بيت الكتاب والسنة خاص بتفسير القرآن وأحكامه وتجويده وأيضاً علم الحديث وشرحه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 26-03-12, 10:33 PM   المشاركة رقم: 16
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة الغاشية



‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ‏}‏ يجوز أن يكون الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحده وأمته تبعًا له، ويجوز أن يكون عامًا لكل من يتأتى خطابه، والاستفهام هنا للتشويق فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون للتعظيم لعظم هذا الحديث عن الغاشية‏.‏ ‏{‏حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ‏}‏ أي نبأها، و‏{‏الْغَاشِيَةِ‏}‏ هي الداهية العظيمة التي تغشى الناس، وهي يوم القيامة التي تحدث الله عنها في القرآن كثيرًا، ووصفها بأوصاف عظيمة مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏ ثم قسم الله سبحانه وتعالى الناس في هذا اليوم إلى قسمين فقال‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ‏}‏ ‏{‏خَاشِعَةٌ‏}‏ أي ذليلة كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 45‏]‏‏.‏ فمعنى خاشعة يعني ذليلة‏.‏ ‏{‏عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ‏}‏ عاملة عملًا يكون به النصب وهو التعب‏.‏ قال العلماء‏:‏ وذلك أنهم يكلفون يوم القيامة بجر السلاسل والأغلال، والخوض في نار جهنم، كما يخوض الرجل في الوحل، فهي عاملة تعبة من العمل الذي تكلف به يوم القيامة؛ لأنه عمل عذاب وعقاب، وليس المعنى كما قال بعضهم أن المراد بها‏:‏ الكفار الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وذلك لأن الله قيد هذا بقوله‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ‏}‏ أي يومئذ تأتي الغاشية، وهذا لا يكون إلا يوم القيامة‏.‏ إذن فهي عاملة ناصبة بما تكلف به من جر السلاسل والأغلال، والخوض في نار جهنم أعاذنا الله منها‏.‏ ‏{‏تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً‏}‏ أي تدخل في نار جهنم، والنار الحامية التي بلغت من حموها أنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا، يعني نار الدنيا كلها بما فيها من أشد ما يكون من حرارة نار جهنم أشد منها بتسعة وستين جزءًا، ويدلك على شدة حرارتها أن هذه الشمس حرارتها تصل إلينا مع بعد ما بيننا وبينها، ومع أنها تنفذ من خلال أجواء باردة غاية البرودة وتصل لنا هذه الحرارة التي تدرك ولاسيما في أيام الصيف، فالنار نار حامية، ولما بين مكانهم، وأنهم في نار جهنم الحامية، بين طعامهم وشرابهم فقال‏:‏ ‏{‏تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ‏}‏ ‏{‏تُسْقَى‏}‏ أي هذه الوجوه ‏{‏مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ‏}‏ أي شديدة الحرارة، هذا بالنسبة لشرابهم، ومع هذا لا يأتي هذا الشراب بكل سهولة، أو كلما عطشوا سقوا، وإنما يأتي كلما اشتد عطشهم واستغاثوا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏.‏ هذا الماء إذا قرب من وجوههم شواها وتساقط لحمها، وإذا دخل في أجوافهم قطعها، يقول عز وجل‏:‏ ‏{‏وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 15‏]‏‏.‏ إذن لا يستفيدون منه لا ظاهرًا ولا باطنًا، لا ظاهرًا بالبرودة ببرد الوجوه، ولا باطنًا بالري، ولكنهم - والعياذ بالله - يغاثون بهذا الماء ولهذا قال‏:‏ ‏{‏تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ‏}‏‏.‏ فإذا قال قائل‏:‏ كيف تكون هذه العين في نار جهنم والعادة أن الماء يطفىء النار‏؟‏ فالجواب‏:‏ أولًا‏:‏ أن أمور الاخرة لا تقاس بأمور الدنيا، لو أنها قيست بأمور الدنيا ما استطعنا أن نتصور كيف يكون، أليس الشمس تدنو يوم القيامة من رؤوس الناس على قدر ميل، والميل إما ميل المكحلة وهو نصف الإصبع أو ميل المسافة كيلو وثلث أو نحو ذلك، وحتى لو كان كذلك فإنه لو كانت الاخرة كالدنيا لشوت الناس شيًّا، لكن الاخرة لا تقاس بالدنيا‏.‏ أيضًا يحشر الناس يوم القيامة في مكان واحد، منهم من هو في ظلمة شديدة، ومنهم من هو في نور ‏{‏نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 8‏]‏‏.‏ يحشرون في مكان واحد ويعرقون منهم من يصل العرق إلى كعبه، ومنهم من يصل إلى ركبتيته، ومنهم من يصل إلى حِقويه، ومع ذلك هم في مكان واحد‏.‏ إذن أحوال الاخرة لا يجوز أن تقاس بأحوال الدنيا‏.‏ ثانيًا‏:‏ أن الله على كل شيء قدير‏.‏ ها نحن الان نجد أن الشجر الأخضر توقد منه النار كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 80‏]‏‏.‏ الشجر الأخضر رَطِب، ومع ذلك إذا ضرب بعضه ببعض، أو ضرب بالزند انقدح خرج منه نار حارة يابسة، وهو رطب بارد، فالله على كل شيء قدير، فهم يسقون من عين آنية في النار ولا يتنافى ذلك مع قدرة الله عز وجل‏.‏ أما طعامهم فقال‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ‏}‏ الضريع قالوا‏:‏ إنه شجر ذو شوك عظيم إذا يبس لا يرعاه ولا البهائم، وإن كان أخضر رعته الإبل ويسمى عندنا الشبرق‏.‏ فهم - والعياذ بالله - في نار جهنم ليس لهم طعام إلا من هذا الضريع، ولكن لا تظن أن الضريع الذي في نار جهنم كالضريع الذي في الدنيا فهو يختلف عنه اختلافًا عظيمًا، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لا يُسْمِنُ‏}‏ فلا ينفع الأبدان في ظاهرها ‏{‏وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ‏}‏ فلا ينفعها في باطنها فهو لا خير فيه ليس فيه إلا الشوك، والتجرع العظيم، والمرارة، والرائحة المنتنة التي لا يستفيدون منها شيئًا‏.‏

‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ‏}‏‏.‏

ثم ذكر الله عز وجل القسم الثاني من أقسام الناس في يوم الغاشية فقال‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ‏}‏ أي ناعمة بما أعطاها الله عز وجل من السرور والثواب الجزيل؛ لأنها علمت ذلك وهي في قبورها، فإن الإنسان في قبره ينعم، يفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها، فهي ناعمة ‏{‏لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ‏}‏ أي لعملها الذي عملته في الدنيا راضية لأنها وصلت به إلى هذا النعيم وهذا السرور وهذا الفرح، فهي راضية لسعيها بخلاف الوجوه الأولى فإنها غاضبة - والعياذ بالله - غير راضية على ما قدمت‏.‏ ‏{‏فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ‏}‏ الجنة هي دار النعيم التي أعدها الله عز وجل لأوليائه يوم القيامة، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 10، 11‏]‏‏.‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 71‏]‏‏.‏ فهم في ‏{‏جَنَّةٍ عَالِيَةٍ‏}‏ العلو ضد السفول فهي فوق السماوات السبع، ومن المعلوم أنه في يوم القيامة تزول السماوات السبع والأرضون ولا يبقى إلا الجنة والنار فهي عالية وأعلاها ووسطها الفردوس الذي فوقه عرش الرب جل وعلا‏.‏ ‏{‏لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً‏}‏ أي لا تسمع في هذه الجنة قولةً لاغية، أو نفسًا لاغية، بل كل ما فيها جد، كل ما فيها سلام، كل ما فيها تسبيح، وتحميد، وتهليل، وتكبير، يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، أي أنه لا يشق عليهم ولا يتأثرون به، فهم دائمًا في ذكر الله عز وجل، وتسبيح وأنس وسرور، يأتي بعضهم إلى بعض يزور بعضهم بعضًا في حبور لا نظير له‏.‏ ‏{‏فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ‏}‏ وهذه العين بين الله عز وجل أنها أنهار ‏{‏فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ‏{‏جَارِيَةٌ‏}‏ أي تجري حيث أراد أهلها لا تحتاج إلى حفر ساقية، ولا إقامة أخدود كما قال ابن القيم رحمه الله‏:‏ أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان ‏{‏فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ‏}‏ انظر للتقابل ‏{‏فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ‏}‏ عالية يجلسون عليها يتفكهون ‏{‏هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 56‏]‏‏.‏ ‏{‏وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ‏}‏ الأكواب جمع كوب وهو الكأس ونحوه ‏{‏مَّوْضُوعَةٌ‏}‏ يعني ليست مرفوعة عنهم، بل هي موضوعة لهم متى شاءوا شربوا فيها من هذه الأنهار الأربعة التي سبق ذكرها‏.‏ ‏{‏وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ‏}‏ النمارق جمع نمرقة وهي الوسادة أو ما يتكىء عليه‏.‏ ‏{‏مَصْفُوفَةٌ‏}‏ على أحسن وجه تلتذ العين بها قبل أن يلتذ البدن بالاتكاء إليها‏.‏ ‏{‏وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ‏}‏ الزرابي أعلى أنواع الفرش ‏{‏مَبْثُوثَةٌ‏}‏ منشورة في كل مكان، ولا تظن أن هذه النمارق، وهذه الأكواب، وهذه السرر، وهذه الزرابي لا تظن أنها تشبه ما في الدنيا؛ لأنها لو كانت تشبه ما في الدنيا لكنا نعلم نعيم الاخرة، ونعلم حقيقته لكنها لا تشبهه لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏ إنما الأسماء واحدة والحقائق مختلفة، ولهذا قال ابن عباس نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةا‏:‏ ‏(‏ليس في الاخرة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط‏)‏، فنحن لا نعلم حقيقة هذه النعم المذكورة في الجنة وإن كنا نشاهد ما يوافقها في الاسم في الدنيا لكنه فرق بين هذا وهذا‏.‏

‏{‏أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ‏}‏‏.‏

لما قرر الله عز وجل في هذه السورة حديث الغاشية وهي يوم القيامة، وبين أن الناس ينقسمون إلى قسمين‏:‏ وجوه خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارًا حامية، ووجوه ناعمة لسعيها راضية، وبين جزاء هؤلاء وهؤلاء، قال‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ‏}‏ وهذا الاستفهام للتوبيخ، أي إن الله يوبخ هؤلاء الذين أنكروا ما أخبر الله به عن يوم القيامة، وعن الثواب والعقاب، أنكر عليهم إعراضهم عن النظر في آيات الله تعالى التي بين أيديهم، وبدأ بالإبل؛ لأن أكثر ما يلابس الناس في ذلك الوقت الإبل، فهم يركبونها، ويحلبونها، ويأكلون لحمها، وينتفعون من أوبارها إلى غير ذلك من المنافع فقال‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ‏}‏ وهي الأباعر ‏{‏كَيْفَ خُلِقَتْ‏}‏ يعني كيف خلقها الله عز وجل، هذا الجسم الكبير المتحمل، تجد البعير تمشي مسافات طويلة لا يبلغها الإنسان إلا بشق الأنفس وهي متحملة، وتجد البعير أيضًا يحمل الأثقال وهو بارك ثم يقوم في حمله لا يحتاج إلى مساعدة، والعادة أن الحيوان لا يكاد يقوم إذا حُّمل وهو بارك لكن هذه الإبل أعطاها الله عز وجل قوة وقدرة من أجل مصلحة الإنسان، لأن الإنسان لا يمكن أن يحمل عليها وهي قائمة لعلوها، ولكن الله تعالى يسر لهم الحمل عليها وهي باركة ثم تقوم بحملها، وكما قال الله تعالى في سورة يس‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 73‏]‏‏.‏ منافعها كثيرة لا تحصى، وأهلها الذين يمارسونها أعلم منا بذلك، فلهذا قال‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ‏}‏ ولم يذكر سواها من الحيوان كالغنم والبقر والظبي وغيرها لأنها أعم الحيوانات نفعًا وأكثرها مصلحة للعباد‏.‏ ‏{‏وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ‏}‏ يعني وينظرون إلى السماء كيف رفعت بما فيها من النجوم، والشمس، والقمر وغير هذا من الآيات العظيمة التي لم يتبين كثير منها إلى الان، ولا نقول إن هذه الآيات السماوية هي كل الآيات، بل لعل هناك آيات كبيرة عظيمة لا ندركها حتى الان، وقوله‏:‏ ‏{‏كَيْفَ رُفِعَتْ‏}‏ أي رفعت هذا الارتفاع العظيم، ومع هذا فليس لها عمد مع أن العادة أن السقوف لا تكون إلا على عمد، لكن هذا السقف العظيم المحفوظ قام على غير عمد ‏{‏اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 2‏]‏‏.‏ ‏{‏وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ‏}‏ هذه الجبال العظيمة التي تحمل الصخور والقطع المتجاورات المتباينات، الجبال مكونة من أحجار كثيرة وأنواع كثيرة، فيها المعادن المتنوعة وهي متجاورة ومع ذلك تجد مثلًا هذا الخط في وسط الصخر تجده يشتمل على معادن لا توجد فيما قرب منه من هذا الصخر، ويعرف هذا علماء طبقات الأرض ‏(‏الجيولوجيا‏)‏ كيف نصب الله هذه الجبال العظيمة، ونصبها جل وعلا بهذا الارتفاع لتكون رواسي في الأرض لئلا تميد بالناس، لولا أن الله عز وجل خلق هذه الجبال لمادت الأرض بأهلها، لأن الأرض في وسط الماء، الماء محيط بها من كل جانب، وما ظنك بكرة تجعلها في وسط ماء سوف تتحرك وتضطرب، وتتدحرج أحيانًا، وتنقلب أحيانًا لكن الله جعل هذه الجبال رواسي تمسك الأرض كما تمسك الأطناب الخيمة، وهي راسية ثابتة على ما يحصل في الأرض من الأعاصير العظيمة التي تهدم البنايات التي بناها الادميون لكن هذه الجبال لا تتزحزح راسية ولو جاءت الأعاصير العظيمة، بل إن من فوائدها‏:‏ أنها تحجب الأعاصير العظيمة البالغة التي تنطلق من البحار، أو من غير البحار لئلا تعصف بالناس، وهذا شيء مشاهد تجد الذين في سفوح الجبال وتحتها في الأرض تجدهم في مأمن من أعاصير الرياح العظيمة التي تأتي من خلف الجبل، ففيها فوائد عظيمة، وهي رواسي لو أن الخلق اجتمعوا على أن يضعوا سلسلة مثل هذه السلسلة من الجبال ما استطاعوا إلى هذا سبيلًا مهما بلغت صنعتهم، وقوتهم، وقدرتهم، وطال أمدهم فإنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذه الجبال‏.‏ وقد قال بعض العلماء‏:‏ إن هذه الجبال راسية في الأرض بمقدار علوها في السماء، يعني أن الجبل له جرثومة وجذر في داخل الأرض في عمق يساوي ارتفاعه في السماء، وليس هذا ببعيد أن يُمكّن الله لهذا الجبل في الأرض حتى يكون بقدر ما هو في السماء لئلا تزعزعه الرياح فلهذا يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏ يقول عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ‏}‏ أي وانظروا كيف سطح الله هذه الأرض الواسعة، وجعلها سطحًا واسعًا ليتمكن الناس من العيش فيه بالزراعة والبناء وغير هذا، وما ظنكم لو كانت الأرض صببًا غير مسطحة يعني مثل الجبال يرقى لها ويصعد لكانت شاقة، ولما استقر الناس عليها، لكن الله عز وجل جعلها سطحًا ممهدًا للخلق، وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الأرض ليست كروية بل سطح ممتد لكن هذا الاستدلال فيه نظر، لأن هناك آيات تدل على أن الأرض كروية، والواقع شاهد بذلك فيقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 5‏]‏‏.‏ والتكوير التدوير، ومعلوم أن الليل والنهار يتعاقبان على الأرض، فإذا كانا مكورين لزم أن تكون الأرض مكورة، وقال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 1 - 4‏]‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ‏}‏ وقد جاء في الحديث أنها يوم القيامة تمد مد الأديم أي مد الجلد حتى لا يكون فيها جبال، ولا أودية، ولا أشجار، ولا بناء، يذرها الرب عز وجل قاعًا صفصفًا لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، فقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ‏}‏ والسماء لا تنشق إلا يوم القيامة وهي الان غير منشقة إذًا قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ‏}‏ يعني يوم القيامة فهي إذًا الان غير ممدودة، إذًا مكورة، والواقع المحسوس المتيقن الان أنها كروية لا شك، والدليل على هذا أنك لو سرت بخط مستقيم من هنا من المملكة متجهًا غربًا لأتيت من ناحية الشرق، تدور على الأرض ثم تأتي إلى النقطة التي انطلقت منها، وكذلك بالعكس لو سرت متجهًا نحو المشرق وجدتك راجعًا إلى النقطة التي قمت منها من نحو المغرب، إذًا فهي الان أمر لا شك فيه أنها كروية‏.‏ فإذا قال الإنسان‏:‏ إذا كانت كما ذكرت كروية فكيف تثبت المياه، مياه البحار عليها وهي كروية‏؟‏ نقول في الجواب عن ذلك‏:‏ الذي أمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه يمسك البحار أن تفيض على الناس فتغرقهم، والله على كل شيء قدير، قال بعض أهل العلم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ‏}‏ أي حبست ومنعت من أن تفيض على الناس كالشيء الذي يُسجر ‏(‏يربط‏)‏، وعلى كل حال القدرة الإلهية لا يمكن لنا أن نعارض فيها‏.‏ نقول قدرة الله عز وجل أمسكت هذه البحار أن تفيض على أهل الأرض فتغرقهم، وإن كانت الأرض كروية‏.‏ ثم قال عز وجل لما بين من آياته هذه الآيات الأربع‏:‏ الإبل، والسماء، والجبال، والأرض قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ‏{‏فَذَكِّرْ‏}‏ أمره الله أن يذكر ولم يخصص أحدًا بالتذكير، أي لم يقل ذكّر فلانًا وفلانًا فالتذكير عام، لأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بُعث إلى الناس كافة، ذكّر كل أحد في كل حال وفي كل مكان، فذكر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وذكّر خلفاؤه من بعده الذين خلفوه في أمته في العلم والعمل والدعوة، ولكن هذه الذكرى هل ينتفع بها كل الناس‏؟‏ الجواب‏:‏ لا، ‏{‏فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 55‏]‏‏.‏ أما غير المؤمن فإن الذكرى تقيم عليه الحجة لكن لا تنفعه، لا تنفع الذكرى إلا المؤمن، ونقول إذا رأيت قلبك لا يتذكر بالذكرى فاتهمه، لأن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ فإذا ذُكرت ولم تجد من قلبك تأثرًا وانتفاعًا فاتهم نفسك، واعلم أن فيك نقص إيمان، لأنه لو كان إيمانك كاملًا لانتفعت بالذكرى ، لأن الذكرى لابد أن تنفع المؤمنين‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ‏}‏ يعني أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - ليس إلا مذكرًا مبلغًا، وأماالهداية فبيد الله عز وجل، ‏{‏لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 272‏]‏‏.‏ وقد قام صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالذكرى والتذكير إلى آخر رمق من حياته حتى أنه في آخر حياته يقول‏:‏ ‏(‏الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم‏)‏، حتى جعل يغرغر بها - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكّر صلوات الله وسلامه عليه منذ بعث وقيل له ‏{‏قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 2‏]‏‏.‏ إلى أن توفاه الله، لم يأل جهدًا في التذكير في كل موقف، وفي كل زمان على ما أصابه من الأذى من قومه ومن غير قومه، والذي قرأ التاريخ - السيرة النبوية - يعرف ما جرى له من أهل مكة من قومه الذين هم أقرب الناس إليه، والذين كانوا يعرفونه، ويلقبونه بالأمين يلقبونه بذلك ويثقون به حتى حكّموه في وضع الحجر الأسود في الكعبة حينما هدموا الكعبة ووصلوا إلى حد الحجر قالوا من ينصب الحجر، فتنازعوا بينهم كل قبيلة تقول نحن الذين نتولى وضع الحجر في مكانه، حتى جاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحكموه فيما بينهم وأمر أن يوضع رداء وأن تمسك كل طائفة من هذه القبيلة أن يمسك كل واحد من هذه القبائل بطرف من هذا الرداء حتى يرفعوه، فإذا حاذوا محله أخذه هو بيده الكريمة ونصبه في مكانه، فكانوا يلقبونه بالأمين لكن لما أكرمه الله تعالى بالنبوة انقلبت المعايير، فصاروا يقولون إنه ساحر وكاهن وشاعر ومجنون وكذاب، ورموه بكل سب، فالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يذكّر وليس عليه إلا التذكير، ومن هنا نأخذ أن الهداية بيد الله، لا يمكن أن نهدي أقرب الناس إلينا ‏{‏إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏ فلا تجزع إذا ذكّرنا إنسانًا ووجدناه يعاند، أو يخاصم، أو يقول أنا أعمل ما شئت، أو ما أشبه ذلك‏.‏ قال الله تعالى لنبيه‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 3‏]‏‏.‏ لا تهلك نفسك إذا لم يؤمنوا، إيمانهم لهم وكفرهم ليس عليك ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ‏}‏ يعني ليس لك سلطة عليهم، ولا سيطرة عليهم، السلطة لله رب العالمين، أنت عليك البلاغ بلغ، والسلطان والسيطرة لله عز وجل‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ‏}‏ قال العلماء‏:‏ ‏{‏إلاَّ‏}‏ هنا بمعنى لكن يعني أن الاستثناء في الآية منقطع وليس بمتصل، والفرق بين المتصل والمنقطع أن المتصل يكون فيه المستثنى من جنس المستنثى منه، والمنقطع يكون أجنبيًّا منه، فمثلًا لو قلنا إنه متصل لصار معنى الآية ‏(‏لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فأنت عليهم مصيطر‏)‏ وليس الأمر كذلك بل المعنى‏:‏ لكن من تولى وكفر بعد أن ذكرته فيعذبه الله العذاب الأكبر‏.‏ فمن تولى وكفر بعد أن بلغه الوحي النازل على رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - فإنه سيعذب ‏{‏إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ‏}‏ التولي يعني الإعراض فلا يتجه للحق، ولا يقبل الحق، ولا يسمع الحق، حتى لو سمعه بأذنه لم يسمعه بقلبه كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 20، 21‏]‏‏.‏ أي لا ينقادون‏.‏ فهنا يقول عز وجل‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ‏}‏ ‏{‏تَوَلَّى‏}‏ أعرض، ‏{‏وَكَفَرَ‏}‏ أي استكبر ولم يقبل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏{‏فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ‏}‏ والعذاب الأكبر يوم القيامة وهنا قال ‏{‏الأَكْبَرَ‏}‏ ولم يذكر المفضل عليه يعني لم يقل الأكبر من كذا فهو قد بلغ الغاية في الكبر والمشقة والإهانة، وكل من تولى وكفر فإن الله يعذبه العذاب الأكبر‏.‏ وهناك عذاب أصغر في الدنيا قد يبتلى المتولي المعرض بأمراض في بدنه، في عقله، في أهله، في ماله، في مجتمعه، وكل هذا بالنسبة لعذاب النار عذاب أصغر، لكن العذاب الأكبر إنما يكون يوم القيامة ولهذا قال بعدها‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ‏}‏ أي مرجعهم، فالرجوع إلى الله مهما فر الإنسان فإنه راجع إلى ربه عز وجل لو طالت به الحياة راجع إلى الله، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 6‏]‏‏.‏ فاستعد يا أخي لهذه الملاقاة لأنك سوف تلاقي ربك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏(‏ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان - مباشرة بدون مترجم يكلمه الله يوم القيامة - فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه - يعني على اليسار - فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة‏)‏، كلنا سيخلو به ربه عز وجل يوم القيامة ويقرره بذنوبه، يقول‏:‏ فعلت كذا في يوم كذا، حتى يقر ويعترف، فإذا أقر واعترف قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم‏)‏، وكم من ذنوب سترها الله عز وجل، كم من ذنوب اقترفناها لم يعلم بها أحد ولكن الله تعالى علم بها، فموقفنا من هذه الذنوب أن نستغفر الله عز وجل، وأن نكثر من الأعمال الصالحة المكفرة للسيئات حتى نلقى الله عز وجل ونحن على ما يرضيه سبحانه وتعالى‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ‏}‏ نحاسبهم، قال العلماء‏:‏ وكيفية الحساب ليس مناقشة يناقش الإنسان، لأنه لو يناقش هلك، لو يناقشك الله عز وجل على كل حساب هلكت، لو ناقشك في نعمة من النعم كالبصر لا يمكن أن تجد أي شيء تعمله يقابل نعمة البصر، نعمة النفس، الذي يخرج ويدخل بدون أي مشقة، وبدون أي عناء، الإنسان يتكلم وينام، يأكل ويشرب، ومع ذلك لا يحس بالنفس، ولا يعرف قدر النفس إلا إذا أصيب بما يمنع النفس، حينئذ يذكر نعمة الله، لكن مادام في عافية يقول هذا شيء طبيعي، لكن لو أنه أصيب بكتم النفس لعرف قدر النعمة، فلو نوقش لهلك كما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لعائشة‏:‏ ‏(‏من نوقش الحساب هلك‏)‏ أو قال ‏"‏عذب‏"‏، لكن كيفية الحساب‏:‏ أما المؤمن فإن الله تعالى يخلو به بنفسه ليس عندهما أحد ويقرره بذنوبه فعلت كذا فعلت كذا، فعلت كذا حتى إذا أقر بها قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم‏)‏، أما الكفار فلا يحاسبون هذا الحساب لأنه ليس لهم حسنات تمحو سيئاتهم لكنها تحصى عليهم أعمالهم، ويقررون بها أمام العالم، ويحصون بها، وينادى على رؤوس الأشهاد ‏{‏هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 18‏]‏‏.‏ - نعوذ بالله من الخذلان - وبهذا ينتهي الكلام على هذه السورة العظيمة وهي إحدى السورتين اللتين كان النبي - صلى الله عليه وسلّم - يقرأ بهما في المجامع الكبيرة، فقد كان يقرأ في صلاتي العيدين ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى‏}‏ و‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ‏}‏ وكذلك في صلاة الجمعة، ويقرأ أحيانًا في العيدين ‏{‏ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ‏}‏ و‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ‏}‏، وفي الجمعة سورة الجمعة والمنافقين، ينوع مرة هذا، ومرة هذا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن تكون وجوههم ناعمة لسعيها راضية، وأن يتولانا بعنايته في الدنيا والاخرة، إنه على كل شيء قدير‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:35 PM   المشاركة رقم: 17
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة الفجر



‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ‏}‏‏.‏


البسملة‏:‏ تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ‏}‏ كل هذه إقسامات بالفجر، وليال عشر، والشفع والوتر، والليل إذا يسر، خمسة أشياء أقسم الله تعالى بها، الأول‏:‏ الفجر ‏{‏وَالْفَجْرِ‏}‏ هو النـور الساطـع الذي يكون في الأفق الشرقي قرب طلوع الشمس، وبينـه وبين طلوع الشمس ما بين ساعة واثنتين وثلاثين دقيقة، إلى ساعة وسبع عشرة دقيقة، ويختلف باختلاف الفصول، فأحيانًا تطول الحصـة مـا بين الفجر وطلوع الشمس، وأحيانًا تقصر حسب الفصول، والفجر فجران‏:‏ فجر صادق، وفجر كاذب، والمقصود بالفجر هنا الفجر الصادق، والفرق بين الفجر الصادق والكاذب من ثلاثة وجوه‏:‏ الوجه الأول‏:‏ الفجر الكاذب يكون مستطيلًا في السماء ليس عرضًا ولكنه طولًا، وأما الفجر الصادق يكون عرضًا يمتد من الشمال إلى الجنوب‏.‏ الفرق الثاني‏:‏ أن الفجر الصادق لا ظلمة بعده، بل يزداد الضياء حتى تطلع الشمس، وأما الفجر الكاذب فإنه يحدث بعده ظلمة بعد أن يكون هذا الضياء، ولهذا سمي كاذبًا؛ لأنه يضمحل ويزول‏.‏ الفرق الثالث‏:‏ أن الفجر الصادق متصل بالأفق، أما الفجر الكاذب فبينه وبين الأفق ظلمة، هذه ثلاثة فروق آفاقية حسية يعرفها الناس إذا كانوا في البر، أما في المدن فلا يعرفون ذلك، لأن الأنوار تحجب هذه العلامات‏.‏ وأقسم الله بالفجر لأنه ابتداء النهار، وهو انتقال من ظلمة دامسة إلى فجر ساطع، وأقسم الله به لأنه لا يقدر على الإتيان بهذا الفجر إلا الله عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلا تَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 71‏]‏ وأقسم الله بالفجر لأنه يترتب عليه أحكام شرعية، مثل‏:‏ إمساك الصائم، فإنه إذا طلع الفجر وجب على الصائم أن يمسك إذا كان صومه فرضًا أو نفلًا إذا أراد أن يتم صومه، ويترتب عليه أيضًا‏:‏ دخول وقت صلاة الفجر، وهما حكمان شرعيان عظيمان، أهمهما دخول وقت الصلاة، أي أنه يجب أن نراعي الفجر من أجل دخول وقت الصلاة أكثر مما نراعيه من أجل الإمساك في حالة الصوم، لأننا في الإمساك عن المفطرات في الصيام لو فرضنا أننا أخطأنا فإننا بنينا على أصل وهو بقاء الليل، لكن في الصلاة لو أخطأنا وصلينا قبل الفجر لم نكن بنينا على أصل، لأن الأصل بقاء الليل وعدم دخول وقت الصلاة، ولهذا لو أن الإنسان صلى الفجر قبل دخول وقت الصلاة بدقيقة واحدة فصلاته نفل ولا تبرأ بها ذمته، ومن ثَمَّ ندعوكم إلى ملاحظة هذه المسألة، أعني العناية بدخول وقت صلاة الفجر، لأن كثيرًا من المؤذنين يؤذنون قبل الفجر وهذا غلط، لأن الأذان قبل الوقت ليس بمشروع لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏(‏إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم‏)‏، ويكون حضور الصلاة إذا دخل وقتها، فلو أذن الإنسان قبل دخول وقت الصلاة فأذانه غير صحيح يجب عليه الإعادة، والعناية بدخول الفجر مهمة جدًا من أجل مراعاة وقت الصلاة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيَالٍ عَشْرٍ‏}‏ قيل المراد بـ‏{‏لَيَالٍ عَشْرٍ‏}‏ عشر ذي الحجة، وأطلق على الأيام ليالي، لأن اللغة العربية واسعة، قد تطلق الليالي ويراد بها الأيام، والأيام يراد بها الليالي، وقيل المراد بـ‏{‏لَيَالٍ عَشْرٍ‏}‏ ليال العشر الأخيرة من رمضان، أما على الأول الذين يقولون المراد بالليال العشر عشر ذي الحجة، فلأن عشر ذي الحجة أيام فاضلة قال فيها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏(‏ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر‏"‏ قالوا‏:‏ ولا الجهاد في سبيل الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء‏)‏‏.‏ وأما الذين قالوا‏:‏ إن المراد بالليال العشر هي ليال عشر رمضان الأخيرة، فقالوا‏:‏ إن الأصل في الليالي أنها الليالي وليست الأيام، وقالوا‏:‏ أن ليال العشر الأخيرة من رمضان فيها ليلة القدر التي قال الله عنها ‏{‏خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 3 ، 4‏]‏، وهذا القول أرجح من القول الأول، وإن كان القول الأول هو قول الجمهور، لكن اللفظ لا يسعف قول الجمهور، وإنما يرجح القول الثاني أنها الليالي العشر الأواخر من رمضان، وأقسم الله بها لشرفها، ولأن فيها ليلة القدر، ولأن المسلمين يختمون بها شهر رمضان الذي هو وقت فريضة من فرائض الإسلام وأركان الإسلام، فلذلك أقسم الله بهذه الليالي‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ‏}‏ قيل‏:‏ إن المراد به كل الخلق، فالخلق إما شفـع وإما وتر، والله عز وجل يقول‏:‏ ‏{‏وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ‏}‏‏.‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 49‏]‏ والعبادات إما شفع وإما وتر، فيكون المراد بالشفع والوتر كل ما كان مخلوقًا من شفع ووتر، وكل ما كان مشروعًا من شفع ووتر، وقيل‏:‏ المراد بالشفع الخلق كلهم، والمراد بالوتر الله عز وجل‏.‏ واعلم أن قوله والوتر فيها قراءتان صحيحتان ‏(‏والوِتر‏)‏ و‏(‏الوَتر‏)‏ يعني لو قلت ‏(‏والشفع والوِتر‏)‏ صح ولو قلت ‏(‏والشفع والوَتْر‏)‏ صح أيضًا، فقالوا إن الشفع هو الخلق؛ لأن المخلوقات كلها مكونة من شيئين ‏{‏وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ‏}‏ والوَتْر أو الوِتر هو الله لقول النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏إن الله وتر يحب الوتر‏)‏، وإذا كانت الآية تحتمل معنيين ولا منافاة بينهما فلتكن لكل المعاني التي تحتملها الآية، وهذه القاعدة في علم التفسير أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين وأحدهما لا ينافي الاخر فهي محمولة على المعنيين جميعًا‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ‏}‏ أقسم الله أيضًا بالليل إذا يسري، والسري هو السير في الليل، والليل يسير يبدأ بالمغرب وينتهي بطلوع الفجر فهو يمشي زمنًا لا يتوقف، فهو دائمًا في سريان، فأقسم الله به لما في ساعاته من العبادات كصلاة المغرب، والعشاء، وقيام الليل، والوتر وغير ذلك، ولأن في الليل مناسبة عظيمة وهي أن الله عز وجل ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الاخر فيقول‏:‏ ‏(‏من يسألني فأعطيه، من يدعوني فأستجيب له، من يستغفرني فأغفر له‏)‏ ولهذا نقول‏:‏ إن الثلث الآخر من الليل وقت إجابة، فينبغي أن ينتهز الإنسان هذه الفرصة فيقوم لله عز وجل يتهجد ويدعو الله سبحانه بما شاء من خير الدنيا والاخرة لعله يصادف ساعة إجابة ينتفع بها في دنياه وأخراه‏.‏ ‏{‏هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ‏}‏ لذي عقل، ‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ‏}‏ الخطاب هنا لكل من يوجه إليه هذا الكتاب العزيز وهم البشر كلهم بل والجن أيضًا ألم ترى أيها المخاطب ‏{‏كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ‏}‏ يعني ما الذي فعل بهم‏؟‏ وعاد قبيلة معروفة في جنوب الجزيرة العربية، أرسل الله تعالى إليهم هودًا - صلى الله عليه وآله وسلم - فبلغهم الرسالة ولكنهم عتوا وبغوا وقالوا من أشد منا قوة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏‏.‏ فهم افتخروا في قوتهم ولكن الله بين أنهم ضعفاء أمام قوة الله ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ‏}‏ وعبّر - والله أعلم - بقوله ‏{‏الَّذِي خَلَقَهُمْ‏}‏ ليبين ضعفهم وأنه جل وعلا أقوى منهم، لأن الخالق أقوى من المخلوق ‏{‏أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ‏}‏‏.‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏ والذي فعل الله بعاد أنه أرسل عليهم الريح العقيم سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسومًا، فترى القوى فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، وهذا الاستفهام الذي لفت الله فيه النظر إلى ما فعل بهؤلاء يراد به الاعتبار يعني اعتبر أيها المكذب للرسول محمد - صلى الله عليه وسلّم - بهؤلاء كيف أُذيقوا هذا العذاب، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 83‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِرَمَ‏}‏ هذه اسم للقبيلة، وقيل اسم للقرية، وقيل غير ذلك، فسواء كانت اسم للقبيلة أو اسم للقرية فإن الله تعالى نكل بهم نكالًا عظيمًا مع أنهم أقوياء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ‏}‏ يعني أصحاب ‏{‏الْعِمَادِ‏}‏ الأبنية القوية ‏{‏الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ‏}‏ أي لم يصنع مثلها في البلاد؛ لأنها قوية ومحكمة، وهذا هو الذي غرهم وقالوا‏:‏ مَن أشد منا قوة‏؟‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ‏}‏ مع أن الذي صنعها الادمي دليل على أن الادمي قد يوصف بالخلق فيقال خلق كذا، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المصورين ‏(‏يقال لهم أحيوا ما خلقتم‏)‏، لكن الخلق الذي ينسب للمخلوق ليس هو الخلق المنسوب إلى الله‏.‏ الخلق المنسوب إلى الله إيجاد بعد عدم وتحويل وتغيير، أما الخلق المنسوب لغير الله فهو مجرد تحويل وتغيير، وأضرب لكم مثلًا‏:‏ هذا الباب من خشب، الذي خلق الخشب الله، ولا يمكن للبشر أن يخلقوه، لكن البشر يستطيع أن يحول جذوع الخشب وأغصان الخشب إلى أبواب إلى كرسي وما أشبه ذلك، فالخلق المنسوب للمخلوق ليس هو الخلق المنسوب للخالق؛ لأن الخلق المنسوب للخالق إيجاد من عدم وهذا لا يستطيعه أحد، والمنسوب للمخلوق تغير وتحويل يحول الشيء من صفة إلى صفة، أما أن يغير الذوات بمعنى يجعل الذهب فضة، أو يجعل الفضة حديدًا، أو ما أشبه ذلك فهذا مستحيل لا يمكن إلا لله وحده لا شريك له‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ‏}‏ ثمود هم قوم صالح ومساكنهم معروفة الان كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 80‏]‏‏.‏ في سورة ‏(‏الر‏)‏ ذكر الله أن ثمود كانوا في بلاد الحجر وهي معروفة مر عليها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في طريقه إلى تبوك وأسرع وقنّع رأسه - صلى الله عليه وسلّم - وقال‏:‏ ‏(‏لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم‏)‏، هؤلاء القوم أعطاهم الله قوة حتى صاروا يخرقون الجبال والصخور العظيمة ويصنعون منها بيوتًا ولهذا قال‏:‏ ‏{‏جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ‏}‏ أي‏:‏ وادي ثمود، وهو معروف، هؤلاء أيضًا فعل الله بهم ما فعل من العذاب والنكال حيث قيل لهم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، ثم بعد الثلاثة الأيام أخذتهم الصيحة والرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، فعلينا أن نعتبر بحال هؤلاء المكذبين الذين صار مآلهم إلى الهلاك والدمار، وليُعلم أن هذه الأمة لن تُهلك بما أهلكت به الأمم السابقة بهذا العذاب العام، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سأل الله تعالى أن لا يهلكهم بسنة بعامة ولكن قد تهلك هذه الأمة بأن يجعل الله بأسهم بينهم، فتجري بينهم الحروب والمقاتلة، ويكون هلاك بعضهم على يد بعض، لا بشيء ينزل من السماء كما صنع الله تعالى بالأمم السابقة، ولهذا يجب علينا أن نحذر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن نبتعد عن كل ما يثير الناس بعضهم على بعض، وأن نلزم دائمًا الهدوء، وأن نبتعد عن القيل والقال وكثرة السؤال، فإ ذلك مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكم من كلمة واحدة صنعت ما تصنعه السيوف الباترة، فالواجب الحذر من الفتن، وأن نكون أمة متآلفة متحابة، يتطلب كل واحد منا العذر لأخيه إذا رأى منه ما يكره‏.‏ ‏{‏وَفِرْعَوْنَ‏}‏ فرعون هو الذي أرسل الله إليه موسى - صلى الله عليه وآله وسلم - وكان قد استذل بني إسرائيل في مصر، يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم، وقد اختلف العلماء في السبب الذي أدى به إلى هذه الفعلة القبيحة، لماذا يقتل الأبناء ويبقي النساء‏؟‏‏!‏ فقال بعض العلماء‏:‏ إن كهنته قالوا له إنه سيولد في بني إسرائيل رجل يكون هلاكك على يده فصار يقتل الأبناء ويستبقي النساء‏.‏ ومن العلماء من قال‏:‏ إنه فعل ذلك من أجل أن يضعف بني إسرائيل؛ لأن الأمة إذا قُتلت رجالها واستبقيت نسائها ذلت بلا شك، فالأول تعليل أهل الأثر، والثاني تعليل أهل النظر - أهل العقل - ولا يبعد أن يكون الأمران جميعًا قد صارا علة لهذا الفعل، ولكن بقدرة الله عز وجل أن هذا الرجل الذي كان هلاك فرعون على يده تربى في نفس بيت فرعون، فإن امرأة فرعون التقطته وربته في بيت فرعون، وفرعون استكبر في الأرض وعلا في الأرض وقال لقومه‏:‏ ‏(‏أنا ربكم الأعلى‏)‏ وقال لهم‏:‏ ‏(‏ما علمت لكم من إله غيري‏)‏ وقال لهم‏:‏ ‏(‏أم أنا خير من هذا الذي هو مهين‏)‏ يعني موسى ‏(‏ولا يكاد يبين‏)‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وقال لقومه مقررًا لهم‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 51‏]‏‏.‏ افتخر بالأنهار وهي المياه فأغرق بالماء‏.‏ ‏{‏ذِي الأَوْتَادِ‏}‏ أي ذي القوة، لأن جنوده كانوا له بمنزلة الوتد، والوتد تربط به حبال الخيمة فتستقر وتثبت، فله جنود أمم عظيمة ما بين ساحر وكاهن وغير ذلك لكن الله سبحانه فوق كل شيء‏.‏ ‏{‏الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ‏}‏ الطغيان مجاوزة الحد ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 11‏]‏‏.‏ أي لما زاد الماء حملناكم في الجارية يعني بذلك السفينة التي صنعها نوح - صلى الله عليه وآله وسلم - فمعنى ‏{‏طَغَوْا فِي الْبِلادِ‏}‏ أي‏:‏ زادوا عن حدهم واعتدوا على عباد الله‏.‏ ‏{‏فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ‏}‏ أي‏:‏ الفساد المعنوي، والفساد المعنوي يتبعه الفساد الحسي، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 96‏]‏‏.‏ ولهذا قال بعض العلماء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ لا تفسدوها بالمعاصي، وعلى هذا فيكون قوله ‏{‏فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ‏}‏ أي‏:‏ الفساد المعنوي، لكن الفساد المعنوي يتبعه الفساد الحسي، وكان فيما سبق من الأمم أن الله تعالى يدمر هؤلاء المكذبين عن آخرهم، لكن هذه الأمة رفع الله عنها هذا النوع من العقوبة وجعل عقوبتها أن يكون بأسهم بينهم، يدمر بعضهم بعضًا، وعلى هذا فما حصل من المسلمين من اقتتال بعضهم بعضًا، ومن تدمير بعضهم بعضًا إنما هو بسبب المعاصي والذنوب، يسلط الله بعضهم على بعض ويكون هذا عقوبة من الله سبحانه وتعالى، ‏{‏فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ‏}‏ الصب معروف أنه يكون من فوق، والعذاب الذي أتى هؤلا من فوق من عند الله عز وجل ‏{‏سَوْطَ عَذَابٍ‏}‏ السوط هو العصا الذي يضرب به، ومعلوم أن الضرب بالعصا نوع عذاب، لكن هل هذاالسوط الذي صبه الله تعالى على عاد، وثمود، وفرعون، هل هو العصا المعروف الذي نعرف، أو أنه عصا عذاب أهلكهم‏؟‏ الجواب‏:‏ الثاني عصا عذاب أهلكهم وأبادهم‏.‏ نسأل الله تعالى أن يجعل لنا فيما سبق من الأمم عبرة نتعظ بها وننتفع بها، ونكون طائعين لله عز وجل غير طاغين، إنه على كل شيء قدير‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ‏}‏ الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو لكل من يتوجه إليه الخطاب، يبين الله عز وجل أنه بالمرصاد لكل من طغى واعتدى وتكبر، فإنه له بالمرصاد سوف يعاقبه ويؤاخذه، وهذا المعنى له نظائر في القرآن الكريم منها قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وكقول شعيب لقومه‏:‏ ‏{‏وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 89‏]‏‏.‏ فسنة الله سبحانه وتعالى واحدة في المكذبين لرسله، المستكبرين عن عبادته هو لهم بالمرصاد، وهذه الآية تفيد التهديد والوعيد لمن حاول، أو لمن استكبر عن عبادة الله، أو كذب خبره‏.‏

