السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلي وأُسلِّم على نبيِّه الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد :
لا يزال أهل السنة يختلفون فيما بينهم البين في مسائل عِدَّة لا يُحصيها إلَّا الله عزَّ وجلَّ، منذ زمن خير القرون. فلمَّا كان الأمر كذلك أحببتُ أن أذكر لإخواني أهل السنة نصائح ذكرها العلماء عند الاختلاف لا سيَّما بين أهل السنة.
أما الاختلاف بين أهل السنة وأهل البدع من معتزلة وأشاعرة ورافضة وجمعيَّات وسرورية وحدَّادية، فأمرُه آخر، فلا يختلط عليك الأمر. وفَّقني الله وإياك.
(النصيحة الأولى) : أن تجعل قَصْدك هو الوصول إلى الحقِّ، وإيّاك وإيّاك من الأغراض الشخصية.
قال ابن القيِّم في "الصواعق المرسلة" (ج 2 / ص 519) : ووقوع الاختلاف بين الناس أمرٌ ضروري لا بدَّ منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقُوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه، وإلَّا فإذا كان الاختلاف على وجهٍ لا يؤدِّي إلى التباين والتحزُّب، وكلٌّ من المختلفين قصدُه طاعة الله ورسوله لم يَضُرَّ ذلك الاختلاف فإنه أمرٌ لا بدَّ منه في النشأة الإنسانية .اهـ
وقال الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - في "المنتقى" السؤال رقم (207):
كثير من القضايا الفقهية التي تُطرح على الساحة، والتي تَمَسُّ واقع الناس يختلف حولها الكثير، وبالتالي تختلف الفتوى ووجهات النظر، فما تعليقكم على هذا ؟
الجواب: الاختلاف في آراء المُفْتين والعلماء أمرٌ لابدَّ منه؛ لأن الناس ليسوا على مستوًى واحد في العلم والمدارك، وكذلك الأدلة تختلف؛ فالاختلاف في استيعابها واقع، واختلاف في الحكم عليها بالصحة أو بعدم الصحة واقع أيضا والاختلاف في فهمها واقع
فهذا الاختلاف ليس بغريب ولا مذموم، إنما المحرَّم والذي لا يجوز إذا كان الاختلاف دافعُه الهوى والشهوة النفسية؛ لأن الإنسان كثيرًا ما يأخذ ما وافق هواه ورغبته، وهذا هو الاختلاف المذموم .اهـ
(النصيحة الثانية): إذا اختلف العلماء في مسألة، لا يُفْرَض أحد الأقوال على الآخرين. وإذا أجمعوا على مسألة فُرِضَ على الكلِّ.
قال أبو القاسم الأصبهاني في "الحُجَّة في بيان المحجَّة" (ج 2 / ص 557) - وهو يحكي ما حصل للصحابة في (صفِّين) - : وهم لنا جميعًا أئمة فإذا اجتمعوا على أمرٍ قُلْنا به، وإذا اختلفوا في أمرٍ لم يُفرض علينا القول به والعمل. وخُفنا أن لا نسلم من القول فيه، فأمسكنا القول به حتى يصحَّ لنا القول في ذلك .اهـ
(النصيحة الثالثة) : عند الاختلاف يُترك التعدِّي على الآخرين في الألفاظ والأفعال.
قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (ج 17 / ص 311-312): وهكذا مسائل النزاع التي تنازع فيها الأمة في الأصول والفروع إذا لم ترد إلى الله والرسول لم يتبين فيها الحق بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم فإن رحمهم الله أقر بعضهم بعضا ولم يبغ بعضهم على بعض كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد فيقر بعضهم بعضا ولا يعتدي عليه وإن لم يرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم فبغى بعضهم على بعض إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه " وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله . وهذه حال أهل البدع والظلم كالخوارج وأمثالهم يظلمون الأمة ويعتدون عليهم إذا نازعوهم في بعض مسائل الدين وكذلك سائر أهل الأهواء فإنهم يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها كما تفعل الرافضة والمعتزلة والجهمية وغيرهم والذين امتحنوا الناس بخلق القرآن كانوا من هؤلاء ؛ ابتدعوا بدعة وكفروا من خالفهم فيها واستحلوا منع حقه وعقوبته . فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث الله به الرسول إما عادلون وإما ظالمون فالعادل فيهم الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ولا يظلم غيره والظالم الذي يعتدي على غيره وهؤلاء ظالمون مع علمهم بأنهم يظلمون كما قال تعالى : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } وإلا فلو سلكوا ما علموه من العدل أقر بعضهم بعضا كالمقلدين لأئمة الفقه الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم الله ورسوله في تلك المسائل فجعلوا أئمتهم نوابا عن الرسول وقالوا هذه غاية ما قدرنا عليه فالعادل منهم لا يظلم الآخر ولا يعتدي عليه بقول ولا فعل مثل أن يدعي أن قول متبوعه هو الصحيح بلا حجة يبديها ويذم من يخالفه مع أنه معذور .اهـ
(النصيحة الرابعة): عدم التعصُّب لبعض العلماء دون بعض؛ ظنًّا أنه لا يقول إلَّا الحقَّ في كلِّ مسألة.
