اعتاد الناس في سورية أيام الصيف أن يخرجوا إلى الحدائق والمتنزهات، لا سيما يوم الجمعة، حيث المروج الخضراء، والظل الوارف، والماء العذب النقاح، خروجاً من ضيق المدينة وزحمة العيش؛ فترى الربوع المعشبة تعجُّ بالنساء والأطفال والشباب والشيوخ وكأنهم ينتظرون الجمعة إلى الجمعة والعطلة إلى العطلة. وربما تركوا المدينة قاصدين الأطراف والأرياف ليستنشقوا نقي الهواء وعبير الأزهار على ضفاف الأنهار وبين سوق الأشجار .. لكنهم اليوم في ربيعهم الممتد عبر الصيف الملتهب آثروا الربيع الدائم، والنعيم المستمر. إذا إن نظرتهم إلى الحياة تغيرت فأصبحوا ينظرون بعين الحقيقة في سراديب الظلام، فضَّلوا الربيع الحقيقي على الزائف.. آثروا أزيز الرصاص على تغريد البلابل، ووَصِيع العصافير، وحفيف الأشجار، وخرير المياه... يمطرهم وابل البارود، وتحُفُّهم (متاريس) الجيش عوض التلال المخضرة، واستبدلوا عيون الينابيع بفوهات المدافع...
صارت نزهتهم الأسبوعية (يوم الجمعة) بين الدبابات والمصفَّحات.. أعجبتهم فجعلوها نزهة يومية.. فبينما كانت تظلهم أغصان الأشجار؛ صار يظلهم الدخان والنار.. وبينما كانوا ينعمون بين قطرات الندى؛ صارت قطرات العرق تترقرق على جباههم.. وبينما كان يسيل لعابهم على ما لذ وطاب؛ صارت دماء أحرار سورية تسيل على الإسفلت..
خرجوا وهم يعلمون أنهم ربما لا يعودون، ولكنهم مع ذلك اختاروا الخروج رجاء عودتهم بنصر، أو مع ملائكة الرحمن.. خرجوا وألسنتهم تُنْشِد لحن الحرية، وتَنْشُد قلوبُهم نشوة الكرامة والإباء..
تدفقوا في الشوارع سيلاً هادراً.. مرعداً مزبداً.. حتى صارت الطرقات تعرف وقع أقدامهم، وترشدهم إلى طريق الربيع.. وأيقنوا أن الربيع مهما تأخر لا بد أن تشرق شمسه، ولا بد لأوراق الخريف الصفراء أن تتساقط؛؛ لأنهم حقاً عرفوا الطريق.