قد أوردَ الشيعة شبهةً أن عائشة ا كانت تُنادي بقتل عثمان.
فقد روى ابنُ أبي الحديد في شرحه لنَهج البلاغة أنَّها قالت: "اقتلوا نعثلاً؛ فقد كفَر" (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (4 / 458
ونعثل: رجلٌ يهودي كان يعيش بالمدينة، وقيل: نعثل معناه الشيخ الأحمق، وهو رجلٌ من أهل مصر كان يُشبِه عثمانَ (لسان العرب 11/ 670)
الجواب :
أولاً: أنَّ هذا القول كذبٌ، ويَكفي أنه من رواية سيف بن عمر، قال يحيى بن معين وابن أبي حاتم: ضعيفُ الحديث، وقال النَّسائي: كذَّاب، وقال ابن حبَّان: يَروي الموضوعاتِ عن الأثباتِ، وقالوا: إنه كان يضعُ الحديث، وقال الدارقطنيُّ: متروك الحديث، يشبه حديثُه حديث الواقدي، وقال أبو داود: ليس بشيء، وقال ابن عدي: عامةُ حديثه منكر (انظر "ميزان الاعتدال" (2/ 255)، و"المغني في الضعفاء" (1/ 392)، و"تهذيب التهذيب" (4/ 296)، و"الجرح والتعديل" (4/ 278) والروايات الأخرى التي يدَّعيها الشيعة، ويَنسبون إليها هذا القول، رواياتٌ باطلة أيضًا.
ففيها نصرُ بن مُزاحم: قال العقيليُّ: كان يَذهب إلى التشيُّع، وفي حديثِه اضطرابٌ وخطأٌ كثير، وقال الذهبي: رافضيٌّ جلَد، ترَكوه، وقال أبو خيثمة: كذَّاب، وقال أبو حاتم: واهي الحديث، متروكٌ، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال الجوزجانيُّ: كان نصرٌ زائغًا، عن الحقِّ مائلاً، وقال صالحُ بن محمد: نصرُ بن مُزاحِمٍ يروي عن الضعفاء أحاديثَ مناكير، وقال الحافظ محمد بن الحسين: نصرُ بن مزاحم غالٍ في مذهبه(انظر: "الضعفاء" للعقيلي (4/ 300)، و"ميزان الاعتدال" (4/ 253)، "تاريخ بغداد" (13/ 283)
ثانيًا: لا يُعرف أنَّ عائشة ا كان تسمِّي عثمان "نعثلاً"، وأما الذي سمَّاه بهذا جبَلة بن عمرو الساعديُّ كما ذكر ذلك الطبريُّ في تاريخه (تاريخ الطبري" (4/ 365)، وبقيَت هذه الكلمةُ مع الذين تآمروا عليه حتى قتَلوه ، وقد كانت عائشةُ ا في هذه الأوقات بمكةَ تؤدي مناسك الحج؛ مما يدل على كذب هذه الرواية عنها.
ثالثًا: موقف أم المؤمنين واضحٌ أشدَّ الوضوح.
فمعلومٌ أن عائشة ا أولُ من أنكر قتلَ عثمانَ كما ذكرَت مرويَّاتها ا.
وقد بيَّن ذلك أيضًا بجلاءٍ شيخُ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله في رده على ابن المطهر.
وأمَّا ما ذكَره أن القصة مذكورةٌ في كتب أهل السنة، فإنهم إنما يَذكرون الكتب التي لا تهتمُّ بجَرح ولا تعديل، وإنَّما شأنها سياقُ الروايات بالأسانيد أو بدونها؛ فمثلاً: ذُكرت القصَّة في "الكامل" لابن الأثير، ولم يَذكر لها إسنادًا، وذُكرت في "تاريخ الطبري" بإسناد فيه ثلاثةُ مجاهيلَ، ويقول في آخِر الإسناد: عمَّن أدرك مِن أهل العلم، فهذا مجهولُ العين أيضًا فكيف يدَّعي الشيعةُ أن هذا موجودٌ عند أهل السنة.
رابعًا: بل إنَّها ا حزِنَت على قلته أشدَّ الحزن.
(1) عن أبي خالد الوالبيِّ أن عائشة ا قالت: "استَنابوه حتى ترَكوه كالثوب الرَّخيص ثم قتَلوه" (رواه خليفةُ بن خياط في "تاريخه" (ص175)، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (495)، وإسناده حسن لغيره)
(2) عن عونِ بن عبد الله قالت عائشةُ ا: "غضبتُ لكم من السوط، ولا أغضب لعثمانَ من السيف، استعتبتموه حتى إذا تركتموه كالقلب المصفى قتلتموه "( رواه خليفة بن خياط في "تاريخه" (ص175)، وعنه ابن عساكر (494)، ورجاله ثقاتٌ غير أنه مرسَل (منقطعٌ بين عونِ بن عبيد الله وعائشة)، لكنه يتقوَّى بالإسناد السابق كما تقدم.)
