الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، وعلى آله وصحبه وأتباعه ومن سار على منهجه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ الله سبحانه وتعالى شرَّف بني آدَمَ بعبوديَّته، وكرَّمهم بطاعته، وفضَّلهم على كثيرٍ مِن خَلْقِه بأنْ صوَّرهم على أحسن الهيئات وأكملِها، قال تعالى: ﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ ٤﴾ [التين]
وقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ ٦ ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ ٧ فِيٓ أَيِّ صُورَةٖ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ ٨﴾ [الانفطار]، وقال ـ أيضًا ـ:
﴿وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا ٧٠﴾ [الإسراء].
وأمرهم بالمحافظة على هذه النعمة، ونهاهم عن التعدِّي على أنفسهم وأرواحهم فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٢٩﴾ [النساء]، وقال ـ أيضًا ـ: ﴿وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ﴾ [البقرة: ١٩٥]
فسبحان الذي خلق فسوَّى والذي قدَّر فهدى.
كما رتَّب الشرعُ عقوبةً جسيمةً على مَن يعتدي على نفسه قتلًا، فعن جندب بن عبد الله ؓ قال: قال رسول الله ﷺ:
«كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ»(١)، وجعل عذابَه يوم القيامة بما قَتَل به نَفْسَه
ففي حديث ثابت بن الضحَّاك ؓ أنَّ رسول الله ﷺ قال: «... وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ...»(٢) الحديث، وعن أبي هريرة ؓ أنَّ رسول الله ﷺ قال:
«مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ؛ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ؛ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا
وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ؛ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا»(٣).
وقد ترك النبيُّ ﷺ الصلاةَ على المنتحر عقوبةً له وزجرًا لغيره أن يفعل مِثْلَه، فعن جابر بن سَمُرَةَ ؓ قال: «أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ(٤) فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ»(٥).
هذا، ويزداد الأمرُ شناعةً أن يُقْدِمَ المسلمُ على قتلِ نفسه حرقًا، ومعلومٌ أنه لا يعذِّب بالنار إلَّا اللهُ تعالى، لقوله ﷺ: «... فَإِنَّهُ لاَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ»(٦).
كما شرع اللهُ لعبده مِن المناهج السويَّة ما يضمن حياتَه واستقامته ونجاحه، قال تعالى: ﴿أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٣٦﴾ [القيامة]، وقال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلۡخَلۡقِ غَٰفِلِينَ ١٧﴾ [المؤمنون]
فأمره بالحرص على ما ينفعه في معاشه ومعاده، والابتعادِ عمَّا يعود عليه بالضرر والأذى في غيرِ مرضاة الله، قال تعالى: ﴿فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ ١٥﴾ [الملك].
ونهاه سبحانه وتعالى عن اليأس والقنوط، وأخبر أنَّ ذلك مِن صفات أهل الضلال، فقال: ﴿وَلَا تَاْيَۡٔسُواْ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ لَا يَاْيَۡٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨٧﴾ [يوسف]
وقال تعالى: ﴿قَالَ وَمَن يَقۡنَطُ مِن رَّحۡمَةِ رَبِّهِۦٓ إِلَّا ٱلضَّآلُّونَ ٥٦﴾ [الحجر].
هذا، وإنَّ إدارة موقع الشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ تُنكر أشدَّ الإنكار على قوالب التدنِّي والانحطاط التي ابتدعتها الحضارةُ والمدنية المعاصرة مِن الانتحار بإزهاق النفس وتدمير الأجسام الحيَّة
بالإحراق كحلٍّ قاتلٍ وتعبيرٍ يائسٍ عن سخطهم على الأوضاع السياسية والاجتماعية، الأمر الذي سلكه ـ في الآونة الأخيرة ـ بعضُ أبناء جلدتنا في تقليدهم لهم بسببِ ما آلت إليه ظروفُهم المعيشية الصعبة
وانعكست سلبًا على نفسيَّاتهم المتدهوِرة، وما أعقب الحادثَ مِن تخريبٍ وتدميرٍ ونهبٍ وفسادٍ، ﴿وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ ٢٠٥﴾ [البقرة: ٢٠٥].
إنَّ التبعية العمياء للمدنية المعاصرة في هدم الأبدان وسفكِ الدماء وإزهاقِ الأرواح واتِّخاذ وسيلة الانتحار أسلوبَ إنكارٍ تنافي تعاليمَ ديننا الحنيف في عقيدته وأحكامه وأخلاقه، ولا مطمع في غايةٍ حسنةٍ وسيلتُها محرَّمةٌ
والمقاصد مهما عَظُمَ حسنُها لا تزكِّي الوسائلَ المحرَّمة بحالٍ، إذ تقرَّر في القواعد أنَّ «الغَايَة لَا تُبَرِّرُ الوَسِيلَةَ».