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص: 330): ولمَّا كثُرَ اختلافُ النَّاس في مسائل الدِّين ، وكثرَ تفرُّقُهم ، كثُر بسببِ ذلك تباغُضهم وتلاعُنهم ، وكلٌّ منهم يُظهِرُ أنَّه يُبغض لله ، وقد يكونُ في نفس الأمر معذوراً ، وقد لا يكون معذوراً ، بل يكون متَّبِعاً لهواه ، مقصِّراً في البحث عن معرفة ما يُبغِضُ عليه ، فإنَّ كثيراً من البُغض كذلك إنَّما يقعُ لمخالفة متبوع يظنُّ أنَّه لا يقولُ إلاَّ الحقَّ ، وهذا الظَّنُّ خطأٌ قطعاً، وإنْ أُريد أنَّه لا يقول إلاَّ الحقَّ فيما خُولِفَ فيه ، فهذا الظنُّ قد يُخطئ ويُصيبُ ، وقد يكون الحامل على الميلِ مجرَّد الهوى ، أو الإلفُ ، أو العادة ، وكلُّ هذا يقدح في أنْ يكون هذا البغضُ لله ، فالواجبُ على المؤمن أن ينصحَ نفسَه ، ويتحرَّزَ في هذا غاية التحرُّزِ ، وما أشكل منه ، فلا يُدخِلُ نفسَه فيه خشيةَ أن يقعَ فيما نُهِيَ عنه مِنَ البُغض المُحرَّمِ .
وهاهنا أمرٌ خفيٌّ ينبغي التَّفطُّن له ، وهو أنَّ كثيراً من أئمَّةِ الدِّينِ قد يقولُ قولاً مرجوحاً ويكون مجتهداً فيه ، مأجوراً على اجتهاده فيه ، موضوعاً عنه خطؤه فيهِ ، ولا يكونُ المنتصِرُ لمقالته تلك بمنْزلته في هذه الدَّرجة ؛ لأنَّه قد لا ينتصِرُ لهذا القولِ إلاَّ لكونِ متبوعه قد قاله ، بحيث أنَّه لو قاله غيرُه من أئمَّة الدِّينِ ، لما قبِلَهُ ولا انتصر له ، ولا والى من وافقه ، ولا عادى من خالفه ، وهو مع هذا يظن أنَّه إنَّما انتصر للحقِّ بمنْزلة متبوعه ، وليس كذلك ، فإنَّ متبوعه إنَّما كان قصدُه الانتصارَ للحقِّ ، وإنْ أخطأ في اجتهاده ، وأمَّا هذا التَّابعُ ، فقد شابَ انتصارَه لما يظنُّه الحقَّ إرادة علوِّ متبوعه ، وظهور كلمته ، وأنْ لا يُنسَبَ إلى الخطأ ، وهذه دسيسةٌ تَقْدَحُ في قصد الانتصار للحقِّ ، فافهم هذا ، فإنَّه فَهْمٌ عظيم ، والله يهدي مَنْ يشاء إلى صراطٍ مستقيم .اهـ
(النصيحة الخامسة) : الاختلاف بين أهل السنة لا يُذهب الأُخوَّة، ولا يُوجب الهجران.
روى ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (ج 51 / ص 302) قال يونس بن عبد الأعلى: ناظرتُ الشافعيَّ يومًا في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال لي: يا أبا موسى لا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة .اهـ
قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج 10 / ص 17) -بعد أن ذكر هذا الخبر-: قلت: هذا يدلُّ على كمال عقل هذا الإمام، وفقهِ نفسه، فما زال النظراء يختلفون .اهـ
(النصيحة السادسة): معرفة قدْر العلماء.
قال الخطيب في "تاريخ بغداد" (ج 6 / ص 348): قال الإمام أحمد: لم يَعْبُر الجسرَ إلى خراسان مثل إسحاق [يعني ابن راهويه]، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم تزل يخالف بعضهم بعضًا .اهـ
(النصيحة السابعة): الدعاء للمخالف، وعدم الاغترار بالنفس.
يُروى عن الشافعي أنه قال: ما ناظرتُ أحدًا إلَّا قلتُ: اللَّهمَّ أجرِ الحقَّ على قلبِهِ ولسانه، فإن كان الحقُّ معي اتَّبعني، وإذا كان الحقُّ معه اتَّبعتُه .اهـ
اللهم أَرِنا الحقَّ حقًّا وارزقْنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطلًا وارزقْنا اجتنابه.
كتبه :
أبو العبَّاس ياسين بن علي العدنيّ
13 جمادى الأولى 1433 هـ