(3) عن محمدِ بن سيرين قال: قالت عائشةُ ا: "مُصتم الرجل مَوص الإناء، ثم قتلتُموه"( رواه ابن سعد في "الطبقات" (3/ 82 - 83)، وخليفة في "تاريخه" (ص176)، وابن عساكر (495))
(4) وعن عبد الله بن شفيق، عن عائشة قالت: "مُصتُموه مَوص الإناء، ثم قتَلتموه"؛ يعني عثمان(رواه ابن سعد في "الطبقات" (3/ 28)، وإسناده حسن)
(5) عن مسروق، عن عائشةَ قالت حين قُتل عثمان: "ترَكتموه كالثوب النقيِّ من الدنس، ثم قربتموه تذبحونه كما يُذبح الشاة"! فقال لها مسروقٌ: هذا عملك، أنت كتبتِ إلى الناس تأمُرينهم بالخروج إليه، قالت عائشة: "لا، والذي آمن به المؤمنون، وكفَر به الكافرون، ما كتبتُ إليهم بسوداءَ في بيضاء حتى جلستُ مجلسي هذا".
قال الأعمش: فكانوا يرَون أنه كُتب على لسانها(رواه ابن سعد (3/ 82)، وخليفة في "تاريخه" (176)، وابن عساكر (496)، والإسناد صحيح)
وعنها أنه كانت تقولُ - أي: في مقتل عثمان -: "ليتَني كنت نسيًا منسيًّا، فأما الذي كان مِن شأن عثمان، فوالله ما أحببتُ أن يُنتهك من عثمان أمرٌ قط إلا انتُهك منِّي مثله، حتى لو أحببتُ قتله قُتلت"( مصنف عبد الرزاق (11/ 447)، والمتمنين لابن أبي الدنيا (1/ 69)، وفضائل الصحابة لأحمد (750)
ورَوى ابنُ أبي شيبة عن طَلقِ بن حسَّان قال: قلتُ لعائشة: فيم قُتل أمير المؤمنين عثمان؟ قالت: قُتل مظلومًا، لعَن الله مَن قتله(رواه الطبراني في الكبير (1/ 88)، وفي "مجابي الدعوة" لابن أبي الدنيا (54)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 116): رجاله رجال الصحيح، غير طلق، وهو ثقة.)
وعن سالم بن أبي الجعدِ قال: كنَّا مع أبي حنيفةَ في الشِّعب فسَمع رجلاً ينتقِص من عثمانَ وعندَه ابنُ عباس، فقال: يا ابن عباس، هل سمعتَ أمير المؤمنين عشيَّة سمع الضجَّة من قبيل المربد، فبعَث فلانَ بن فلان، فقال: اذهب فانظُر ما هذا الصَّوت؟ فجاء فقال: هذه عائشة تَلعن قتَلة عثمان والناسُ يؤمِّنون، قال عليٌّ: وأنا ألعن قتَلة عثمانَ في السهل والجبل"( رواه سعد بن منصور (2942)، وأحمد في فضائل الصحابة732)
خامسًا: نَقول للشيعة: ومتى كان يهمُّكم أمر عثمان حتى تعُدُّوا الطعنَ فيه منقصةً؟ ومتى كنتُم تَغضبون لعثمان؟ فعائشة وعثمان عندكم سواءُ تكفِّرونهما وتَلعنونهما، فما معنى كلامكم إلا الجدالُ العقيم؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: "إنَّ هذا المنقولَ عن عائشةَ في القدح في عثمان، إن كان صحيحًا، فإما أن يكون صوابًا، وإما أن يكون خطأً، فإن كان صوابًا لم يُذكَر في مساوئ عائشة، وإن كان خطأً لم يُذكر في مساوئ عثمان، والجمع بين نقص عائشة وعثمان باطل قطعًا"( منهاج السنة 4/ 335)
سادسًا: قال ابن تيميَّة: "هب أنَّ واحدًا من الصحابة - عائشةَ رضي الله عنها أو غيرَها - قال مثلَ ذلك الكلام على وجه الغضبِ؛ لإنكاره بعضَ ما يُنكَر، فليس قوله حجة، ولا يقدح ذلك في إيمان القائل، ولا المقول له، بل قد يكون كلاهما وليًّا لله تعالى من أهل الجنة، ويظنُّ أحدهما جواز قتل الآخر، بل يظنُّ كفره، وهو مخطئٌ في هذا الظن"( المصدر السابق 4/ 330)
سابعا: إن عائشة ا هي أحد رواة الحديث عن النبيَّ الذي قال في شأنِ عثمان: ((ألا أستَحي من رجل تستحي منه الملائكة)( مسلم (2401)، وأحمد (6/ 167)
فهذا هو موقفها الثابت عنها في حق ذي النورين ا.
عن حذيفة رضى الله عنه، أنه أخذ حجرين، فوضع أحدهما على الآخر، ثم قال لأصحابه:
هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟
قالوا: يا أبا عبد الله، ما نرى بينهما من النور إلا قليلا.
قال: والذي نفسي بيده، لتظهرن البدع حتى لا يُــرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور،والله، لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء،
قالوا: تُركت السنة !.
.
[البدع لابن وضاح ١٢٤]