إنَّ تطبيع شباب أمَّتنا المسلمة بهذه الأخلاقيَّات المستورَدة البشعة لَتتفطَّرُ لها القلوبُ حسرةً، وتتصدَّع لها النفوس ألمًا، وبغضِّ النظر عمَّن يقف وراء هذه الأحداث ويغذِّي الشعوبَ الإسلامية بمثل هذه الأساليب المنكَرة
فإنَّ إدارة الموقع تذكِّر الجميعَ أنَّ واجب المسلم إن أُصيب بأمرٍ مِن غيرِ فعلِه فعليه بالصبر عليه، ولا يجزع منه ولا يقنط مِن رحمة الله تعالى، فينظر إلى القَدَرِ ولا يتحسَّر على الماضي
بل يعلم «أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ»(٧)، وعليه بالتقوى والصبر والاستغفار، فإنها مفاتيح الخير والبركة، قال تعالى: ﴿وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ ١٨٦﴾ [آل عمران]
وقال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٢ـ ٣]، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٩٠﴾ [يوسف]
وقال تعالى: ﴿فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ﴾ [غافر: ٥٥]، وكما ذكر أهل العلم فإنَّ واجب المسلم النظرُ إلى القَدَرِ عند المصائب والاستغفارُ عند المعايب.
هذا، والعبد مأمورٌ بفعل الأسباب وتركِ العجز مع الاستعانة بالله والتحلِّي بالصبر، فالأخذُ بالأسباب سيرٌ مع الشرع، وتركُ الأسباب مُنافٍ للأمر الشرعيِّ والحكمةِ ونقصٌ في العقل، قال ﷺ: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجَزْ»(٨).
كما نذكِّر بأنَّ المسلم ـ وإن وجب عليه طاعةُ ولاة الأمر في المعروف ـ فإنَّ الواجب على ولاة الأمر مِن جهةٍ أخرى أن يَسُوسُوا الأمَّةَ بالحقِّ المنزَّل، ويُنعشوها بالإسلام
ويُنقذوا أمَّتَهم من الظلم والإلحاد ونهبِ الثروات وتضييع الحقوق وغيرها مِن المخازي والمهالك، وينشروا العدلَ والأمن بما يقتضيه واجبُ التقوى، ويملأوا أوطانَهم عدلًا بعد أن امتلأت ظلمًا وجَوْرًا
فإنَّ سالكي المنهج الربَّانيِّ يرفعهم اللهُ مِن الحضيض ويمكِّنهم في الأرض ليكونوا سادةَ الدنيا وقادتَها وأساتذتها، قال تعالى: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥﴾ [النور].
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر: ١٣ صفـر ١٤٣٢ﻫ
الموافق ﻟ: ١٧ جانفي ٢٠١١م
---------------------------------------
(١) أخرجه البخاري في «أحاديث الأنبياء» باب ما ذُكر عن بني إسرائيل (٣٤٦٣)، من حديث جندب بن عبد الله ؓ.
(٢) أخرجه البخاري في «الأدب» باب ما يُنهى مِن السباب واللعن (٦٠٤٧)، ومسلم في «الإيمان» (١١٠)، من حديث ثابت بن الضحَّاك ؓ.
(٣) أخرجه البخاري في «الطبِّ» باب شرب السمِّ والدواء به وبما يُخاف منه والخبيث (٥٧٧٨)، ومسلم في «الإيمان» (١٠٩)؛ من حديث أبي هريرة ؓ.
(٤) جمع مِشْقَصٍ: نصل السهم [حديدته] إذا كان طويلاً غيرَ عريضٍ، فإذا كان عريضًا فهو المِعْبَلَة.
(٥) أخرجه مسلم في «الجنائز» (٩٧٨)، من حديث جابر بن سَمُرة ¶.
(٦) أخرجه أحمد (١٦٠٣٤)، وأبو داود في «الجهاد» باب كراهية حرق العدوِّ بالنار (٢٦٧٣)، عن حمزة بن عمرٍو الأسلميِّ ؓ، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (١٥٦٥).
(٧) جزءٌ مِن حديثٍ أخرجه الترمذي في «القدر» باب ما جاء في الإيمان بالقدر خيرِه وشرِّه (٢١٤٤)، من حديث جابر بن عبد الله ¶، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٢٤٣٩)
وصدرُه: «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ».
(٨) أخرجه مسلم في «القدر» (٢٦٦٤)، من حديث أبي هريرة ؓ.