‏{‏فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا‏}‏‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ‏}‏ الابتلاء من الله عز وجل يكون بالخير وبالشر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏‏.‏ فيُبتلى الإنسان بالخير ليبلوه الله عز وجل أيشكر أم يكفر، ويبتلى بالشر ليبلوه أيصبر أم يفجر، وأحوال الإنسان دائرة بين خير وشر، بين خير يلائمه ويسره، وبين شر لا يلائمه ولا يسره، وكله ابتلاء من الله، والإنسان بطبيعته الإنسانية المبنية على الظلم والجهل إذا ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه يقول ‏{‏رَبِّي أَكْرَمَنِ‏}‏ يعني أنني أهل للإكرام ولا يعترف بفضل الله عز وجل، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 78‏]‏‏.‏ لما ذكر بنعمة الله عليه قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي‏}‏ ولم يعترف بفضل الله، وما أكثر الناس الذين هذه حالهم إذا أكرمهم الله عز وجل ونعمهم، قالوا‏:‏ هذا إكرام من الله لنا؛ لأننا أهل لذلك، ولو أن الإنسان قال‏:‏ إن الله أكرمني بكذا اعترفًا بفضله وتحدثًا بنعمته لم يكن عليه في ذلك بأس، لكن إذا قال‏:‏ أكرمني، يعني أنني أهل للإكرام، كما يقول مثلًا كبير القوم إذا نزل ضيفًا على أحدهم قال‏:‏ أكرمني فلان؛ لأنني أهل لذلك‏.‏ ‏{‏وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ‏}‏ يعني ضيق عليه الرزق ‏{‏فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ‏}‏ يعني يقول إن الله تعالى ظلمني فأهانني ولم يرزقني كما رزق فلانًا، ولم يكرمني كما أكرم فلانًا، فصار عند الرخاء لا يشكر، يعجب بنفسه ويقول هذا حق لي، وعند الشدة لا يصبر بل يعترض على ربه ويقول ‏{‏رَبِّي أَهَانَنِ‏}‏ وهذا حال الإنسان باعتباره إنسانًا، أما المؤمن فليس كذلك، المؤمن إذا أكرمه الله ونعّمه شكر ربه على ذلك، ورأى أن هذا فضل من الله عز وجل وإحسان، وليس من باب الإكرام الذي يقدم لصاحبه على أنه مستحق، وإذا ابتلاه الله عز وجل وقدر عليه رزقه صبر واحتسب، وقال هذا بذنبي، والرب عز وجل لم يهني ولم يظلمني، فيكون صابرًا عند البلاء، شاكرًا عند الرخاء، وفي الايتين إشارة إلى أنه يجب على الإنسان أن يتبصر فيقول مثلًا‏:‏ لماذا أعطاني الله المال‏؟‏ ماذا يريد مني‏؟‏ يريد مني أن أشكر‏.‏ لماذا ابتلاني الله بالفقر، بالمرض وما أشبه ذلك‏؟‏ يريد مني أن أصبر‏.‏ فليكن محاسبًا لنفسه حتى لا يكون مثل حال الإنسان المبنية على الجهل والظلم ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ يعني لم يعطك ما أعطاك إكرامًا لك لأنك مستحق ولكنه تفضل منه، ولم يهنك حين قدر عليك رزقه، بل هذا مقتضى حكمته وعدله‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ‏}‏ يعني أنتم إذا أكرمكم الله عز وجل بالنعم لا تعطفون على المستحقين للإكرام وهم اليتامى، فاليتيم هنا اسم جنس، ليس المراد يتيمًا واحدًا بل جنس اليتامى، واليتيم قال العلماء‏:‏ هو الذي مات أبوه قبل بلوغه من ذكر أو أنثى، وأما من ماتت أمه فليس بيتيم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْيَتِيمَ‏}‏ يشمل الفقير من اليتامى، والغني من اليتامى لأنه ينبغي الإحسان إليه وإكرامه لأنه انكسر قلبه بفقد أبيه ومن يقوم بمصالحه، فأوصى الله تعالى به حتى يزول هذا الكسر الذي أصابه‏.‏ ‏{‏وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ‏}‏ يعني لا يحض بعضكم بعضًا على أن يطعم المسكين، وإذا كان لا يحض غيره فهو أيضًا لا يفعله بنفسه، فهو لا يطعم المسكين ولا يحض على طعام المسكين، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي لنا أن نكرم الأيتام، وأن يحض بعضنا بعضًا على إطعام المساكين؛ لأنهم في حاجة، والله تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه‏.‏ ‏{‏وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًّا‏}‏ ‏{‏التُّرَاثَ‏}‏ ما يورثه الله العبد من المال، سواء ورثه عن ميت، أو باع واشترى وكسب، أو خرج إلى البر وأتى بما يأتي به من عشب وحطب وغير ذلك، فالتراث ما يرثه الإنسان، أو ما يورثه الله الإنسان من المال فإن بني آدم يأكلونه أكلًا لما، وأما المال فقال‏:‏ ‏{‏وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا‏}‏ أي عظيمًا، وهذا هو طبيعة الإنسان، لكن الإيمان له مؤثراته قد يكون الإنسان بإيمانه لا يهتم بالمال وإن جاءه شكر الله عليه، وأدى ما يجب وإن ذهب لا يهتم به، لكن طبيعة الإنسان من حيث هو كما وصفه الله عز وجل في هاتين الايتين‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي‏}‏‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى‏}‏ يذكر الله سبحانه وتعالى الناس بيوم القيامة ‏{‏إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا‏}‏ حتى لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، تُدك الجبال، ولا بناء، ولا أشجار، تمد الأرض كمد الأديم، يكون الناس عليها في مكان واحد يُسمعهم الداعي وينفذهم البصر في هذا اليوم ‏{‏يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي‏}‏ ولكن قد فات الأوان، لأننا في الدنيا في مجال العمل في زمن المهلة يمكن للإنسان أن يكتسب لمستقره، كما قال مؤمن آل فرعون ‏{‏يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 39‏]‏‏.‏ متاع يتمتع به الإنسان كما يتمتع المسافر بمتاع السفر حتى ينتهي سفره، فهكذا الدنيا، واعتبر ما يستقبل بما مضى، كل ما مضى كأنه ساعة من نهار، كأننا الان مخلوقون، فكذلك ما يستقبل سوف يمر بنا سريعًا ويمضي جميعًا، وينتهي السفر إلى مكان آخر ليس مستقرًّا، إلى الأجداث إلى القبور ومع هذا فإنها ليست محل استقرار لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏ سمع أعرابي رجلًا يقرأ هذه الآية فقال‏:‏ ‏(‏والله ما الزائر بمقيم ولابد من مفارقة لهذا المكان‏)‏، وهذا استنباط قوي وفهم جيد يؤيده الآيات الكثيرة الصريحة في ذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏ وذكر الله سبحانه وتعالى ما يكون في هذا اليوم فقال‏:‏ ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏}‏ أي صفًّا بعد صف، ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ‏}‏ هذا المجيء هو مجيئه - عز وجل - لأن الفعل أسند إلى الله، وكل فعل يسند إلى الله فهو قائم به لا بغيره، هذه القاعدة في اللغة العربية، والقاعدة في أسماء الله وصفاته كل ما أسنده الله إلى نفسه فهو له نفسه لا لغيره، وعلى هذا فالذي يأتي هو الله عز وجل، وليس كما حرفه أهل التعطيل حيث قالوا إنه جاء أمر الله، فإن هذا إخراج للكلام عن ظاهره بلا دليل، فنحن من عقيدتنا أن نجري كلام الله تعالى، ورسوله - صلى الله عليه وسلّم - على ظاهره وأن لا نحرف فيه‏.‏ ونقول‏:‏ إن الله تعالى يجيء يوم القيامة هو نفسه، ولكن كيف هذا المجيء‏؟‏ هذا هو الذي لا علم لنا به لا ندري كيف يجيء‏؟‏ والسؤال عن مثل هذا بدعة كما قال الإمام مالك - رحمه الله - حين سُئل عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء - يعني العرق - لشدة هذا السؤال على قلبه، لأنه سؤال عظيم سؤال متنطع، سؤال متعنت أو مبتدع يريد السوء، ثم رفع رأسه وقال‏:‏ ‏(‏الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة‏)‏، الشاهد الكلمة الأخيرة - السؤال عنه بدعة - واعتبر هذا في جميع صفات الله فلو سألنا سائل قال‏:‏ إن الله يقول‏:‏ ‏{‏لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص 75‏]‏‏.‏ يعني آدم، كيف خلقه بيده‏؟‏ نقول‏:‏ هذا السؤال بدعة، قال‏:‏ أنا أريد العلم لا أحب أن يخفى علي شيء من صفات ربي فأريد أن أعلم كيف خلقه‏؟‏ نقول‏:‏ نحن نسألك أسئلة سهلة هل أنت أحرص على العلم من الصحابة نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة‏؟‏ إما أن يقول نعم، وإما أن يقول لا، والمتوقع أن يقول لا‏.‏ هل الذي وجهت إليه السؤال أعلم بكيفية صفات الله عز وجل أم الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم ـ‏؟‏ سيقول‏:‏ الرسول، إذًا الصحابة أحرص منك على العلم والمسؤول الذي يوجه إليه السؤال أعلم من الذي تسأله ومع ذلك ما سألوا؛ لأنهم يلتزمون الأدب مع الله عز وجل، ويقولون بقلوبهم وربما بألسنتهم إن الله أجل وأعظم من أن تحيط أفهامنا وعقولنا بكيفيات صفاته، والله عز وجل يقول في كتابه في الأمور المعقولة ‏{‏وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 110‏]‏‏.‏ وفي الأمور المحسوسة‏:‏ ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏‏.‏ فنقول‏:‏ يا أخي إلزم الأدب، لا تسأل كيف خلق الله آدم بيده‏؟‏ فإن هذا السؤال بدعة، وكذلك بقية الصفات لو سأل كيف عين الله عز وجل‏؟‏ قلنا له‏:‏ هذا بدعة، لو سأل كيف يد الله عز وجل قلنا‏:‏ هذا بدعة وعليك أن تلزم الأدب، وأن لا تسأل عن كيفية صفات الله عز وجل‏.‏ لما قال هنا في الآية الكريمة ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ‏}‏ وسأل كيف يجيء‏؟‏ نقول‏:‏ هذا بدعة - هذه القاعدة التزموها - وكل إنسان يسأل عن كيفية صفات الله فهو مبتدع متنطع، سائل عما لا يمكن الوصول إليه، فموقفنا من مثل هذه الآية ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ‏}‏ أن نؤمن بأن الله يجيء لكن على أي كيفية الله‏؟‏ الله أعلم‏.‏ والدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فنحن نعلم النفي ولا نعلم الإثبات، يعني نعلم أنه لا يمكن أن يأتي على كيفية إتيان البشر، ولكننا لا نثبت كيفيته وهذا هو الواجب علينا،










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:38 PM   المشاركة رقم: 18
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة البلد



‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَدًا أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏‏.‏

البسملة‏:‏ تقدم الحديث عليها‏.‏ ‏{‏لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ‏}‏ ‏{‏لا‏}‏ للاستفتاح، أي‏:‏ استفتاح الكلام وتوكيده، وليست نافية، لأن المراد إثبات القسم، يعني أنا أقسم بهذا البلد لكن ‏(‏لا‏)‏ هذه تأتي هنا للتنبيه والتأكيد و‏{‏أُقْسِمُ‏}‏ القسم تأكيد الشيء بذكر معظم على وجه مخصوص‏.‏ فكل شيء محلوف به لابد أن يكون معظمًا لدى الحالف، وقد لا يكون معظمًا في حد ذاته‏.‏ فمثلًا الذين يحلفون باللات والعزى هي معظمة عندهم، لكن هي في الواقع ليست عظيمة ولا معظمة‏.‏ فالحلف، أو القسم، أو اليمين المعنى واحد، هي تأكيد الشيء بذكر معظم عند الحالف على صفة مخصوصة‏.‏ وحروف القسم هي‏:‏ الباء، والواو، والتاء، والذي في الآية الكريمة هنا ‏{‏لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ‏}‏ ‏(‏الباء‏)‏‏.‏ ‏{‏بِهَذَا الْبَلَدِ‏}‏ البلد هنا مكة، وأقسم الله بها لشرفها وعظمها، فهي أعظم بقاع الأرض حرمة وأحب بقاع الأرض إلى الله عز وجل، ولهذا بعث منها رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - الذي هو سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه، فجدير بهذا البلد الأمين أن يقسم به‏.‏ ولكن نحن لا نقسم به، لأنه مخلوق، وليس لنا الحق أن نقسم بمخلوق‏.‏ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك‏)‏، أما الله عز وجل فإنه سبحانه يقسم بما شاء، ولهذا أقسم هنا بمكة ‏{‏لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ‏}‏ قيل المعنى‏:‏ أقسم بهذا البلد حال كونك حالًا فيه، لأن حلول النبي - صلى الله عليه وسلّم - في مكة يزيدها شرفًا إلى شرفها‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ وأنت تستحل هذا البلد، فيكون إقسام الله تعالى بمكة حال كونها حلًا للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك عام الفتح؛ لأن مكة عام الفتح أُحلت للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم تحل لأحد قبله، ولا تحل لأحد بعد ذلك، كما قال - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس‏)‏، فيكون إقسام الله تعالى بهذا البلد مقيدًا بما إذا كانت حلًا للرسول - صلى الله عليه وسلّم - عـام الفتـح؛ لأنهـا في ذلك اليـوم تزداد شرفًا إلى شرفها، حيث طُهِّرت من الأصنام وهزم المشركون، وفتحت عليهم بلادهم عنوة، وصارت هذه البلد بعد أن كانت بلد كفر صارت بلاد إيمان، وبعد أن كانت بـلاد شرك صـارت بلاد توحيد، وبعد أن كانت بلاد عناد صارت بلاد إسلام، فأشرف حال لمكة كانت عند الفتح‏.‏ ‏{‏وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ‏}‏ يعني وأقسم بالوالد وما ولد، فمن المراد بالوالد ومن المراد بالولد‏؟‏ قيل‏:‏ المراد بالوالد آدم، وبالولد بنو آدم وعلى هذا تكون ‏(‏ما‏)‏ بمعنى ‏(‏من‏)‏ أي‏:‏ ووالد ومن ولد، لأن ‏(‏من‏)‏ للعقلاء، و‏(‏ما‏)‏ لغير العقلاء‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالوالد وما ولد كل والد وما ولد، الإنسان والبهائم وكل شيء، لأن الوالد والمولود كلاهما من آيات الله عز وجل، كيف يخرج هذا المولود حيًّا سويًّا سميعًا بصيرًا من نطفة من ماء، فهذا دليل على كمال قدرة الله عز وجل، هذا الولد السوي يخرج من نطفة ‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 77‏]‏‏.‏ كذلك الحشرات وغيرها تخرج ضعيفة هزيلة، ثم تكبر إلى ما شاء الله تعالى من حد‏.‏ والصحيح أن هذه عامة تشمل كل والد وكل مولود ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ‏}‏ اللام هنا واقعة في جواب القسم، لتزيد الجملة تأكيدًا، و‏(‏قد‏)‏ تزيد الجملة تأكيدًا أيضًا فتكون جملة ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ‏}‏ مؤكدة بثلاثة مؤكدات، وهي‏:‏ القسم، واللام، وقد‏.‏ ‏{‏خَلَقْنَا الإِنسَانَ‏}‏ الإنسان اسم جنس يشمل كل واحد من بني آدم ‏{‏فِي كَبَدٍ‏}‏ فيها معنيان‏:‏ المعنى الأول‏:‏ في استقامة، يعني أنه خلق على أكمل وجه في الِخلقة، مستقيمًا يمشي على قدميه، ويرفع رأسه، وبدنه معتدلًا‏.‏ والبهائم بالعكس الرأس على حذاء الدبر، أما بنو آدم فالرأس مرتفع أعلى البدن، فهو كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏‏.‏ ‏[‏التين‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بـ‏{‏كَبَدٍ‏}‏ مكابدة الأشياء ومعاناتها، وأن الإنسان يعاني المشقة في أمور الدنيا، وفي طلب الرزق، وفي إصلاح الحرث وغير ذلك‏.‏ ويعاني أيضًا معاناة أشد مع نفسه ومجاهدتها على طاعة الله، واجتناب معاصي الله، وهذا الجهاد الذي هو أشق من معاناة طلب الرزق، ولاسيما إذا ابتلي الإنسان ببيئة منحرفة وصار بينهم غريبًا، فإنه سيجد المشقة في معاناة نفسه، وفي معاناة الناس أيضًا‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ أفلا يمكن أن تكون الآية شاملة للمعنيين‏؟‏ فالجواب‏:‏ بلى، وهكذا ينبغي إذا وجدت في الكتاب العزيز آية تحتمل معنيين وليس بينهما مناقضة فاحملها على المعنيين، لأن القرآن أشمل وأوسع، فإن كان بينهما مناقضة فانظر الراجح‏.‏ فمثلًا، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏‏.‏ ‏(‏قروء‏)‏ جمع قرء بفتح القاف فما هو ‏(‏القرء‏)‏‏؟‏ قيل‏:‏ هو الحيض، وقيل‏:‏ هو الطهر‏.‏ هنا لا يمكن أن تحمل الآية على المعنيين جميعًا للتناقض، لكن اطلب المرجح لأحد القولين وخذ به‏.‏ فهنا نقول‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ‏}‏ يصح أن تكون الآية شاملة للمعنيين أي في حسن قامة واستقامة، و‏{‏فِي كَبَدٍ‏}‏ في معاناة لمشاق الأمور‏.‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ‏}‏ أي‏:‏ أن الإنسان في نفسه وقوته يظن أن لن يقدر عليه أحد، لأنه في عنفوان شبابه وقوته وكبريائه وغطرسته، فيقول لا أحد يقدر علي، أنا أعمل ما شئت، ومنه قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً‏}‏‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏‏.‏ إذًا، فالإنسان في حال صحته وعنفوان شبابه يظن أنه لا يقدر عليه أحد، حتى الرب عز وجل يظن أنه لا يقدر عليه، وهذا لا شك بالنسبة للكافر، أما المؤمن فإنه يعلم أن الله قادر عليه، وأنه على كل شيء قدير فيخاف منه‏.‏ ‏{‏يَقُولُ‏}‏ أي يقول الإنسان أيضًا في حال غناه وبسط الرزق له ‏{‏أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَدًا‏}‏ أي‏:‏ مالًا كثيرًا في شهواته وفي ملذاته‏.‏ يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ‏}‏ أيظن هذا أنه لا يراه أحد في تبذيره المال، وصرفه في ما لا ينفع، وكل هذا تهديد للإنسان أن يتغطرس، وأن يستكبر من أجل قوته البدنية، أو كثرة ماله‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏‏.‏ هذه ثلاث نعم من أكبر النعم على الإنسان ‏{‏أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ‏}‏ يعني يبصر بهما ويرى فيهما، وهاتان العينان تؤديان إلى القلب ما نظر إليه الإنسان، فإن نظر نظرة محرمة كان آثمًا، وإن نظر نظرًا يقربه إلى الله كان غانمًا، وإذا نظر إلى ما يباح له فإنه لا يحمد ولا يذم ما لم يكن هذا النظر مفضيًا إلى محظور شرعي فيكون آثمًا بهذا النظر‏.‏ ‏{‏وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ‏}‏ لسانًا ينطق به، وشفتين يضبط بهما النطق، وهذه من نعم الله العظيمة، لأنه بهذا اللسان والشفتين يستطيع أن يعبر عما في نفسه، ولولا هذا ما استطاع، لو كان لا يتكلم فكيف يعبر عما ما في قلبه‏؟‏ كيف يعلم الناس بما في نفسه‏؟‏ اللهم إلا بإشارة تتعب، يتعب المشير ويتعب الذين أشير إليهم‏.‏ ولكن من نعمة الله أن جعل له لسانًا ناطقًا، وشفتين يضبط بهما النطق، وهذا من نعمة الله، وهو أيضًا من عجائب قدرته‏:‏ يأتي النطق من هواء يكون من الرئة يخرج من مخارج معينة، إن مر بشيء صار حرفًا، وإن مر بشيء آخر صار حرفًا آخر، وهو هواء واحد من مخرج واحد، لكن يمر بشعيرات دقيقة في الحلق، وفي الشفتين، وفي اللثة هذه الشعرات تكون الحروف‏.‏ فتجد مثلًا الباء والشين كلها بهواء يندفع من الرئة ومع ذلك تختلف باختلاف ما تمر عليه في هذا الفم، ومخارج الحروف المعروفة، هذا من تمام قدرة الله عز وجل‏.‏ ‏{‏وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏ قيل‏:‏ أي بينا له طريق الخير، وطريق الشر‏.‏ القول الثاني‏:‏ ‏{‏هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏ دللناه على ما به غذاؤه وهو الثديان؛ فإنهما نجدان لارتفاعهما فوق الصدر، فهداه الله تعالى وهو رضيع لا يعرف، فمن حين أن يخرج وتضعه أمه يطلب الثدي، والذي أعلمه الله عز وجل، فبين الله عز وجل منته على هذا الإنسان من حين أن يخرج يهتدي إلى النجدين‏.‏ وفي بطن أمه يتغذى عن طريق السرة؛ لأنه لا يستطيع أن يتغذى من غير هذا، فلو تغذى عن طريق الفم لاحتاج إلى بول وغائط، وكيف ذلك‏؟‏ لكنه عن طريق السرة يأتيه الدم من دم أمه وينتشر في عروقه حتى يحيا إلى أن يأذن الله تعالى بإخراجه‏.‏

