التي تواجهه، ويتريض، ويكتسب جسدا قويما، وينام في راحة غامرة. ولكن كثير منا فقد معظم هذه، وظن أن "الأجهزة الذكية" حلت محلها وفاقت، وأضحى مشغولا بها وهو يدرس أو يقود سيارته أو يجالس والديه وأصدقاءه. وليته شُغل بالجيد الذي فيها، ولكنه انغمس في الشائعات والمكرورات والأضحوكات والتوافه التي تزيده هشاشةً، حتى أصبحنا نبحث عمّن أجاد استغلال هذه التقنية واستطاع التملص من سطوتها واستنزافها وكأنه بات في حكم الكبريت الأحمر!
إن الذكاء يكمن في مداراة المرء لهذه التقنية، مع حرصه على استخراج آخر قطرة من إيجابياتها دون أن يتعرّض لسطوتها والتهامها.. الذكاء كامن في استهلاكنا لها واستنزافنا خيراتها، لا في استهلاكها لنا واستنزافها إيانا.