‏{‏فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ‏}‏‏.‏

‏{‏فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ‏}‏ أي الإنسان الذي كان يقول ‏{‏أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَدًا‏}‏ ‏{‏فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ‏}‏ يعني هلا اقتحم العقبة‏؟‏ والاقتحام هو التجاوز بمشقة يسمى اقتحامًا‏.‏ و‏{‏الْعَقَبَةَ‏}‏ هي الطريق في الجبل الوعر ولا شك أن اقتحام هذه العقبة شاق على النفوس، لا يتجاوزه أو لا يقوم به إلا من كان عنده نية صادقة في تجاوز هذه العقبة‏.‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ‏}‏ هذا الاستفهام للتشويق والتفخيم أيضًا، يعني‏:‏ ما الذي أعلمك شأن هذه العقبة التي قال الله عنها ‏{‏فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ‏}‏ بينها الله في قوله ‏{‏فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ فقوله‏:‏ ‏{‏فَكُّ رَقَبَةٍ‏}‏ هي خبر لمبتدأ محذوف والتقدير‏:‏ ‏"‏هي فك رقبة‏"‏ وفك الرقبة له معنيان‏:‏ المعنى الأول‏:‏ فكها من الرق، بحيث يعتق الإنسان العبيد المملوكين سواء كانوا في ملكه فيعتقهم، أو كانوا في ملك غيره فيشتريهم ويعتقهم‏.‏ المعنى الثاني‏:‏ فك رقبة من الأسير، فإن فكاك الأسير من أفضل الأعمـال إلى الله عز وجل‏.‏ والأسير ربما لا يفكه العدو إلا بفدية مالية، وربما تكون هذه الفدية فدية باهظة كثيرة لا يقتحمها إلا من كان عنده إيمان بالله عز وجل بأن يخلف عليه ما أنفق، وأن يثيبه على ما تصدق‏.‏ ‏{‏أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ‏}‏ ‏{‏أَوْ‏}‏ هذه للتنويع يعني وإما ‏{‏إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ‏}‏ أي‏:‏ ذي مجاعة شديدة، لأن الناس قد يصابون بالمجاعة الشديدة، إما لقلة الحاصل من الثمار والزروع، وإما لأمراض في أجسامهم يأكل الإنسان ولا يشبع، وهذا قد وقع فيما نسمع عنه في البلاد النجدية وربما في غيرها أيضًا‏.‏ أن الناس يأكلون ولا يشبعون، يأكل الواحد مأكل العشرة ولا يشبع، ويموتون من الجوع في الأسواق ويتساقطون في الأسواق من الجوع، هذه من المساغب‏.‏ أو قلة المحصول بحيث لا تثمر الأشجار، ولا تنبت الزروع، فيقل الحاصل وتحصل المسغبة، ويموت الناس جوعًا، وربما يهاجرون عن بلادهم‏.‏ ‏{‏يَتِيمًا‏}‏ اليتيم هو من مات أبوه قبل أن يبلغ سواءً كان ذكرًا أم أنثى‏.‏ فإن بلغ فإنه لا يكون يتيمًا؛ لأنه بلغ وانفصل‏.‏ وكذلك لو ماتت أمه فإنه لا يكون يتيمًا، خلافًا لما يظنه بعض العامة، أن اليتيم من ماتت أمه وهذا ليس بصحيح، فاليتيم من مات أبوه؛ لأنه إذا مات أبوه لم يكن له كاسب من الخلق يكسب له‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذَا مَقْرَبَةٍ‏}‏ ذا قرابة من الإنسان لأنه إذا كان يتيمًا كان له حظ من الإكرام والصدقات، وإذا كان قريبًا ازداد حظه من ذلك؛ لأنه يكون واجب الصلة، فمن جمع هذين الوصفين اليتم والقرابة فإن الإنفاق عليه من اقتحام العقبة إذا كان ذلك في يوم ذي مسغبة‏.‏ ‏{‏أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ أو إطعام في يوم ذي مسغبة ‏{‏مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ‏}‏، المسكين‏:‏ هو الذي لا يجد قوته ولا قوت عياله‏.‏ المتربة‏:‏ مكان التراب، والمعنى‏:‏ أنه مسكين ليس بيديه شيء إلا التراب‏.‏ ومعلوم أنه إذا قيل عن الرجل‏:‏ ليس عنده إلا التراب، فالمعنى‏:‏ أنه فقير جدًا ليس عنده طعام، وليس عنده كساء، وليس عنده مال فهو مسكين ذو متربة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ‏}‏ ‏{‏ثُمَّ كَانَ‏}‏ يعني‏:‏ ثم هو بعد ذلك ليس محسنًا على اليتامى والمساكين فقط، بل هو ذو إيمان، آمن بكل ما يجب الإيمان به‏.‏ وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلّم - الذي يجب الإيمان به، فقال حين سأله جبريل عن الإيمان‏:‏ ‏(‏الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، والقدر خيره وشره‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏}‏ أي‏:‏ أوصى بعضهـم بعضًا بالصبر، والصبر ثلاثة أنواع‏:‏ صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، فهم صابرون متواصون بالصبر بهذه الأنواع‏:‏ الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عن معصية الله، ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة‏.‏ وقد اجتمعت هذه الأنواع الثلاثة، في الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم، فها هو الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - صابر على طاعة الله، يجاهد في سبيل الله، ويدعو إلى الله، ويؤذى ويعتدى عليه بالضرب، حتى هم المشركون بقتله وهو مع ذلك صابر محتسب، وهو أيضًا صابر عن معصية الله، لا يمكن أن يغدر بأحد، ولا أن يكذب أحدًا، ولا أن يخون أحدًا، وهو أيضًا متق لله تعالى بقدر ما يستطيع‏.‏ كذلك صابر على أقدار الله، كم أوذي في الله عز وجل من أجل طاعته، أليست قريش قد آذوه حتى إذا رأوه ساجدًا تحت الكعبة أمروا من يأتي بسلا ناقة فيضعه على ظهره، وهو ساجد - صلى الله عليه وآله وسلم ـ‏؟‏‏!‏ وهو صابر في ذلك كله‏.‏ ويوسف - صلى الله عليه وآله وسلم - صبر على أقدار الله فقد أُلقي في البئر في غيابة الجب، وأوذي في الله بالسجن، ومع ذلك فهو صابر محتسب لم يتضجر ولم ينكر ما وقع به‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ‏}‏ أي‏:‏ أوصى بعضهم بعضًا أن يرحم الاخر، ورحمة الإنسان للمخلوقات تكون في البهائم وتكون في الناطق‏.‏ فهو يرحم آباءَه، وأمهاته، وأبناءَه، وبناته، وإخوانه، وأخواته، وأعمامه، وعماته، وهكذا‏.‏ ويرحم كذلك سائر البشر، وهو أيضًا يرحم الحيوان البهيم فيرحم ناقته، وفرسه، وحماره، وبقرته، وشاته، وغير ذلك، وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء‏)‏‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ‏}‏ أي هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات ‏{‏أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ‏}‏ أي‏:‏ أصحاب اليمين، الذين يُؤتون كتابهم يوم القيامة بأيمانهم، فمن أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا وينقلب إلى أهله مسرورًا‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا‏}‏ أي‏:‏ جحدوا بها ‏{‏هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ‏}‏ ‏{‏هُمْ‏}‏‏:‏ الضمير هنا جاء للتوكيد، ولو قيل في غير القرآن‏:‏ والذين كفروا بآياتنا أصحاب المشئمة‏.‏ لصح لكن هذا من باب التوكيد‏.‏ ‏{‏الْمَشْأَمَةِ‏}‏ يعني‏:‏ الشمال أو الشؤم‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ‏}‏ أي عليهم نار مغلقة، لا يخرجون منها ولا يستطيعون، نسأل الله أن يجعلنا من الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة إنه سميع مجيب‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:39 PM   المشاركة رقم: 19
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة الشمس



‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا‏}‏ أقسم الله تعالى بالشمس وضحاها وهو ضؤها لما في ذلك من الآيات العظيمة الدالة على كمال قدرة الله سبحانه وتعالى، وكمال علمه ورحمته‏.‏ فإن في هذه الشمس من الآيات ما لا يدركه بعض الناس، فإذا طلعت الشمس فكم توفر على العالم من طاقة كهربائية‏؟‏ توفر آلاف الملايين، لأنهم يستغنون بها عن هذه الطاقة، وكم يحصل للأرض من حرارتها، من نضج الثمار، وطيب الأشجار، ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، ويحصل فيها فوائد كثيرة لا أستطيع أن أعدها؛ لأن غالبها يتعلق في علم الفلك وعلم الأرض والجيولوجيا لكنها من آيات الله العظيمة‏.‏ ‏{‏وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا‏}‏‏.‏ قيل‏:‏ إذا تلاها في السير‏.‏ وقيل‏:‏ إذا تلاها في الإضاءة، ومادامت الآية تحتمل هذا وهذا فإن القاعدة في علم التفسير أن الآية إذا احتملت معنيين لا تعارض بينهما وجب الأخذ بهما جميعًا، لأن الأخذ بالمعنيين جميعًا أوسع للمعنى‏.‏ فنقول‏:‏ إذا تلاها في السير؛ لأن القمر يتأخر كل يوم عن الشمس، فبينما تجده في أول الشهر قريبًا منها في المغرب، إذا هو في نصف الشهر أبعد ما يكون عنها في المشرق، لأنه يتأخر كل يوم‏.‏ أو إذا تلاها في الإضاءة، لأنها إذا غابت بدأ ضوء القمر لاسيما في الربع الثاني إلى نهاية الربع الثالث فإن ضوء القمر يكون بينًا واضحًا‏.‏ يعني‏:‏ إذا مضى سبعة أيام إلى أن يبقى سبعة أيام يكون الضوء قويًّا، وأما في السبعة الأولى والأخيرة فهو ضعيف، وعلى كل حال فإن إضاءة القمر لا تكون إلا بعد ذهاب ضوء الشمس كما هو ظاهر‏.‏ فأقسم الله تعالى بالشمس لأنها آية النهار، وبالقمر لأنه آية الليل‏.‏ ‏{‏وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا‏}‏ متقابلات، ‏{‏وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا‏}‏ إذا جلى الأرض وبينها ووضحها؛ لأنه نهار تتبين به الأشياء وتتضح ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا‏}‏ إذا يغطي الأرض حتى يكون كالعباءة المفروشة على شيء من الأشياء، وهذا يتضح جليًا فيما إذا غابت الشمس وأنت في الطائرة تجد أن الأرض سوداء تحتك، لأنك أنت الان تشاهد الشمس لارتفاعك، لكن الأرض التي تحتك حيث غربت عليها الشمس تجدها سوداء كأنها مغطاة بعباءة سوداء وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا‏}‏‏.‏

‏{‏وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ‏}‏ السماء والأرض متقابلات‏.‏ ‏{‏وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا‏}‏ قال المفسرون‏:‏ إن ‏{‏مَا‏}‏ هنا مصدرية أي‏:‏ والسماء وبنائها؛ لأن السماء عظيمة بارتفاعها وسعتها وقوتها، وغير ذلك مما هو من آيات الله فيها، وكذلك بناؤها بناء محكم، كما قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ‏}‏‏.‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏ ‏{‏وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا‏}‏ يعني‏:‏ الأرض وما سواها حتى كانت مستوية، وحتى كانت ليست لينة جدًا، وليست قوية صلبة جدًا، بل هي مناسبة للخلق على حسب ما تقوم به حوائجهم، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على عباده أن سوى لهم الأرض وجعلها بين اللين والخشونة إلا في مواضع لكن هذا القليل لا يحكم به على الكثير‏.‏ ‏{‏وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا‏}‏ نفس هنا وإن كانت واحدة لكن المراد العموم‏.‏ يعني كل نفس ‏{‏وَمَا سَوَّاهَا‏}‏ يعني سواها خِلقة وسواها فطرة، سواها خلقة حيث خلق كل شيء على الوجه الذي يناسبه ويناسب حاله‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ‏}‏ أي خلقه المناسب له ‏{‏ثُمَّ هَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏‏.‏ أي‏:‏ هداه لمصالحه، وكذلك سواه فطرة ولا سيما البشر فإن الله جعل فطرتهم هي الإخلاص والتوحيد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا‏}‏‏.‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏‏.‏ ‏{‏فَأَلْهَمَهَا‏}‏ أي الله عز وجل ألهم هذه النفوس ‏{‏فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ بدأ بالفجور قبل التقوى مع أن التقوى لا شك أفضل، قالوا‏:‏ مراعاة لفواصل الآيات‏.‏ ‏{‏فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ الفجور هو ما يقابل التقوى، والتقوى طاعة الله، فالفجور معصية الله، فكل عاص فهو فاجر‏.‏ وإن كان الفاجر خصَّ عرفًا بأنه من ليس بعفيف، لكن هو شرعًا يعم كل من خرج عن طاعة الله كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 7‏]‏‏.‏والمراد الكفار‏.‏ وألهامها تقواها هو الموافق للفطرة؛ لأن الفجور خارج عن الفطرة، لكن قد يلهمه الله بعض النفوس لانحرافها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏‏.‏ والله تعالى لا يظلم أحدًا، لكن من علم منه أنه لا يريد الحق أزاغ الله قلبه‏.‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا‏}‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ‏}‏ أي‏:‏ فاز بالمطلوب ونجا من المرهوب، ‏{‏مَن زَكَّاهَا‏}‏ أي‏:‏ من زكى نفسه، وليس المراد بالتزكية هنا التزكية المنهي عنها في قوله‏:‏ ‏{‏فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 32‏]‏‏.‏ المراد بالتزكية هنا‏:‏ أن يزكي نفسه بإخلاصها من الشرك وشوائب المعاصي، حتى تبقى زكية طاهرة نقية‏.‏ ‏{‏وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا‏}‏ أي من أرداها في المهالك والمعاصي، وهذا يحتاج إلى دعاء الله سبحانه وتعالى أن يثبت الإنسان على طاعته، وعلى القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة‏.‏ فعليك دائمًا أن تسأل الله الثبات والعلم النافع، والعمل الصالح فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ‏}‏‏.‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏‏.‏

‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا‏}‏‏.‏

‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا‏}‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ‏}‏ ثمود اسم قبيلة ونبيهم صالح - صلى الله عليه وآله وسلم - وديارهم في الحجر معروفة في طريق الناس، هؤلاء كذبوا نبيهم صالًحا‏.‏ ونبيهم صالح - صلى الله عليه وآله وسلم - كغيره من الأنبياء يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له‏.‏ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏‏.‏ دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأعطاه الله سبحانه آية تدل على نبوته وهي الناقة العظيمة التي تشرب من البئر يومًا وتسقيهم لبنًا في اليوم الثاني‏.‏ وقد قال بعض العلماء‏:‏ إنه كلما جاء إنسان وأعطاها من الماء بقدر أعطته من اللبن بقدره، ولكن الذي يظهر من القرآن خلاف ذلك‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 155‏]‏‏.‏ فالناقة تشرب من البئر يومًا، ثم تدر اللبن في اليوم الثاني، ولكن لم تنفعهم هذه الآية‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا‏}‏ أي بطغيانها وعتوها، والباء هنا للسببية، أي‏:‏ بسبب كونها طاغية كذبت الرسول‏.‏ ‏{‏إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا‏}‏ هذا بيان للطغيان الذي ذكره الله عز وجل وذلك حين انبعث أشقاها‏.‏ و‏{‏انبَعَثَ‏}‏ يعني‏:‏ انطلق بسرعة‏.‏ ‏{‏أَشْقَاهَا‏}‏ أي أشقى ثمود أي‏:‏ أعلاهم في الشقاء - والعياذ بالله - يريد أن يقضي على هذه الناقة‏.‏ فقال لهم صالح‏:‏ ‏{‏نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا‏}‏ أي ذروا ناقة الله، لقوله تعالى في آية أخرى‏:‏ ‏{‏فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 73‏]‏‏.‏ يعني اتركوا الناقة لا تقتلوها ولا تتعرضوا لها بسوء ولكن كانت النتيجة بالعكس‏.‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ‏}‏ أي‏:‏ كذبوا صالحًا وقالوا‏:‏ إنك لست برسول، وهكذا كل الرسل الذين أرسلوا إلى أقوامهم يصمهم أقوامهم بالعيب‏.‏ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ‏}‏‏.‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 52‏]‏‏.‏ كل الرسل قيل لهم هذا ساحر أو مجنون، كما قيل للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ إنه ساحر، كذاب، مجنون، شاعر، كاهن، ولكن ألقاب السوء التي يلقبها الأعداء لأولياء الله لا تضرهم، بل يزدادون بذلك رفعة عند الله سبحانه وتعالى، وإذا احتسبوا الأجر أثيبوا على ذلك‏.‏ فيقول عز وجل‏:‏ ‏{‏فَعَقَرُوهَا‏}‏ أي‏:‏ عقروا الناقة عقرًا حصل به الهلاك‏.‏ ‏{‏فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم‏}‏ يعني‏:‏ أطبق عليهم فأهلكهم كما تقول‏:‏ دمدمت البئر‏:‏ أي أطبقت عليها التراب‏.‏ ‏{‏بِذَنبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بسبب ذنوبهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئًا ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فالذنوب سبب للهلاك والدمار والفساد لقول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا‏}‏‏.‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وقال الله تعالى يخاطب أشرف الخلق وخير القرون‏:‏ ‏{‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏‏.‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 165‏]‏‏.‏ فالإنسان يصاب بالمصائب من عند نفسه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بسبب ذنبهم‏.‏ ‏{‏فَسَوَّاهَا‏}‏ أي‏:‏ عمها بالهلاك حتى لم يبق منهم أحد وأصبحوا في ديارهم جاثمين‏.‏ ‏{‏وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا‏}‏ يعني‏:‏ أن الله لا يخاف من عاقبة هؤلاء الذين عذبهم، ولا يخاف من تبعتهم، لأن له الملك وبيده كل شيء، بخلاف غيره من الملوك لو انتصروا على غيرهم، أو عاقبوا غيرهم تجدهم في خوف يخشون أن تكون الكرة عليهم‏.‏ أما الله عز وجل فإنه لا يخاف عقباها‏.‏ أي‏:‏ لا يخاف عاقبة من عذبهم، لأنه سبحانه وتعالى له الملك كله، والحمد كله، فسبحانه وتعالى ما أعظمه، وما أجل سلطانه‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:40 PM   المشاركة رقم: 20
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة الليل



‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى‏}‏ أقسم الله سبحانه وتعالى بالليل إذا يغشى يعني حين يغشى الأرض ويغطيها بظلامه، لأن الغشاء بمعنى الغطاء‏.‏ ‏{‏وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى‏}‏ أي‏:‏ إذا ظهر وبان، وذلك بطلوع الفجر الذي هو النور الذي هو مقدمة طلوع الشمس، والشمس هي آية النهار كما أن القمر آية الليل‏.‏ ‏{‏وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى‏}‏ يعني وخَلْق الذكر والأنثى على أحد التفسيرين الذي جعل ‏(‏ما‏)‏ هنا مصدرية، والذي خَلَق الذكر والأنثى وهو الله عز وجل على التفسير الاخر‏.‏ فعلى المعنى الأول‏:‏ يكون الله سبحانه وتعالى أقسم بخلق الذكر والأنثى‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ يكون الله تعالى أقسم بنفسه، لأنه هو الذي خلق الذكر والأنثى‏.‏ ‏{‏إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى‏}‏ يعني إن عملكم ‏{‏لَشَتَّى‏}‏ أي لمتفرق تفرقًا عظيمًا‏.‏ فالله عز وجل أقسم بأشياء متضادة على أشياء متضادة‏:‏ الليل ضد النهار، الذكر ضد الأنثى، السعي متضاد صالح وسيىء، فتناسب المقسم به والمقسم عليه، وهذا من بلاغة القرآن‏.‏ فالمعنى أن اختلاف الليل والنهار والذكر والأنثى أمر ظاهر لا يخفى، فكذلك أعمال العباد متباينة متفاوتة، منها الصالح، ومنها الفاسد، ومنها ما يخلط صالحًا وفاسدًا، كل ذلك بتقدير الله عز وجل، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ثم فصّل هذا السعي المتفرق فقال‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى‏}‏‏.‏ ‏{‏فَأَمَّا مَن أَعْطَى‏}‏ أي‏:‏ أعطى ما أمر بإعطائه من مال، أو جاه، أو علم‏.‏ ‏{‏وَاتَّقَى‏}‏ اتقى ما أمر باتقائه من المحرمات‏.‏ ‏{‏وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى‏}‏ أي‏:‏ صدق بالقولة الحسنى وهي قول الله عز وجل، وقول رسوله - صلى الله عليه وسلّم - لأن أصدق الكلام، وأحسن الكلام كلام الله عز وجل‏.‏ ‏{‏فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى‏}‏ السين‏:‏ هنا للتحقيق أي‏:‏ أن من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسييسره الله عز وجل لليسرى في أموره كلها، في أمور دينه ودنياه، ولهذا تجد أيسر الناس عملًا هو من اتقى الله عز وجل، من أعطى واتقى وصدق بالحسنى‏.‏ وكلما كان الإنسان أتقى لله كانت أموره أيسر له‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا‏}‏‏.‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وكلما كان الإنسان أبعد عن الله كان أشد عسرًا في أموره ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَن بَخِلَ‏}‏ فلم يعط ما أمر بإعطائه ‏{‏وَاسْتَغْنَى‏}‏ استغنى عن الله عز وجل، ولم يتق ربه، بل رأى أنه في غنى عن رحمة الله‏.‏ ‏{‏وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى‏}‏ أي‏:‏ بالقولة الحسنى، وهي قول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏.‏ ‏{‏فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى‏}‏ ييسر للعسرى في أموره كلها، ولكن قد يأتي الشيطان للإنسان فيقول‏:‏ نجد أن الكفار تيسر أمورهم فيقال‏:‏ نعم‏.‏ قد تيسر أمورهم، لكن قلوبهم تشتعل نارًا وضيقًا وحرجًا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء‏}‏‏.‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏‏.‏ ثم ما ينعمون به فهو تنعيم جسد فقط، لا تنعيم روح، ثم هو أيضًا وبال عليهم لقول الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ‏}‏‏.‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 182، 183‏]‏‏.‏ وقال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته‏)‏‏.‏ وتلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ‏}‏‏.‏ ‏[‏هود‏:‏ 102‏]‏‏.‏ وهؤلاء عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، ومع ذلك فإن هذه الدنيا جنة لهم بالنسبة للاخرة‏.‏ وقد ذكروا عن ابن حجر العسقلاني شارح البخاري بالشرح الذي سماه ‏(‏فتح الباري‏)‏ وكان قاضي القضاة بمصر، أنه مر ذات يوم وهو على عربته تجره البغال والناس حوله، مر برجل يهودي سمان يعني‏:‏ يبيع السمن والزيت، ومن المعلوم أن الذي يبيع السمن والزيت تكون ثيابه وسخة وحاله سيئة فأوقف العربة وقال لابن حجر‏:‏ إن نبيكم يقول‏:‏ ‏(‏الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر‏)‏، فكيف أنا أكون بهذه الحال وأنت بهذه الحال‏؟‏ فقال له ابن حجر على البديهة‏:‏ أنا في سجن بالنسبة لما أعد الله للمؤمنين من الثواب والنعيم، لأن الدنيا بالنسبة للاخرة ليست بشيء كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ‏(‏لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها‏)‏، وأما أنت أيها اليهودي‏:‏ فأنت في جنة بالنسبة لما أعد لك من العذاب إن مت على الكفر فاقتنع بذلك اليهودي وصار ذلك سببًا في إسلامه وقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى‏}‏ يعني أي شيء يغني عنه ماله إذا بخل به وتردى هو‏.‏ أي‏:‏ هلك أي شيء يغني المال‏؟‏ لا يغني شيئًا‏.‏

‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى‏}‏ فيه التزام من الله عز وجل أن يبين للخلق ما يهتدون به إليه‏.‏ والمراد بالهدى هنا‏:‏ هدى البيان والإرشاد فإن الله تعالى التزم على نفسه بيان ذلك حتى لا يكون للناس على الله حجة وهذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 163‏]‏‏.‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏‏.‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏‏.‏ فلا يمكن للعقل البشري أن يستقل بمعرفة الهدى، ولذلك التزم الله عز وجل بأن يبين الهدى للإنسان ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى‏}‏ وليُعلم أن الهدى نوعان‏:‏ 1 - هدى التوفيق‏.‏ فهذا لا يقدر عليه إلا الله‏.‏ 2 - هدى إرشاد ودلالة، فهذا يكون من الله، ويكون من الخلق‏:‏ من الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن العلماء‏.‏ كما قال الله لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏‏.‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏‏.‏ أما هداية التوفيق فهي إلى الله لا أحد يستطيع أن يوفق شخصًا إلى الخير كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وإذا نظرنا إلى هذه الآية الكريمة ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى‏}‏ وجدنا أن الله تعالى بين كل شيء‏.‏ بين ما يلزم الناس في العقيدة، وما يلزمهم في العبادة، وما يلزمهم في الأخلاق، وما يلزمهم في المعاملات، وما يجب عليهم اجتنابه في هذا كله‏.‏ حتى قال أبو ذر نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة‏:‏ لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا‏.‏ وقال رجل من المشركين لسلمان الفارسي‏:‏ علمكم نبيكم حتى الخراءة، قال‏:‏ أجل علمنا حتى الخراءة‏.‏ يعني‏:‏ حتى آداب قضاء الحاجة علمها النبي - صلى الله عليه وسلّم - أمته، ويؤيد هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا‏}‏‏.‏‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى‏}‏ يعني‏:‏ لنا الاخرة والأولى‏.‏ الأولى متقدمة على الاخرة في الزمن، لكنه في هذه الآية أخرها لفائدتين‏:‏ الفائدة الأولى‏:‏ معنوية‏.‏ الفائدة الثانية‏:‏ لفظية‏.‏ أما المعنوية فلأن الاخرة أهم من الدنيا، ولأن الاخرة يظهر فيها ملك الله تعالى تمامًا‏.‏ في الدنيا هناك رؤساء، وهناك ملوك، وهناك أمراء يملكون ما أعطاهم الله عز وجل من الملك، لكن في الاخرة لا ملك لأحد ‏{‏لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏‏.‏ فلهذا قدم ذكر الاخرة من أجل هذه الفائدة المعنوية‏.‏ أما الفائدة اللفظية‏:‏ فهي مراعاة الفواصل يعني‏:‏ أواخر الآيات كلها آخرها ألف‏.‏ فإن قيل‏:‏ إن الله سبحانه وتعالى قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى‏}‏ فما الفرق‏؟‏ الجواب‏:‏ الفرق أن الهدى التزم الله تعالى ببيانه وإيضاحه للخلق، أما الملك فهو لله ملك الاخرة والأولى، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى‏}‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى‏}‏ ‏{‏فَأَنذَرْتُكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ خوفتكم ‏{‏نَارًا‏}‏ يعني بها نار الاخرة‏.‏ ‏{‏تَلَظَّى‏}‏ تشتعل، ولها أوصاف كثيرة في القرآن والسنة‏.‏ ‏{‏لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى‏}‏ ‏{‏لا يَصْلاهَا‏}‏ يعني‏:‏ لا يحترق بها ‏{‏إِلاَّ الأَشْقَى‏}‏ يعني الذي قدرت له الشقاوة‏.‏ والشقاوة ضد السعادة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 106‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 108‏]‏‏.‏ فالمراد بالأشقى يعني‏:‏ الذي لم تكتب له السعادة، هذا هو الذي يصلى النار التي تلظى‏.‏ ثم بين هذا بقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏}‏ التكذيب في مقابل الخبر، والتولي في مقابل الأمر والنهي‏.‏ فهذا كذب الخبر ولم يصدق، قيل له‏:‏ إنك ستبعث‏.‏ قال‏:‏ لا أبعث‏.‏ قيل له‏:‏ هناك جنة ونار‏.‏ قال‏:‏ ليس هناك جنة ونار‏.‏ قيل له‏:‏ سيكون كذا وكذا، قال‏:‏ ما يكون‏.‏ هذا تكذيب‏.‏ ‏{‏تَوَلَّى‏}‏ يعني أعرض عن طاعة الله، وأعرض عما جاءت به رسله، فهذا هو الشقي‏.‏ ‏{‏وَسَيُجَنَّبُهَا‏}‏ أي‏:‏ يجنب هذه النار التي تلظى ‏{‏الأَتْقَى‏}‏ والأتقى اسم تفضيل من التقوى يعني‏:‏ الذي اتقى الله تعالى حق تقاته‏.‏ ‏{‏الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى‏}‏ يعني‏:‏ يعطي ماله من يستحقه على وجه يتزكى به، أي‏:‏ يتطهر به، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ‏}‏‏.‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى‏}‏ يفيد أنه لا يبذر ولا يبخل، وإنما يؤتي المال على وجه يكون به التزكية، وضابط ذلك ما ذكره الله في سورة الفرقان ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا‏}‏‏.‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 67‏]‏‏.‏ نجد بعض الناس يعطيه الله مالًا، ولكنه يبخل يقتر حتى الواجب عليه لزوجته وأولاده وأقاربه لا يقوم به‏.‏ ونرى بعض الناس قدر الله عليه الرزق وضيق عليه بعض الشيء، ومع هذا يذهب يتدين من الناس من أجل أن يكمل بيته حتى يكون مثل‏:‏ بيت فلان وفلان، أو من أجل أن يشتري سيارة فخمة كسيارة فلان وفلان، وكلا المنهجين والطريقين منهج باطل‏.‏ الأول‏:‏ قصر‏.‏ والثاني‏:‏ أفرط‏.‏ والواجب على الإنسان أن يكون إنفاقه بحسب حاله‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ هل يجوز أن يتدين الإنسان ليتصدق‏؟‏ فالجواب‏:‏ لا‏.‏ لأن الصدقة تطوع، والتزام الدّين خطر عظيم، لأن الدين ليس بالأمر الهين، فالإنسان إذا مات وعليه دين فإن نفسه معلقة بدينه حتى يقضى عنه، وكثير من الورثة لا يهتم بدين الميت، تجده يتأخر يماطل وربما لا يوفيه‏.‏ وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا قدمت إليه جنازة سأل هل عليه دين له وفاء‏؟‏ فإن قالوا لا، قال‏:‏ ‏(‏صلوا على صاحبكم‏)‏‏.‏ وأخبر صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الشهادة في سبيل الله تكفر كل شيء إلا الدين، فالدين أمره عظيم، لا يجوز للإنسان أن يتهاون به ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى‏}‏ يعني أنه لا يعطي المال مكافأة على نعمة سابقة من شخص فليس لأحد عليه فضل حتى يعطيه مكافأة، ولكنه يعطي ابتغاء وجه الله ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى‏}‏‏.‏ فهو لا ينفق إلا طلب وجه الله، أي طلب الوصول إلى دار كرامة الله التي يكون بها رؤية الله عز وجل‏.‏ ‏{‏وَلَسَوْفَ يَرْضَى‏}‏ يعني سوف يرضيه الله عز وجل بما يعطيه من الثواب الكثير وقد بين الله ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 261‏]‏‏.‏ نسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء البررة الأطهار الكرام، إنه على كل شيء قدير‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:42 PM   المشاركة رقم: 21
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة الضحى



‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَالضُّحَى‏}‏ الضحى هو أول النهار، وفيه النور والضياء ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى‏}‏ أي‏:‏ الليل إذا غطى الأرض وسدل عليها ظلامه، فأقسم الله تعالى بشيئين متباينين أولهما‏:‏ الضحى وفيه الضياء والنور، والثاني‏:‏ الليل إذا يغشى وفيه الظلمة‏.‏ ‏{‏مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ‏}‏ أي ما تركك ‏{‏وَمَا قَلَى‏}‏ أي‏:‏ وما أبغض، بل أحب الخلق إليه فيما نعلم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولهذا اختاره الله لأعظم الرسالات، وأفضل الأمم، وجعله خاتم النبيين، فلا نبي بعده صلى الله عليه وآله وسلم، يقول عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏‏.‏ فعين الله تعالى تكلأه وترعاه وتحميه وتحفظه وهو الذي قال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم ‏{‏الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 219‏]‏‏.‏ فما تركه الله عز وجل بل أحاطه بعلمه، ورحمته، وعنايته وغير ذلك مما يقتضي رفعته في الدنيا والاخرة‏.‏ كما قال في السورة التي تليها‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏‏.‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 4‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى‏}‏ هذه الجملة مؤكدة باللام، لام الابتداء و‏{‏الآخِرَةُ‏}‏ هي اليوم الذي يبعث فيه الناس، ويأوون إلى مثواهم الأخير إلى الجنة أو إلى النار، فيقول الله لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ‏{‏وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى‏}‏ أي‏:‏ من الدنيا، وذلك لأن الاخرة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وموضع سوط أحدنا في الجنة خير من الدنيا وما فيها، كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏.‏ ولهذا لما خير الله نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مرضه بين أن يعيش في الدنيا ما يعيش وبين ما عند الله، اختار ما عند الله، كما أعلن ذلك صلى الله عليه وعلى آله وسلم في خطبته حيث قال وهو على المنبر‏:‏ ‏(‏إن عبدًا من عباد الله خيره الله بين أن يعيش في الدنيا ما شاء الله أن يعيش وبين ما عنده فاختار ما عنده‏)‏، فبكى أبو بكر نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة وتعجب الناس من بكائه كيف يبكي من هذا، ولكنه نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة كان أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏.‏ علم أن المخير هو الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأنه اختار ما عند الله وهو الاخرة، وأن هذا إيذان بقرب أجله‏.‏ ‏{‏وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى‏}‏ ‏{‏وَلَسَوْفَ‏}‏ اللام هذه أيضًا للتوكيد وهي موطئة للقسم، و‏{‏سَوْفَ‏}‏ تدل على تحقق الشيء لكن بعد مهلة وزمن ‏{‏يُعْطِيكَ رَبُّكَ‏}‏ أي يعطيك ما يرضيك فترضى، ولقد أعطاه الله ما يرضيه - صلى الله عليه وسلّم - فإن الله تعالى يبعثه يوم القيامة مقامًا محمودًا، يحمده فيه الأولون والاخرون، حتى الأنبياء وأولو العزم من الرسل لا يستطيعون الوصول إلى ما وصل إليه‏.‏ فإذا كان يوم القيامة، وعظم الكرب والغم على الخلق، وضاقت عليهم الأمور طلب بعضهم من بعض أن يلتمسوا من يشفع لهم إلى الله عز وجل فيأتون إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، هؤلاء خمسة أولهم أبو البشر، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وهؤلاء الأربعة عليهم الصلاة والسلام من أولي العزم، كلهم يعتذرون عن الشفاعة للخلق حتى تصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلّم - فيقوم ويشفع، ولا شك أن هذا عطاء عظيم لم ينله أحد من الخلق، ثم بين الله سبحانه وتعالى نعمه عليه السابقة حتى يستدل بها على النعم اللاحقة‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى‏}‏ والاستفهام هنا للتقرير، يعني قد وجدك الله تعالى يتيمًا فأواك، يتيمًا من الأب، ويتيمًا من الأم، فإن أباه توفي قبل أن يولد، وأمه توفيت قبل أن تتم إرضاعه، ولكن الله تعالى تكفل به ويسر له من يقوم بتربيته والدفاع عنه، حتى وصل إلى الغاية التي أرادها الله عز وجل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَتِيمًا فَآوَى‏}‏ وجاء التعبير - والله أعلم - بـ‏{‏فَآوَى‏}‏ لسبب لفظي، وسبب معنوي‏.‏ أما السبب اللفظي‏:‏ فلأجل أن تتوافق رؤوس الآيات من أول السورة، وأما السبب المعنوي‏:‏ فإنه لو كان التعبير ‏(‏فآواك‏)‏ اختص الإيواء به صلى الله عليه وعلى آله وسلم والأمر أوسع من ذلك، فإن الله تعالى آواه، وآوى به، آوى به المؤمنين فنصرهم وأيدهم، ودفع عنهم بل دافع عنهم سبحانه وتعالى‏.‏ ‏{‏وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى‏}‏ ‏{‏وَجَدَكَ ضَالاًّ‏}‏ أي غير عالم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلّم - لم يكن يعلم شيئًا قبل أن ينزل عليه الوحي، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 113‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 48‏]‏‏.‏ فهو - صلى الله عليه وسلّم - لم يكن يعلم شيئًا بل هو من الأميين ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ لا يقرأ ولا يكتب، لكن وصل إلى هذه الغاية العظيمة بالوحي الذي أنزله الله عليه، فعلم وعلَّم وهنا قال ‏{‏فَهَدَى‏}‏ ولم يأت التعبير - والله أعلم - فهداك، ليكون هذا أشمل وأوسع فهو قد هدى - صلى الله عليه وآله وسلم - وهدى الله به، فهو هاد مهدي - صلى الله عليه وآله وسلم ـ‏.‏ إذًا فهدى أي فهداك وهدى بك‏.‏ ‏{‏وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى‏}‏ أي وجدك فقيرًا لا تملك شيئًا ‏{‏فَأَغْنَى‏}‏ أي أغناك وأغنى بك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وما أكثر ما غنم المسلمون من الكفار تحت ظلال السيوف، غنائم عظيمة كثيرة كلها بسبب هذا الرسول الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم - حين اهتدوا بهديه، واتبعوا سنته فنصرهم الله تعالى به وغنموا من مشارق الأرض ومغاربها، ولو أن الأمة الإسلامية عادت إلى ما كان عليه السلف الصالح لعاد النصر إليهم، والغنى، والعزة، والقوة ولكن مع الأسف أن الأمة الإسلامية في الوقت الحاضر كل منها ينظر إلى حظوظ نفسه بقطع النظر عما يكون به نصرة الإسلام أو خذلان الإسلام‏.‏ ولا يخفى على من تأمل الوقائع التي حدثت أخيرًا أنها في الحقيقة إذلال للمسلمين، وأنها سبب لشر عظيم كبير يترقب من وراء ما حدث، ولاسيما من اليهود والنصارى الذين هم أولياء بعضهم لبعض كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وهم أعني اليهود والنصارى متفقون على عداوة المسلمين، كل لا يريد الإسلام، ولا يريد أهل الإسلام، ولا يريد عز الإسلام‏.‏ ولكن سينصر الله تعالى دينه مهما كانت الأحوال، فالله تعالى ناصر دينه وكتابه، وإن حصل على المسلمين ما يحصل فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 140‏]‏‏.‏فربما يأتي اليوم الذي يجاهد فيه المسلمون اليهود حتى يختبىء اليهودي تحت الشجر فينادي الشجر يا مسلم، يا عبدالله هذا يهودي تحتي، فيأتي المسلم ويقتله، وما ذلك على الله بعزيز‏.‏ ولكن المسلمين يحتاجون إلى قيادة حكيمة عليمة بأحكام الشريعة قبل كل شيء، لأن القيادة بغير الاستفادة بنور الشريعة عاقبتها الوبال، مهما علت ولو علت إلى أعلى قمة فإنها سوف تنزل إلى أسفل قعر‏.‏ الهداية بالإسلام، بنور الإسلام، لا بالقومية، ولا بالعصبية، ولا بالوطنية ولا بغير ذلك، بالإسلام فقط‏.‏ فالإسلام وحده هو الكفيل بعزة الأمة، لكن تحتاج إلى قيادة حكيمة تضع الأشياء مواضعها، وتتأنى في الأمور ولا تستعجل، لا يمكن أن يصلح الناس بين عشية وضحاها، ومن أراد ذلك فإنه قد أراد أن يغير الله سنته، والله سبحانه وتعالى لا يغير سنته، فهذا نبي الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بقي في مكة ثلاث عشرة سنة ينزل عليه الوحي، ويدعو إلى الله بالتي هي أحسن، ومع ذلك في النهاية خرج من مكة خائفًا مختفيًا لم تتم الدعوة في مكة، فلماذا نريد أن نغير الأمة التي مضى عليها قرون وهي في غفلة وفي نوم بين عشية وضحاها، هذا سفه في العقل، وضلال في الدين‏.‏ الأمة تحتاج إلى علاج رفيق هادىء يدعو بالتي هي أحسن، الأمة الإسلامية تحتاج بعد الفقه في دين الله والحكمة في الدعوة إلى الله، تحتاج إلى العلم بالواقع والفطنة والخبرة، ونظر في الأمور التي تحتاج إلى نظر بعيد، لأن النتائج قد لا تتبين في شهر، أو شهرين، أو سنة، أو سنتين، لكن العاقل يصبر وينظر ويتأمل حتى يعرف، والأمور تحتاج أيضًا إلى عزم وتصميم وصبر؛ لأنه لابد من هذا لابد من عزم يندفع به الإنسان، ولابد من صبر يثبت به الإنسان وإلا لفاتت الأمور أو فات كثير منها والله المستعان‏.‏ قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ‏}‏ هذا في مقابلة ‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى‏}‏، فإذا كان الله آواك في يتمك فلا تقهر اليتيم، بل أكرم اليتيم، والإحسان إلى اليتامى وإكرامهم من أوامر الشريعة ومن حسنات الشريعة، لأن اليتيم الذي مات أبوه قبل أن يبلغ منكسر الخاطر، يحتاج إلى جبر، يحتاج إلى من يسليه، وإلى من يدخل عليه السرور لاسيما إذا كان قد بلغ سنًّا يعرف به الأمور كالسابعة والعاشرة وما أشبه ذلك ‏{‏وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ‏}‏ هذا في مقابل ‏{‏وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى‏}‏ ‏{‏وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ‏}‏ أول ما يدخل في السائل، السائل عن الشريعة عن العلم لا تنهره؛ لأنه إذا سألك يريد أن تبين له الشريعة وجب عليك أن تبينها له لقول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 187‏]‏‏.‏ لا تنهره إن نهرته نفرته، ثم إنك إذا نهرته وهو يعتقد أنك فوقه؛ لأنه لم يأت يسأل إلا أنه يعتقد أنك فوقه، إذا نهرته وهو يشعر أنك فوقه أصابه الرعب واختلفت حواسه، وربما لا يفقه ما يلقي إليك من السؤال، أو لا يفقه ما تلقيه إليه من الجواب، وقس نفسك أنت لو كلمت رجلًا أكبر منك منزلة ثم نهرك ضاعت حواسك، ولم تستطع أن ترتب فكرك وعقلك، لهذا لا تنهر السائل، وربما يدخل في ذلك أيضًا سائل المال، يعني إذا جاءك سائل يسألك مالًا فلا تنهره، لكن هذا العموم يدخله التخصيص‏:‏ إذا عرفت أن السائل في العلم إنما يريد التعنت، وأخذ رأيك وأخذ رأي فلان وفلان حتى يضرب آراء العلماء بعضها ببعض، فإذا علمت ذلك فهنا لك الحق أن تنهره، وأن تقول‏:‏ يا فلان اتق الله ألم تسأل فلانًا كيف تسألني بعدما سألته‏؟‏‏!‏ أتلعب بدين الله‏؟‏‏!‏ أتريد إن أفتاك الناس بما تحب سكتّ، وإن أفتوك بما لا تحب ذهبت تسأل‏؟‏‏!‏‏.‏ هذا لا بأس، لأن هذا النهر تأديب له‏.‏ وكذلك سائل المال إذا علمت أن الذي سألك المال غني فلك الحق أن تنهره ولك الحق أيضًا أن توبخه على سؤاله وهو غني، إذًا هذا العموم ‏{‏السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ‏}‏ مخصوص فيما إذا اقتضت المصلحة أن ينهر فلا بأس ‏{‏وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ‏}‏ نعمة الله تعالى على الرسول - صلى الله عليه وسلّم - التي ذكرت في هذه الآيات ثلاث ‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى‏}‏ وبهذه الثلاث تتم النعم‏.‏ حدث بنعمة الله قل‏:‏ كنت يتيمًا فآواني الله، كنت ضالًا فهداني الله، كنت عائلًا فأغناني الله، لكن تحدث بها إظهارًا للنعمة وشكرًا للمنعم، لا افتخارًا بها على الخلق؛ لأنك إذا فعلت ذلك افتخارًا على الخلق كان هذا مذمومًا‏.‏ أما إذا قلت أو إذا ذكرت نعمة الله عليك تحدثًا بالنعم، وشكرًا للمنعم فهذا مما أمر الله به‏.‏ هذه كلمات يسيرة على هذه السورة العظيمة، وما نقوله نحن أو غيرنا من أهل العلم فإنه لا يستوعب ما دل عليه القرآن من المعاني العظيمة، نسأل الله أن يرزقنا الفهم في دين الله، والعمل بما علمنا إنه على كل شيء قدير‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:43 PM   المشاركة رقم: 22
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة الشرح


‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ قال الله سبحانه وتعالى مبينًا نعمته على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏ هذا الاستفهام يقول العلماء إنه استفهام تقرير، واستفهام التقرير يرد في القرآن كثيرًا، ويقدّر الفعل بفعل ماضٍ مقرون بقد‏.‏ ففي قوله ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ‏}‏ يقدّر بأن المعنى قد شرحنا لك صدرك؛ لأن الله يقرر أنه شرح له صدره، وهكذا جميع ما يمر بك من استفهام التقرير فإنه يقدر بفعل ماضٍ مقرون بقد، أما كونه يقدر بفعل ماضٍ؛ فلأنه قد تم وحصل، وأما كونه مقرونًا بقد؛ فلأن قد تفيد التحقيق إذا دخلت على الماضي، وتفيد التقليل إذا دخلت على المضارع، وقد تفيد التحقيق، ففي قول الناس‏:‏ ‏(‏قد يجود البخيل‏)‏ قد هذه للتقليل، لكن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 64‏]‏‏.‏ هذه للتحقيق ولا شك‏.‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏ أي‏:‏ نوسعه، وهذا الشرح شرح معنوي ليس شرحًا حسيًّا، وشرح الصدر أن يكون متسعًا لحكم الله عز وجل بنوعيه، حكم الله الشرعي وهو الدين، وحكم الله القدري وهو المصائب التي تحدث على الإنسان؛ وذلك لأن الشرع فيه مخالفة للهوى فيجد الإنسان ثقلًا في تنفيذ أوامر الله، وثقلًا في اجتناب محارم الله، لأنه مخالف لهوى النفس، والنفس الأمارة بالسوء لا تنشرح لأوامر الله ولا لنواهيه، تجد بعض الناس تثقل عليه الصلاة كما قال الله تعالى في المنافقين‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏‏.‏ ومن الناس من تخف عليه الصلاة بل يشتاق إليها ويترقب حصولها كما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏جعلت قرة عيني في الصلاة‏)‏، إذًا فالشرع فيه ثقل على النفوس، كاجتناب المحرمات، فبعض الناس يهوى أشياء محرمة عليه كالزنا وشرب الخمر وما أشبه ذلك فتثقل عليه، ومن الناس من ينشرح صدره لذلك ويبتعد عما حرم الله، وانظر إلى يوسف - صلى الله عليه وآله وسلم - لما دعته امرأة العزيز بعد أن غلقت الأبواب وقالت‏:‏ هيت لك وتهيأت له بأحسن ملبس وأحسن صورة، والمكان آمن أن يدخل أحد، غلقت الأبواب، وقالت‏:‏ هيت لك، قال‏:‏ معاذ الله، استعاذ بربه لأن هذه حال حرجة، شاب وامرأة العزيز، ومكان خالٍ وآمن، والإنسان بشر ربما تسوّل له نفسه أن يفعل ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏]‏‏.‏ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله‏:‏ إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال‏:‏ إني أخاف الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه‏)‏، والشاهد من هذا قوله‏:‏ ‏(‏رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله‏)‏ فشرح الصدر للحكم الشرعي معناه قبول الحكم الشرعي والرضا به وامتثاله، وأن يقول القائل سمعنا وأطعنا، وأنت بنفسك أحيانًا تجد قلبك منشرحًا للعبادة تفعلها بسهولة وانقياد وطمأنينة ورضا، وأحيانًا بالعكس لولا خوفك من الإثم ما فعلت، فإذا كان هذا الاختلاف في الشخص الواحد فما بالك بالأشخاص‏.‏ وأما انشراح الصدر للحكم القدري، فالإنسان الذي شرح الله صدره للحكم الكوني تجده راضيًا بقضاء الله وقدره، مطمئنًا إليه، يقول‏:‏ أنا عبد، والله رب يفعل ما يشاء، هذا الرجل الذي على هذه الحال سيكون دائمًا في سرور لا يغتم ولا يهتم، هو يتألم لكنه لا يصل إلى أن يحمل هًّما أو غمًّا ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال‏:‏ ‏(‏عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له‏)‏، إذًا شرح الصدر يعني توسعته وتهيئته لأحكام الله الشرعية والقدرية، لا يضيق بأحكام الله ذرعًا إطلاقًا، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلّم - له الحظ الأوفر من ذلك، ولهذا تجده أتقى الناس لله، وأشدهم قيامًا بطاعة الله، وأكثرهم صبرًا على أقدار الله، ماذا فعل الناس به حين قام بالدعوة‏؟‏ وماذا يصيبه من الأمراض‏؟‏ حتى إنه يوعك كما يوعك الرجلان منا يعني من المرض يشدد عليه يعني كرجلين منا، فعن عبد الله بن مسعود نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة قال‏:‏ ‏(‏دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - وهو يوعك، فقلت‏:‏ يا رسول الله إنك توعك وعكًا شديدًا، قال‏:‏ أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم‏)‏‏.‏ وحتى أنه شدد عليه عند النزع عند الموت - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى يفارق الدنيا وهو أصبر الصابرين، والصبر درجة عالية لا تنال إلا بوجود شيء يصبر عليه، أما الشيء اليسير البارد فلا صبر عليه، لهذا نجد الأنبياء أكثر الناس بلاء ثم الصالحين الأمثل فالأمثل‏.‏ ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ‏}‏ قد يقول قائل‏:‏ إن بين الجملتين تنافر، الجملة الأولى فعل مضارع ‏{‏نَشْرَحْ‏}‏ والثانية فعل ماض ‏{‏وَضَعْنَا‏}‏ لكن بناء على التقرير الذي قلت وهو أن ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ‏}‏ بمعنى قد شرحنا يكون عطف ووضعنا عطفه على نظيره ومثيله ‏{‏وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ‏}‏ وضعناه أي طرحناه وعفونا وسامحنا وتجاوزنا عنك ‏{‏وِزْرَكَ‏}‏ أي إثمك ‏{‏الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ‏}‏ يعني أقضه وآلمه؛ لأن الظهر هو محل الحمل، فإذا كان هناك حمل يتعب الظهر فإتعاب غيره من باب أولى، لأن أقوى عضو في أعضائك للحمل هو الظهر، وانظر للفرق بين أن تحمل كيسًا على ظهرك أو تحمله بين يديك بينهما فرق، فالمعنى أن الله تعالى غفر للنبي - صلى الله عليه وسلّم - وزره وخطيئته حتى بقي مغفورًا له، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏‏.‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏ وقيل للنبي - صلى الله عليه وسلّم - وهو يقوم الليل ويطيل القيام حتى تتورم قدماه أو تتفطر قيل له‏:‏ أتصنع هذا، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال‏:‏ ‏(‏أفلا أكون عبدًا شكورًا‏)‏، إذًا مغفرة الذنوب المتقدمة والمتأخرة ثابتة بالقرآن والسنة، وهذا من خصائص الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لا أحد من الناس يغفر له ما تقدم وما تأخر إلا الرسول - صلى الله عليه وسلّم - أما غيره فيحتاج إلى توبة من الذنب، وقد يغفر الله له سبحانه وتعالى بدون توبة ما دون الشرك، لكن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - نجزم بأنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ‏}‏‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ هذه الآية وما سقناه شاهدًا لها يدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلّم - قد يذنب فهل النبي - صلى الله عليه وسلّم - يذنب‏؟‏ فالجواب‏:‏ نعم، ولا يمكن أن نرد النصوص لمجرد أن نستبعد وقوع الذنب منه صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن لا نقول الشأن ألا يذنب الإنسان بل الشأن أن يغفر للإنسان، هذا هو المهم أن يغفر له، أما أن لا يقع منه الذنب فقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون‏)‏، لابد من خطيئة لكن هناك أشياء لا يمكن أن تقع من الأنبياء مثل الكذب والخيانة، فإن هذا لا يمكن أن يقع منهم إطلاقًا، لأن هذا لو فرض وقوعه لكان طعنًا في رسالتهم وهذا شيء مستحيل، وسفاسف الأخلاق من الزنا وشبهه هذا أيضًا ممتنع، لأنه ينافي أصل الرسالة، فالرسالة إنما وجدت لتتميم مكارم الأخلاق كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏(‏إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق‏)‏، فالحاصل أن الله سبحانه وتعالى وضع عن محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وزره، وبين أن هذا الوزر قد أنقض ظهره أي أقضه وأتعبه، وإذا كان هذا وزر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فكيف بأوزار غيره، أوزارنا تقض ظهورنا وتنقضها وتتعبها، ولكن كأننا لم نحمل شيئًا، وذلك لضعف إيماننا وبصيرتنا وكثرة غفلتنا، نسأل الله أن يعاملنا بالعفو، في بعض الاثار أن المؤمن إذا أذنب ذنبًا صار عنده كالجبل فوق رأسه وإن المنافق إذا أذنب ذنبًا صار عنده كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا، يعني أنه لا يهتم، فالمؤمن تهمه خطاياه وتلحقه الهم حتى يتخلص منها بتوبة واستغفار، أو حسنات جليلة تمحو آثار هذه السيئة، وأنت إذا رأيت من قلبك الغفلة عن ذنوبك فاعلم أن قلبك مريض، لأن القلب الحي لا يمكن أن يرضى بالمرض، ومرض القلوب هي الذنوب كما قال عبدالله بن المبارك رحمه الله‏:‏ رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانهاوترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها فيجب علينا أن نهتم بأنفسنا وأن نحاسبها، وإذا كان التجار لا ينامون حتى يراجعوا دفاتر تجارتهم، ماذا صرفوا، وماذا أنفقوا، وماذا كسبوا، فإن تجار الاخرة ينبغي أن يكونوا أشد اهتمامًا؛ لأن تجارتهم أعظم، فتجارة أهل الدنيا غاية ما تفيدهم إن أفادتهم هو إتراف البدن فقط، على أن هذه التجارة يلحقها من الهم والغم ما هو معلوم، وإذا خسر في سلعة اهتم لذلك، وإذا كان في بلده مخاوف‏:‏ قطاع طريق، أو سراق صار أشد قلقًا، لكن تجارة الاخرة على العكس من هذا ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 10 - 12‏]‏‏.‏ تنجي من العذاب، ويغفر الله بها الذنوب، ويدخل بها الجنات، جنات عدن أي جنات إقامة، ومساكن طيبة في جنات عدن، مساكن طيبة في بنايتها وفي مادة البناء، كما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما‏)‏، والله لو يبقى الإنسان في سجدة منذ بلغ إلى أن يموت لكان هذا ثمنًا قليلًا بالنسبة إلى هذه الغنيمة العظيمة، ولو لم يكن إلا أن ينجو الإنسان من النار لكفى، أحيانًا الإنسان يفكر يقول ليتني لم أولد أو يكفيني أن أنجو من النار، وها هو عمر بن الخطاب نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة يقول‏:‏ ليتني شجرة تعضد، ليت أمي لم تلدني، لأن الإنسان يظن أنه آمن لأنه يصلي، ويصوم، ويتصدق، ويحج ويبر الوالدين وما أشبه ذلك، لكن قد يكون في قلبه حسيكة تؤدي إلى سوء الخاتمة، - والعياذ بالله - كما قال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع‏)‏ يعني مدة قريبة لموته ما هو إلا ذراع في العمل؛ لأن عمله كله هباء، هو يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار كما جاء في الحديث الصحيح، لكن قوله‏:‏ ‏(‏حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع‏)‏ ليس معناه أن عمله أوصله إلى قريب من الجنة، وإنما المعنى حتى لا يبقى عليه إلا مدة قليلة في الحياة ‏(‏ثم يعمل بعمل أهل النار فيدخلها‏)‏ لكن هذا فيما إذا كان عمل الإنسان للناس كما قال - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار‏)‏، والإنسان إذا مر على مثل هذه النصوص يخاف على نفسه، يخاف من الرياء، يخاف من العجب، يخاف من الإذلال‏.‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏ رفع ذكر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لا أحد يشك فيه؛ أولًا‏:‏ لأنه يرفع ذكره عند كل صلاة في أعلى مكان وذلك في الأذان‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمد رسول الله‏.‏ ثانيًا‏:‏ يرفع ذكره في كل صلاة فرضًا في التشهد، فإن التشهد مفروض، وفيه أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله‏.‏ ثالثًا‏:‏ يرفع ذكره عند كل عبادة، كل عبادة مرفوع فيها ذكر الرسول نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة، وذلك لأن كل عبادة لابد فيها من شرطين أساسيين هما‏:‏ الإخلاص لله تعالى، والمتابعة للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن المعلوم أن المتابع للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم سوف يستحضر عند العبادة أنه متبع فيها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهذا من رفع ذكره‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا‏}‏ هذا بشارة من الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولسائر الأمة، وجرى على الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - عسر حينما كان بمكة يضيق عليه، وفي الطائف، وكذلك أيضًا في المدينة من المنافقين فالله يقول‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا‏}‏ يعني كما شرحنا لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، ورفعنا لك ذكرك، وهذه نعم عظيمة كذلك هذا العسر الذي يصيبك لابد أن يكون له يسر ‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا‏}‏ قال ابن عباس عند هذه الآية‏:‏ ‏(‏لن يغلب عسٌر يسرين‏)‏، وتوجيه كلامه - نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة - مع أن العسر ذكر مرتين واليسر ذكر مرتين‏.‏ قال أهل البلاغة‏:‏ توجيه كلامه أن العسر لم يذكر إلا مرة واحدة ‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا‏}‏ العسر الأول أعيد في الثانية بال، فال هنا للعهد الذكري، وأما يسر فإنه لم يأت معرفًا بل جاء منكرًا، والقاعدة‏:‏ أنه إذا كرر الاسم مرتين بصيغة التعريف فالثاني هو الأول إلا ما ندر، وإذا كرر الاسم مرتين بصيغة التنكير فالثاني غير الأول، لأن الثاني نكرة، فهو غير الأول، إذًا في الايتين الكريمتين يسران وفيهما عسر واحد، لأن العسر كرر مرتين بصيغة التعريف ‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا‏}‏ هذا الكلام خبر من الله عز وجل، وخبره جل وعلا أكمل الأخبار صدقًا، ووعده لا يخلف، فكلما تعسر عليك الأمر فانتظر التيسير، أما في الأمور الشرعية فظاهر، ففي الصلاة‏:‏ صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب، فهذا تيسير، إذا شق عليك القيام اجلس، إن شق عليك الجلوس صل وأنت على جنبك، وفي الصيام إن قدرت وأنت في الحضر فصم، وإن لم تقدر فأفطر، إذا كنت مسافرًا فأفطر، في الحج إن استطعت إليه سبيلًا فحج، وإن لم تستطع فلا حج عليك، بل إذا شرعت في الحج وأحصرت ولم تتمكن معه من إكمال الحج فتحلل، وافسخ الحج واهدِ لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏‏.‏ إذًا كل عسر يحدث للإنسان في العبادة يجد التسهيل واليسر‏.‏ كذلك في القضاء والقدر، يعني تقدير الله على الإنسان من مصائب، وضيق عيش، وضيق صدر وغيره لا ييأس، فإن مع العسر يسرًا، والتيسير قد يكون أمرًا ظاهرًا حسيًّا، مثل‏:‏ أن يكون الإنسان فقيرًا فتضيق عليه الأمور فييسر الله له الغنى، مثال آخر‏:‏ إنسان مريض يتعب يشق عليه المرض فيشفيه الله عز وجل، هذا أيضًا تيسير حسي، هناك تيسير معنوي وهو معونة الله الإنسان على الصبر هذا تيسير، فإذا أعانك الله على الصبر تيسر لك العسير، وصار هذا الأمر العسير الذي لو نزل على الجبال لدكها، صار بما أعانك الله عليه من الصبر أمرًا يسيرًا، وليس اليسر معناه أن ينفرج الشيء تمامًا فقط، اليسر أن ينفرج الكرب ويزول وهذا يسر حسي، وأن يعين الله الإنسان على الصبر حتى يكون هذا الأمر الشديد العسير أمرًا سهلًا عليه، نقول هذا لأننا واثقون بوعد الله‏.‏ ‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ أي إذا فرغت من أعمالك فانصب لعمل آخر، يعني اتعب لعمل آخر، لا تجعل الدنيا تضيع عليك، ولهذا كانت حياة الإنسان العاقل حياة جد، كلما فرغ من عمل شرع في عمل آخر، وهكذا؛ لأن الزمن يفوت على الإنسان في حال يقظته ومنامه، وشغله وفراغه، يسير ولا يمكن لأحد أن يمسك الزمن، لو اجتمع الخلق كلهم ليوقفوا الشمس حتى يطول النهار ما تمكنوا، فالزمن لا يمكن لأحد أن يمسكه، إذًا اجعل حياتك حياة جد، إذا فرغت من عمل فانصب في عمل آخر، إذا فرغت من عمل الدنياعليك بعمل الاخرة، فرغت من عمل الاخرة اشتغلت بأمر الدنيا فإذا قضيت الصلاة يوم الجمعة فانتشر في الأرض وابتغِ من فضل الله، وصلاة الجمعة يكتنفها عملان دنيويان ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ‏}‏ يعني وأنتم مشتغلون في دنياكم ‏{‏فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9، 10‏]‏‏.‏ فإذا فرغنا من شغل اشتغلنا في آخر، وإذا فرغنا منه اشتغلنا في آخر وهكذا ينبغي أن يكون الإنسان دائمًا في جد‏.‏ فإذا قال قائل‏:‏ لو أنني استعملت الجد في كل حياتي لتعبت ومللت‏.‏ قلنا‏:‏ إن استراحتك لتنشيط نفسك وإعادة النشاط يعتبر شغلًا وعملًا، يعني لا يلزم الشغل بالحركات ففراغك من أجل أن تنشط للعمل الاخر يعتبر عملًا، المهم أن تجعل حياتك كلها جدًّا وعملًا‏.‏ ‏{‏وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ يعني إذا عملت الأعمال التي فرغت منها ونصبت في الأخرى، فارغب إلى الله عز وجل في حصول الثواب، وفي حصول الأجر، وفي الإعانة كن مع الله عز وجل قبل العمل وبعد العمل، قبل العمل كن مع الله تستعينه عز وجل، وبعده ترجو منه الثواب‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ فائدة بلاغية ‏{‏إِلَى رَبِّكَ‏}‏ متعلقة من حيث الإعراب بـ‏(‏ارغب‏)‏ وهي مقدمة عليها، وتقديم المعمول يفيد الحصر، يعني إلى الله لا إلى غيره فارغب في جميع أمورك، وثق بأنك متى علقت رغبتك بالله عز وجل فإنه سوف ييسر لك الأمور، وكثير من الناس تنقصهم هذه الحال أي ينقصهم أن يكونوا دائمًا راغبين إلى الله، فتجدهم يختل كثير من أعمالهم؛ لأنهم لم يكن بينهم وبين الله تعالى صلة في أعمالهم‏.‏ نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممتثلين لأوامره، مصدقين بأخباره، إنه على كل شيء قدير‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:45 PM   المشاركة رقم: 23
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة التين



‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ‏}‏ إقسام الله تعالى بهذه الأشياء الأربعة‏:‏ بالتين، والزيتون، وبطور سينين، وهذا البلد الأمين يعني مكة، لأن السورة مكية فالمشار إليه قريب وهو مكة، ‏{‏وَالتِّينِ‏}‏ هو الثمر المعروف، ‏{‏وَالزَّيْتُونِ‏}‏ معروف، وأقسم الله بهما لأنهما يكثران في فلسطين، ‏{‏وَطُورِ سِينِينَ‏}‏ أقسم الله به لأنه الجبل الذي كلم الله عنده موسى صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏.‏ ‏{‏وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ‏}‏ أقسم الله به أعني مكة لأنها أحب البقاع إلى الله، وأشرف البقاع عند الله عز وجل‏.‏ قال بعض أهل العلم‏:‏ أقسم الله بهذه الثلاثة، لأن الأول ‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ‏}‏ أرض فلسطين التي فيها الأنبياء، وآخر أنبياء بني إسرائيل هو عيسى بن مريم - صلى الله عليه وآله وسلم - وبطور سينين لأنه الجبل الذي أوحى الله تعالى إلى موسى حوله، وأما البلد الأمين فهو مكة الذي بعث الله منه محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏.‏ قال العلماء‏:‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏وَطُورِ سِينِينَ‏}‏ أي طور البركة لأن الله تعالى وصفه أو وصف ما حوله بالوادي المقدس‏.‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏ هذا هو المقسم عليه، أقسم الله تعالى أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهذه الجملة التي فيها المقسم عليه مؤكدة بثلاثة مؤكدات‏:‏ القسم، واللام، وقد، أقسم الله أنه خلق الإنسان ‏{‏فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏ في أحسن هيئة وخِلقة و‏{‏فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏ فطرة وقصدًا، لأنه لا يوجد أحد من المخلوقات أحسن من بني آدم خلقة، فالمخلوقات الأرضية كلها دون بني آدم في الخلقة، لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ‏}‏ هذه الردة التي ذكرها الله عز وجل تعني أن الله تعالى يرد الإنسان أسفل سافلين خِلقة كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 70‏]‏‏.‏ فكلما ازدادت السن في الإنسان تغير إلى أردأ في القوة الجسدية، وفي الهيئة الجسدية، وفي نضارة الوجه وغير ذلك يرد أسفل سافلين، وإذا قلنا إن أحسن تقويم تشمل حتى الفطرة التي جبل الله الخلق عليها، والعبادة التي تترتب أو تتبنى على هذه الفطرة، فإن هذا إشارة إلى أن من الناس من تعود به حاله - والعياذ بالله - إلى أن يكون أسفل سافلين بعد أن كان في الأعلى والقمة من الإيمان والعلم، والآية تشمل المعنيين جميعًا ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ هذا استثناء من قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ‏}‏ يعني إلا المؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنهم لا يردون إلى أسفل السافلين، لأنهم متمسكون بإيمانهم وأعمالهم، فيبقون عليها إلى أن يموتوا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَهُمْ أَجْرٌ‏}‏ أي ثواب ‏{‏غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ غير مقطوع، ولا ممنون به أيضًا فكلمه ‏{‏مَمْنُونٍ‏}‏ صالحه لمعنى القطع، وصالحة لمعنى المنة، فهم لهم أجر لا ينقطع، ولا يمن عليهم به، يعني أنهم إذا استوفوا هذا الأجر لا يمن عليهم فيقال أعطيناكم وفعلنا وفعلنا، وإن كانت المنة لله عز وجل عليهم بالإيمان والعمل الصالح والثواب، كلها منّة من الله لكن لا يمن عليهم به، أي‏:‏ لا يؤذون بالمن كما يجري ذلك في أمور الدنيا، إذا أحسن إليك أحد من الناس فربما يؤذيك بمنه عليك، في كل مناسبة يقول‏:‏ فعلت بك، أعطيتك وما أشبه ذلك‏.‏ ثم قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏ انتقل الله تعالى من الكلام على وجه الغيبة إلى الكلام على وجه المقابلة والخطاب قال‏:‏ ‏{‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏ أي‏:‏ أي شيء يكذبك أيها الإنسان بعد هذا البيان ‏{‏بِالدِّينِ‏}‏ أي بما أمر الله به من الدين، ولهذا كلما نظر الإنسان إلى نفسه وأصله وخلقته، وأن الله اجتباه وأحسن خلقته، وأحسن فطرته فإنه يزداد إيمانًا بالله عز وجل، وتصديقًا بكتابه وبما أخبرت به رسله‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ‏}‏ وهذا الاستفهام للتقرير يقرر الله عز وجل أنه أحكم الحاكمين، وأحكم هنا اسم تفضيل وهو مأخوذ من الحكمة، ومن الحكم، فالحكم الأكبر الأعظم الذي لا يعارضه شيء هو حكم الله عز وجل، والحكمة العليا البالغة هي حكمة الله عز وجل فهو سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين قدرًا وشرعًا، وله الحكم، وإليه يرجع الأمر كله‏.‏ نسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم بكتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إنه على كل شيء قدير‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:46 PM   المشاركة رقم: 24
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة العلق



‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ هذه الآيات أول ما نزل على الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - من القرآن الكريم، نزلت عليه وهو يتعبد في غار حراء وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أول ما بدء بالوحي أنه يرى الرؤيا في المنام، فتأتي مثل فلق الصبح يعني يحدث ما يصدق هذه الرؤيا، وأول ما كان يرى هذه الرؤيا في ربيع الأول فبقي ستة أشهر يرى مثل هذه الرؤيا ويراها تجيء مثل فلق الصبح، وفي رمضان نزل الوحي الذي في اليقظة، والمدة بين ربيع الأول ورمضان ستة شهور، وزمن الوحي ثلاث وعشرون سنة، ولهذا جاء في الحديث ‏(‏أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جـزءًا من النبوة‏)‏، لما كان يرى هذه الرؤيا التي تجيء مثل فلق الصبح حُبب إليه الخلاء، يعني أن يخلو بنفسه ويبتعد عن هذا المجتمع الجاهلي، فرأى - صلى الله عليه وآله وسلم - أن أحسن ما يخلو به هذا الغار الذي في جبل حراء وهو غار في قمة الجبل لا يكاد يصعد إليه الإنسان القوي إلا بمشقة، فكان يصعده - صلى الله عليه وآله وسلم - ويتحنث، يتعبد لله عز وجل بما فتح الله عليه في هذا الغار الليالي ذوات العدد، يعني عدة ليال، ومعه زاد أخذه يتزود به من طعام وشراب، ثم ينزل ويتزود لمثلها من أهله، ويرجع ويتحنث لله عز وجل، إلى أن نزل عليه الوحي وهو في هذا الغار، أتاه جبريل وأمره أن يقرأ فقال‏:‏ ‏(‏ما أنا بقارئ‏)‏ ومعنى ‏(‏ما أنا بقارئ‏)‏ يعني لست من ذوي القراءة، وليس مراده المعصية لأمر جبريل، لكنه لا يستطيع، ليس من ذوي القراءة، إذ أنه - صلى الله عليه وسلّم - كان أميًّا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 58‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ فكان لا يقرأ ولا يكتب، وهذا من حكمة الله أنه لا يقرأ ولا يكتب، حتى تتبين حاجته وضرورته إلى هذه الرسالة، وحتى لا يبقى لشاك شك في صدقه، وقد أشار الله إلى هذه في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 48‏]‏‏.‏ قال له‏:‏ ‏(‏ما أنا بقارئ‏)‏ فغطه مرتين أو ثلاثًا، ثم قال له ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ خمس آيات نزلت فرجع بها النبي - صلى الله عليه وسلّم - يرجف فؤاده من الخوف والفزع حتى أتى إلى خديجة، وحديث الوحي وابتداءه موجود في أول صحيح البخاري من أحب أن يرجع إليه فليرجع يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏ قيل معناه متلبسًا بذلك، وقيل مستعينًا بذلك، يعني اقرأ مستعينًا باسم الله؛ لأن أسماء الله تعالى كلها خير، وكلها إعانة يستعين بها الإنسان، ويستعين بها على وضوئه، ويستعين بها على أكله، ويستعين بها على جماعه فهي كلها عون، وقال‏:‏ ‏{‏بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏ دون أن يقول باسم الله لأن المقام مقام ربوبية وتصرف وتدبير للأمور وابتداء رسالة فلهذا قال‏:‏ ‏{‏بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏ إلا أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قد رباه الله تعالى تربية خاصة ورباه كذلك ربوبية خاصة‏.‏ ‏{‏خَلَقَ خَلَقَ‏}‏ أي خلق كل شيء كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 62‏]‏‏.‏ فما من شيء في السماء ولا في الأرض، من خفي وظاهر، وصغير وكبير إلا وهو مخلوق لله عز وجل ولهذا قال‏:‏ ‏{‏خَلَقَ‏}‏ وحذف المفعول إشارة للعموم؛ لأن حذف المفعول يفيد العموم، إذ لو ذكر المفعول لتقيد الفعل به، لو قال خلق كذا تقيد الخلق بما ذكر فقط، لكن إذا قال ‏{‏خَلَقَ‏}‏ وأطلق صار عامًّا فهو خالق كل شيء جل وعلا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏ خص الله تعالى خلق الإنسان تكريمًا للإنسان وتشريفًا له؛ لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 70‏]‏‏.‏ فلهذا نص على خلق الإنسان ‏{‏خَلَقَ الإِنسَانَ‏}‏ أي ابتدأ خلقه ‏{‏مِنْ عَلَقٍ‏}‏ جمع، أو اسم جمع علقة، كشجر اسم جمع شجرة، والعلق عبارة عن دودة حمراء من الدم صغيرة وهذا هو المنشأ الذي به الحياة؛ لأن الإنسان دم لو تفرغ من الدم لهلك‏.‏ وقد بين الله عز وجل أنه خلق الإنسان من علق، ولكنه يتطور، وبين في آيات أخرى أنه خلق الإنسان من تراب، وفي آيات أخرى خلقه من طين، وفي آيات أخرى من صلصال كالفخار، وفي آيات أخرى من ماء دافق، وفي آيات أخرى من ماء مهين، وفي هذه الآية من علق فهل في هذا تناقض‏؟‏ الجواب‏:‏ ليس هناك تناقض، ولا يمكن أن يكون في كلام الله تعالى، أو ما صح عن رسوله - صلى الله عليه وسلّم - شيء من التناقض أبدًا، فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏‏.‏ لكنه سبحانه وتعالى يذكر أحيانًا مبدأ الخلق من وجه، ومبدأ الخلق من وجه آخر، فخلقه من تراب؛ لأن أول ما خلق الإنسان من التراب ثم صب عليه الماء فكان طينًا ثم استمر مدة فكان حمئًا مسنونًا، ثم طالت مدته فكان صلصالًا، يعني إذا ضربته بيدك تسمع له صلصلة كالفخار، ثم خلقه عز وجل لحمًا، وعظمًا، وعصبًا إلى آخره، هذا ابتداء الخلق المتعلق بآدم‏.‏ والخلق الاخر من بنيه أول منشئهم من نطفة، وهي الماء المهين وهي الماء الدافق، هذه النطفة تبقى في الرحم أربعين يومًا، ثم تتحول شيئًا فشيئًا وبتمام الأربعين تتقلب بالتطور والتدريج حتى تكون دمًا علقة، ثم تبدأ بالنمو والثخونة وتتطور شيئًا فشيئًا، فإذا تمت ثمانين يومًا انتقلت إلى مضغة - قطعة من لحم بقدر ما يمضغه الإنسان - وتبقى كذلك أربعين يومًا فهذه مائة وعشرون يومًا، وهي بالأشهر أربعة أشهر، بعد أربعة أشهر يبعث الله إليه الملك الموكل بالأرحام، فينفخ فيه الروح، فتدخل الروح في الجسد بإذن الله عز وجل، والروح لا نستطيع أن نعرف كنهها وحقيقتها ومادتها، أما الجسد فأصله من التراب، ثم في أرحام النساء من النطفة، لكن الروح لا نعرف من أي جوهر هي‏؟‏ ولا من أي مادة ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏ فينفخ الملك الروح في هذا الجنين فيبدأ يتحرك، لأن نماءه الأول كنماء الأشجار بدون إحساس، بعد أن تنتفخ فيه الروح يكون آدميًا يتحرك، ولهذا إذا سقط الحمل من البطن قبل أربعة أشهر دفن في أي مكان من الأرض، بدون تغسيل، ولا تكفين، ولا صلاة عليه، ولا يبعث؛ لأنه ليس آدميًّا، وبعد أربعة أشهر إذا سقط يجب أن يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن في المقابر؛ لأنه صار إنسانًا، ويسمى أيضًا؛ لأنه يوم القيامة سيدعى باسمه، ويعق عنه، لكن العقيقة عنه ليست في التأكيد كالعقيقة عمن بلغ سبعة أيام بعد خروجه، على كل حال هذا الجنين في بطن أمه يتطور حتى يكون بشرًا، ثم يأذن الله عز وجل له بعد المدة التي أكثر ما تكون عادة تسعة أشهر فيخرج إلى الدنيا‏.‏ وبهذه المناسبة أبين أن للإنسان أربع دور‏:‏ الدار الأولى‏:‏ في بطن أمه‏.‏ الدار الثانية‏:‏ في الدنيا‏.‏ الدار الثالثة‏:‏ في البرزخ‏.‏ الدار الرابعة‏:‏ في الجنة أو النار وهي المنتهى‏.‏ ‏{‏اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ‏}‏ ‏{‏اقْرَأْ‏}‏ تكرار للأولى لكن هل هي توكيد أو هي تأسيس‏؟‏ الصحيح أنها تأسيس وأن الأولى ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ قرنت بما يتعلق بالربوبية، و‏{‏اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ‏}‏ قرنت بما يتعلق بالشرع، فالأولى بما يتعلق بالقدر، والثانية بما يتعلق بالشرع، لأن التعليم بالقلم أكثر ما يعتمد الشرع عليه، إذ أن الشرع يكتب ويحفظ، والقرآن يكتب ويحفظ، والسنة تكتب وتحفظ، وكلام العلماء، يكتب ويحفظ، فلهذا أعادها الله مرة ثانية‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَه سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ‏}‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى‏}‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ في القرآن الكريم ترد على عدة معاني منها‏:‏ أن تكون بمعنى حقًّا كما في هذه الآية فـ‏{‏كَلاَّ‏}‏ بمعنى حقًّا، يعني أن الله تعالى يثبت هذا إثباتًا لا مرية فيه ‏{‏إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى‏}‏ الإنسان هنا ليس شخصًا معينًا، بل المراد الجنس، كل إنسان من بني آدم إذا رأى نفسه استغنى فإنه يطغى، من الطغيان وهو مجاوزة الحد، إذا رأى أنه استغنى عن رحمة الله طغى ولم يبالِ، إذا رأى أنه استغنى عن الله عز وجل في كشف الكربات وحصول المطلوبات صار لا يلتفت إلى الله ولا يبالي، إذا رأى أنه استغنى بالصحة نسي المرض، وإذا رأى أنه استغنى بالشبع نسي الجوع، إذا رأى أنه استغنى بالكسوة نسي العري، وهكذا فالإنسان من طبيعته الطغيان والتمرد متى رأى نفسه في غنى، ولكن هذا يخرج منه المؤمن، لأن المؤمن لا يرى أنه استغنى عن الله طرفة عين، فهو دائمًا مفتقر إلى الله سبحانه وتعالى، يسأل ربه كل حاجة، ويلجأ إليه عند كل مكروه، ويرى أنه إن وكله الله إلى نفسه وكله إلى ضعف وعجز وعورة، وأنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضًّرا، هذا هو المؤمن، لكن الإنسان من حيث هو إنسان من طبيعته الطغيان، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 72‏]‏‏.‏ ثم قال عز وجل مهددًا هذا الطاغية ‏{‏إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى‏}‏ أي المرجع يعني مهما طغيت وعلوت واستكبرت واستغنيت فإن مرجعك إلى الله عز وجل، كما قال الله تبارك وتعالى ‏{‏إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 23 - 26‏]‏‏.‏ وإذا كان المرجع إلى الله في كل الأمور فإنه لا يمكن لأحد أن يفر من قضاء الله أبدًا، ولا من ثواب الله وعدله، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى‏}‏ ربما نقول إنه أعم من الوعيد والتهديد يعني أنه يشمل الوعيد والتهديد، ويشمل ما هو أعم فيكون المعنى أن إلى الله المرجع في كل شيء في الأمور الشرعية التحاكم إلى الكتاب والسنة ‏{‏فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏‏.‏ والأمور الكونية المرجع فيها إلى الله ‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 9‏]‏‏.‏ فلا رجوع للعبد إلا إلى الله، كل الأمور ترجع إلى الله عز وجل، يفعل ما يشاء، حتى ما يحصل بين الناس من الحروب والفتن والشرور فإن الله هو الذي قدرها، لكنه قدرها لحكمة كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏ إذن ‏{‏إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى‏}‏ يكون فيها تهديد لهذا الإنسان الذي طغى حين رأى نفسه مستغنيًا عن ربه، وفيها أيضًا ما هو أشمل وأعم وهو أن المرجع إلى الله تعالى في كل الأمور‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى‏}‏ يعني أخبرني عن حال هذا الرجل وتعجب من حال هذا الرجل الذي ينهى عبدًا إذا صلى، ففي الآية ناهي ومنهي، فالناهي هو طاغية قريش أبو جهل، وكان يسمى في قريش أبا الحكم؛ لأنهم يتحاكمون إليه، ويرجعون إليه فاغتر بنفسه، وشرق بالإسلام ومات على الكفر كما هو معروف، هذا الرجل سماه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبا جهل ضد تسميتهم إياه أبا الحكم‏.‏ وأما المنهي فهو محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو العبد ‏{‏عَبْدًا إِذَا صَلَّى‏}‏ أبو جهل قيل له‏:‏ إن محمدًا يصلي عند الكعبة أمام الناس، يفتن الناس ويصدهم عن أصنامهم وآلهتهم، فمر به ذات يوم وهو ساجد فنهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال‏:‏ لقد نهيتك فلماذا تفعل‏؟‏ فانتهره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فرجع، ثم قيل لأبي جهل إنه أي محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم مازال يصلي فقال‏:‏ والله لئن رأيته لأطأن عنقه بقدمي، ولأعفرن وجهه بالتراب، فلما رآه ذات يوم ساجدًا تحت الكعبة وأقبل عليه يريد أن يبر بيمينه وقسمه، لما أقبل عليه وجد بينه وبينه خندقًا من النار وأهوالًا عظيمة، فنكص على عقبيه وعجز أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذا العبد الذي ينهى عبدًا إذا صلى يتعجب من حاله كيف يفعل هذا‏؟‏ ولهذا جاء في آخر الآيات ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى‏}‏ وأنه سيجازيه ثم قال‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى‏}‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ‏}‏ يعني أخبرني أيها المخاطب إن كان هذا الساجد محمد - صلى الله عليه وسلّم - على الهدى فكيف تنهاه عنه‏.‏ ‏{‏أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى‏}‏ قال بعض المفسرين ‏{‏أَوْ‏}‏ هنا بمعنى الواو يعني وأمر بالتقوى، ولكن الصحيح أنها على بابها للتنويع، يعني أرأيت إن كان على الهدى فيما فعل من السجود والصلاة، أو أمر غيره بالتقوى؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يأمر بالتقوى بلا شك فهو صالح بنفسه مصلح لغيره‏.‏ ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى‏}‏ يعني يرى المنهي وهو الساجد محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم الامر بالتقوى ويرى هذا العبد الطاغية الذي ينهى عبدًا إذا صلى ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى‏}‏ يرى سبحانه وتعالى علمًا ورؤية، فهو سبحانه يرى كل شيء مهما خفي ودق، ويعلم كل شيء مهما بعد، ومهما كثر أو قل، فيعلم الامر والناهي ويعلم المصلي والساجد، ويعلم من طغى، ومن خضع لله عز وجل، وسيجازي كل إنسان بعمله، والمقصود من هذا تهديد الذي ينهى عبدًا إذا صلى، وبيان أن الله تعالى يعلم بحاله، وحال من ينهاه، وسيجازي كلًا منهما بما يستحق‏.‏ فهذا تهديد لهذا الرجل الذي كان ينهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الصلاة، يعني ألم يعلم هذا الرجل أن الله تعالى يراه ويعلمه، وهو سبحانه وتعالى محيط بعمله، فيجازيه عليه إما في الدنيا، وإما في الدنيا والاخرة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ‏}‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ هذه بمعنى حقًّا، ويحتمل أن تكون للردع، أي لردعه عن فعله السيىء الذي كان يقوم به تجاه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو بمعنى حقًّا ‏{‏لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ‏}‏ جملة ‏{‏لَنَسْفَعًا‏}‏ جواب لقسم مقدر والتقدير‏:‏ والله لئن لم ينته لنسفعن بالناصية، وحذف جواب الشرط وبقي جواب القسم، لأن هذه هي القاعدة في اللغة العربية أنه إذا اجتمع قسم وشرط فإنه يحذف جواب المتأخر، قال ابن مالك في ألفيته‏:‏ واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزموهنا المتأخر هو الشرط ‏{‏لَئِن‏}‏ والقسم مقدر قبله إذ تقديره‏:‏ والله لئن لم ينته لنسفعن، ومعنى ‏{‏لَنَسْفَعًا‏}‏ أي لنأخذن بشدة و‏{‏النَّاصِيَةِ‏}‏ مقدم الرأس و‏(‏الـ‏)‏ فيها أي‏:‏ في الناصية للعهد الذهني، والمراد بالناصية هنا ناصية أبي جهل الذي توعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على صلاته ونهاه عنها، أي لنسفعن بناصيته، وهل المراد الأخذ بالناصية في الدنيا، أو في الاخرة يجر بناصيته إلى النار‏؟‏ يحتمل هذا وهذا، يحتمل أنه يؤخذ بالناصية وقد أخذ بناصيته في يوم بدر حين قتل مع من قتل من المشركين، ويحتمل أن يكون يؤخذ بناصيته يوم القيامة فيقذف في النار كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وإذا كانت الآية صالحة لمعنيين لا يناقض أحدهما الاخر فإن الواجب حملها على المعنيين جميعًا كما هو المعروف والذي قررناه سابقًا وهو أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين لا ينافي أحدهما الاخر فالواجب الأخذ بالمعنيين جميعًا‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ‏}‏ ناصية بدل من الناصية الأولى، وهي بدل نكرة من معرفة، وهي جائزة في اللغة العربية وإنما قال‏:‏ ‏{‏نَاصِيَةٍ‏}‏ من أجل أن يكون ذلك توطئة للوصف الاتي بعدها وهو قوله ‏{‏كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ‏}‏ ‏{‏كَاذِبَةٍ‏}‏ أي أنها موصوفة بالكذب، ولا شك أن من أكبر ما يكون كذبًا ما يحصل من الكفار الذين يدعون أن مع الله ألهة أخرى، فإن هذا أكذب القول وأقبح الفعل، ‏{‏خَاطِئَةٍ‏}‏ أي مرتكبة للخطأ عمدًا، وليعلم أن هناك فرقًا بين خاطىء ومخطىء، الخاطىء من ارتكب الخطأ عمدًا، والمخطىء من ارتكبه جهلًا، والثاني معذور، والأول غير معذور، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُونَ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 37‏]‏‏.‏ أي المذنبون ذنبًا عن عمد، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏‏.‏ فقال الله قد فعلت، ومثل ذلك القاسط والمقسط، القاسط هو الجائر، والمقسط هو العادل، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 15‏]‏‏.‏ إذًا ‏{‏خَاطِئَةٍ‏}‏ أي مرتكبة للإثم عمدًا‏.‏ ‏{‏فَلْيَدْعُ نَادِيَه‏}‏ اللام هنا للتحدي، يعني إن كان صادقًا وعنده قوة، وعنده قدرة فليدع ناديه، والنادي هو مجتمع القوم للتحدث بينهم والتخاطب والتفاهم والاستئناس بعضهم ببعض، وكان أبو جهل معظمًا في قريش، وله نادي يجتمع الناس إليه فيه، ويتكلمون في شؤونهم فهنا يقول الله عز وجل إن كان صادقًا فليدع ناديه، وهذا لا شك أنه تحدي، كما تقول لعدوك إن كان لك قوم فتقدم وما أشبه ذلك من الكلمات الدالة على التحدي‏.‏ ‏{‏فَلْيَدْعُ نَادِيَه‏}‏ يعني عندنا من هم أعظم من نادي هذا الرجل وهم الزبانية ملائكة النار، وقد وصف الله ملائكة النار بأنهم غلاظ شداد، غلاظ في الطباع، شداد في القوة ‏{‏لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏‏.‏ بل يمتثلون كل ما أمرهم الله به ‏{‏وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ لا يعجزون عن ذلك فوصفهم بوصفين أنهم في تمام الانقياد لله عز وجل ‏{‏لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ‏}‏ وأنهم في تمام القدرة ‏{‏وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ وعدم تنفيذ أمر الله عز وجل إما أن يكون للعجز، وإما أن يكون للمعصية، فمثلًا الذي لا يصلي الفرض قائمًا قد يكون للعجز، وقد يكون للعناد فهو لا ينفذ أمر الله، لكن الملائكة الذين على النار ليس عندهم عجز، بل عندهم قوة وقدرة، وليس عندهم استكبار عن الأمر، بل عندهم تمام التذلل والخضوع، هؤلاء الزبانية لا يمكن لهذا وقومه وناديه أن يقابلوهم أبدًا ولهذا قال‏:‏ ‏{‏سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ‏}‏ فإن قال قائل‏:‏ أين الواو في قوله ‏{‏سَنَدْعُ‏}‏‏؟‏ قلنا‏:‏ إنها محذوفة لالتقاء الساكنين، لأن الواو ساكنة والهمزة همزة الوصل ساكنة، وإذا التقى ساكنان فإنه إن كان الحرف صحيحًا كسر، وإن كان غير صحيح حذف، قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته‏:‏ إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق وإن يكن لينًا فحذفه استحقيعني إذا التقى ساكنان إن كان الحرف الأول صحيحًا ليس من حروف العلة كسر مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ وأصلها ‏{‏لَمْ يَكُنِ‏}‏ لأن لم إذا دخلت على الفعل جزمته كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ لكن هنا التقى ساكنان، وكان الأول حرفًا صحيحًا فكسر، أما إذا كان الأول حرف لين، يعني حرف من حروف العلة فإنه يحذف كما في هذه الآية ‏{‏سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ‏}‏‏.‏ ‏{‏كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ‏}‏ يقال في ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ما قيل في الأولى التي قبلها والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏لا تُطِعْهُ‏}‏ أي لا تطع هذا الذي ينهاك عن الصلاة، بل اسجد ولا تبالي به، وإذا كان الله نهى نبيه - صلى الله عليه وسلّم - أن يطيع هذا الرجل فهذا يعني أنه جل وعلا سيدافع عنه، يعني افعل ما تؤمر ولا يهمنك هذا الرجل، واسجد لله عز وجل، والمراد بالسجود هنا الصلاة، لكن عبر بالسجود عن الصلاة لأن السجود ركن في الصلاة لا تصح إلا به، فلهذا عبر به عنها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَاقْتَرِبْ‏}‏ أي اقترب من الله عز وجل؛ لأن الساجد أقرب ما يكون من ربه كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال‏:‏ ‏(‏أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد‏)‏، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم‏)‏، أي حري أن يستجاب لكم‏.‏ هذه السورة ‏(‏العلق‏)‏ سورة عظيمة ابتدأها الله تعالى بما منّ به على رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - من الوحي، ثم اختتمها بالسجود والاقتراب من الله عز وجل، نسأل الله تعالى أن يرزقنا القيام بطاعته والقرب منه، وأن يجعلنا من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين، إنه على كل شيء قدير‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:48 PM   المشاركة رقم: 25
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة القدر


‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‏}‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ‏}‏ الضمير هنا يعود إلى الله عز وجل، والهاء في قوله ‏{‏أَنزَلْنَاهُ‏}‏ يعود إلى القرآن، وذكر الله تعالى نفسه بالعظمة ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ‏}‏ لأنه سبحانه وتعالى العظيم الذي لا شيء أعظم منه، والله تعالى يذكر نفسه أحيانًا بصيغة العظمة مثل هذه الآية الكريمة ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‏}‏ ومثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏ ومثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وأحيانًا يذكر نفسه بصيغة الواحد مثل ‏{‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وذلك لأنه واحد عظيم، فباعتبار الصفة يأتي ضمير العظمة، وباعتبار الوحدانية يأتي ضمير الواحد‏.‏ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏أَنزَلْنَاهُ‏}‏ ضمير المفعول به وهي الهاء يعود إلى القرآن وإن لم يسبق له ذكر؛ لأن هذا أمر معلوم، ولا يمتري أحد في أن المراد بذلك إنزال القرآن الكريم، أنزله الله تعالى في ليلة القدر فما معنى إنزاله في ليلة القدر‏؟‏ الصحيح أن معناها‏:‏ ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر، وليلة القدر في رمضان لا شك في هذا ودليل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏ فإذا جمعت هذه الآية أعني ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ‏}‏ إلى هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‏}‏ تبين أن ليلة القدر في رمضان، وبهذا نعرف أن ما اشتهر عند بعض العامة من أن ليلة القدر هي ليلة النصف من شهر شعبان لا أصل له، ولا حقيقة له، فإن ليلة القدر في رمضان، وليلة النصف من شعبان كليلة النصف من رجب، وجمادى، وربيع، وصفر، ومحرم وغيرهن من الشهور لا تختص بشيء، حتى ما ورد في فضل القيام فيها فهو أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، وكذلك ما ورد من تخصيص يومها وهو يوم النصف من شعبان بصيام فإنها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، لكن بعض العلماء - رحمهم الله - يتساهلون في ذكر الأحاديث الضعيفة فيما يتعلق بالفضائل‏:‏ فضائل الأعمال، أو الشهور، أو الأماكن وهذا أمر لا ينبغي، وذلك لأنك إذا سقت الأحاديث الضعيفة في فضل شيء ما، فإن السامع سوف يعتقد أن ذلك صحيح، وينسبه إلى الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وهذا شيء كبير، فالمهم أن يوم النصف من شعبان وليلة النصف من شعبان لا يختصان بشيء دون سائر الشهور، فليلة النصف لا تختص بفضل قيام، وليلة النصف ليست ليلة القدر، ويوم النصف لا يختص بصيام، نعم شهر شعبان ثبتت السنة بأن النبي - صلى الله عليه وسلّم - يكثر الصيام فيه حتى لا يفطر منه إلا قليلًا وما سوى ذلك مما يتعلق بصيامه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلّم - إلا ما لسائر الشهور كفضل صوم ثلاثة أيام من كل شهر وأن تكون في الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وهي أيام البيض‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‏}‏ من العلماء من قال‏:‏ القدر هو الشرف كما يقال ‏(‏فلان ذو قدر عظيم، أو ذو قدر كبير‏)‏ أي ذو شرف كبير، ومن العلماء من قال‏:‏ المراد بالقدر التقدير، لأنه يقدر فيها ما يكون في السنة لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏ أي يفصل ويبين‏.‏ والصحيح أنه شامل للمعنيين، فليلة القدر لا شك أنها ذات قدر عظيم، وشرف كبير، وأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من الإحياء والإماتة والأرزاق وغير ذلك‏.‏ ثم قال جل وعلا‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ‏}‏ هذه الجملة بهذه الصيغة يستفاد منها التعظيم والتفخيم، وهي مطردة في القرآن الكريم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 1 - 3‏]‏‏.‏ ‏{‏الْقَارِعَة مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ‏}‏ فهذه الصيغة تعني التفخيم والتعظيم فهنا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ‏}‏ أي ما أعلمك ليلة القدر وشأنها وشرفها وعظمها، ثم بين هذا بقوله‏:‏ ‏{‏لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏ وهذه الجملة كالجواب للاستفهام الذي سبقها، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ‏}‏ الجواب‏:‏ ‏{‏لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏ أي من ألف شهر ليس فيه ليلة القدر، والمراد بالخيرية هنا ثواب العمل فيها، وما ينزل الله تعالى فيها من الخير والبركة على هذه الأمة، ولذلك كان من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ثم ذكر ما يحدث في تلك الليلة فقال‏:‏ ‏{‏تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا‏}‏ أي تنزل شيئًا فشيئًا؛ لأن الملائكة سكان السموات، والسموات سبع فتتنزل الملائكة إلى الأرض شيئًا فشيئًا حتى تملأ الأرض، ونزول الملائكة في الأرض عنوان على الرحمة والخير والبركة، ولهذا إذا امتنعت الملائكة من دخول شيء كان ذلك دليلًا على أن هذا المكان الذي امتنعت الملائكة من دخوله قد يخلو من الخير والبركة كالمكان الذي فيه الصور، فإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة، يعني صورة محرمة؛ لأن الصورة إذا كانت ممتهنة في فراش أو مخدة، فأكثر العلماء على أنها جائزة، وعلى هذا فلا تمتنع الملائكة من دخول المكان، لأنه لو امتنعت لكان ذلك ممنوعًا، فالملائكة تتنزل في ليلة القدر بكثرة، ونزولهم خير وبركة‏.‏ ‏{‏وَالرُّوحُ‏}‏ هو جبريل نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة خصه الله بالذكر لشرفه وفضله، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِإِذْنِ رَبِّهِم‏}‏ أي بأمره، والمراد به الإذن الكوني؛ لأن إذن الله - أي أمره - ينقسم إلى قسمين‏:‏ إذن كوني، وإذن شرعي، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 21‏]‏‏.‏ أي ما لم يأذن به شرعًا، لأنه قد أذن به قدرًا، فقد شرع من دون الله، لكنه ليس بإذن الله الشرعي، وإذن قدري كما في هذه الآية ‏{‏بِإِذْنِ رَبِّهِم‏}‏ أي بأمره القدري وقوله‏:‏ ‏{‏مِّن كُلِّ أَمْرٍ‏}‏ قيل إن ‏{‏مِنْ‏}‏ بمعنى الباء أي بكل أمر مما يأمرهم الله به، وهو مبهم لا نعلم ما هو، لكننا نقول إن تنزل الملائكة في الأرض عنوان على الخير والرحمة والبركة‏.‏ ‏{‏سَلامٌ هِيَ‏}‏ الجملة هنا مكونة من مبتدأ وخبر، والخبر فيها مقدم، والتقدير‏:‏ ‏"‏هي سلام‏"‏ أي هذه الليلة سلام، ووصفها الله تعالى بالسلام، لكثرة من يسلم فيها من الاثام وعقوباتها، قال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏، ومغفرة الذنوب لا شك أنها سلامة من وبائها وعقوباتها‏.‏ ‏{‏حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ‏}‏ أي تتنزل الملائكة في هذه الليلة حتى مطلع الفجر، أي إلى مطلع الفجر، وإذا طلع الفجر انتهت ليلة القدر‏.‏ تنبيه‏:‏ سبق أن قلنا إن ليلة القدر في رمضان، لكن في أي جزء من رمضان أفي أوله، أو وسطه، أو آخره‏؟‏ نقول في الجواب على هذا‏:‏ إن النبي - صلى الله عليه وسلّم - اعتكف العشر الأول، ثم العشر الأوسط تحريًا لليلة القدر، ثم قيل له‏:‏ إنها في العشر الأواخر فاعتكف العشر الأواخر، إذًا فليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان‏.‏ وفي أي ليلة منها‏؟‏ الله أعلم قد تكون في ليلة إحدى وعشرين، أو في ليلة الثلاثين، أو فيما بينهما، فلم يأت تحديد لها في ليلة معينة كل عام، ولهذا أري النبي - صلى الله عليه وسلّم - ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين ورأى في المنام أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين، فأمطرت السماء تلك الليلة أي ليلة إحدى وعشرين، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلّم - في مسجده، وكان مسجده من عريش لا يمنع تسرب الماء من السقف، فسجد النبي - صلى الله عليه وسلّم - صباحها أي في صلاة الفجر في الماء والطين، ورأى الصحابة نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة على جبهته أثر الماء والطين، ففي تلك الليلة كانت في ليلة إحدى وعشرين، ومع ذلك قال‏:‏ ‏(‏التمسوها في العشر الأواخر‏)‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏في الوتر من العشر الأواخر‏)‏، ورآها الصحابة ذات سنة من السنين في السبع الأواخر، فقال - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر‏)‏، يعني في تلك السنة، أما في بقية الأعوام فهي في كل العشر، فليست معينة، ولكن أرجاها ليلة سبع وعشرين، وقد تكون ‏(‏مثلًا‏)‏ في هذا العام ليلة سبع وعشرين، وفي العام الثاني ليلة إحدى وعشرين، وفي العام الثالث ليلة خمس وعشرين وهكذا‏.‏‏.‏ وإنما أبهمها الله عز وجل لفائدتين عظيمتين‏:‏ الفائدة الأولى‏:‏ بيان الصادق في طلبها من المتكاسل، لأن الصادق في طلبها لا يهمه أن يتعب عشر ليال من أجل أن يدركها، والمتكاسل يكسل أن يقوم عشر ليال من أجل ليلة واحدة‏.‏ الفائدة الثانية‏:‏ كثرة ثواب المسلمين بكثرة الأعمال؛ لأنه كلما كثر العمل كثر الثواب‏.‏ وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى غلط كثير من الناس في الوقت الحاضر حيث يتحرون ليلة سبع وعشرين في أداء العمرة، فإنك في ليلة سبع وعشرين تجد المسجد الحرام قد غص بالناس وكثروا، وتخصيص ليلة سبع وعشرين بالعمرة من البدع، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - لم يخصصها بعمرة في فعله، ولم يخصصها أي ليلة سبع وعشرين بعمرة في قوله، فلم يعتمر ليلة سبع وعشرين من رمضان مع أنه في عام الفتح ليلة سبع وعشرين من رمضان كان في مكة ولم يعتمر، ولم يقل للأمة تحروا ليلة سبع وعشرين بالعمرة، وإنما أمر أن نتحرى ليلة سبع وعشرين بالقيام فيها لا بالعمرة، وبه يتبين خطأ كثير من الناس، وبه أيضًا يتبين أن الناس ربما يأخذون دينهم كابرًا عن كابر، على غير أساس من الشرع، فاحذر أن تعبد الله إلا على بصيرة، بدليل من كتاب الله، أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلّم - أو عمل الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم‏.‏

وفي هذه السورة الكريمة فضائل متعددة لليلة القدر‏:‏ الفضيلة الأولى‏:‏ أن الله أنزل فيها القرآن الذي به هداية البشر وسعادتهم في الدنيا والاخرة‏.‏ الفضيلة الثانية‏:‏ ما يدل عليه الاستفهام من التفخيم والتعظيم في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ‏}‏‏.‏ الفضيلة الثالثة‏:‏ أنها خير من ألف شهر‏.‏ الفضيلة الرابعة‏:‏ أن الملائكة تتنزل فيها، وهم لا ينزلون إلا بالخير والبركة والرحمة‏.‏ الفضيلة الخامسة‏:‏ أنها سلام، لكثرة السلامة فيها من العقاب والعذاب بما يقوم به العبد من طاعة الله عز وجل‏.‏ الفضيلة السادسة‏:‏ أن الله أنزل في فضلها سورة كاملة تتلى إلى يوم القيامة‏.‏ ومن فضائل ليلة القدر ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال‏:‏ ‏(‏من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏، فقوله‏:‏ ‏"‏إيمانًا واحتسابًا‏"‏ يعني إيمانًا بالله وبما أعد الله من الثواب للقائمين فيها، واحتسابًا للأجر وطلب الثواب‏.‏ وهذا حاصل لمن علم بها ومن لم يعلم، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجر‏.‏ وبهذا انتهى الكلام على سورة القدر‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:49 PM   المشاركة رقم: 26
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة البينة



‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ‏}‏ يعني ما كان الكفار من ‏{‏أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ وهم اليهود والنصارى، سموا بذلك لأن صحفهم بقيت إلى أن بعث النبي - صلى الله عليه وسلّم - مع ما فيها من التحريف والتبديل والتغيير، ولكن هم أهل الكتاب، فاليهود لهم التوراة، والنصارى لهم الإنجيل ‏{‏وَالْمُشْرِكِينَ‏}‏ المشركون هم عبدة الأوثان من كل جنس من بني إسرائيل ومن غيرهم، لم يكن هؤلاء ‏{‏مُنفَكِّينَ‏}‏ أي تاركين لما هم عليه من الشرك والكفر ومنفكين عنه ‏{‏حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ والبينة ما يبين به الحق في كل شيء، فكل شيء يبين به الحق فإنه يسمى بينة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏البينة على المدعي‏)‏، فكل ما بان به الحق فهو بينة، ويكون في كل شيء بحسبه، فما هي البينة التي ذكرها الله هنا‏؟‏ البينة قال ‏{‏رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ‏}‏ وهذا الرسول هو النبي - صلى الله عليه وسلّم - محمد رسول الله ابن عبدالله الهاشمي القرشي صلوات الله وسلامه عليه، وجاء بصيغة النكرة ‏{‏رَسُولٌ‏}‏ تعظيمًا له؛ لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - جدير بأن يعظم التعظيم اللائق به من غير نقص ولا غلو ‏{‏رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ‏}‏ يعني أن الله أرسله إلى العالمين بشيرًا ونذيرًا، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏‏.‏ فهو محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - مرسل من عند الله بواسطة جبريل - صلى الله عليه وآله وسلم ـ؛ لأن جبريل هو رسول رب العالمين إلى رسله موكل بالوحي ينزل به على من شاء الله من عباده‏.‏ ‏{‏يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً‏}‏ يعني يقرأ لنفسه وللناس، ‏{‏صُحُفًا‏}‏ جمع صحيفة وهي الورقة أو اللوح أو ما أشبه ذلك مما يكتب به ‏{‏مُّطَهَّرَةً‏}‏ أي منقاة من الشرك، ومن رذائل الأخلاق، ومن كل ما يسوء، لأنها نزيهة مقدسة ‏{‏فِيهَا‏}‏ أي في هذه الصحف ‏{‏كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏ كتب‏:‏ أي مكتوبات قيمة، فكتب جمع كتاب، بمعنى مكتوب، والمعنى أن في هذه الصحف مكتوبات قيمة كتبها الله عز وجل، ومن المعلوم أن الإنسان إذا تصفح القرآن وجده كذلك، وجده يتضمن كتبًا أي مكتوبات قيمة، انظر إلى ما جاء به القرآن من توحيد الله عز وجل، والثناء عليه، وحمده وتسبيحه تجده مملوءًا بذلك، انظر إلى ما في القرآن من وصف النبي - صلى الله عليه وسلّم - ووصف أصحابه المهاجرين والأنصار ووصف التابعين لهم بإحسان، انظر إلى ما جاء به القرآن من الأمر بالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة تجد أن كل ما جاء به القرآن فهو قيم بنفسه، وكذلك هو مقيم لغيره ‏{‏فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏‏.‏ إذًا أخبر الله في هذه الآية أنه لا يمكن أن ينفك هؤلاء الكفار من أهل الكتاب والمشركين حتى تأتيهم البينة، فلما جاءتهم البينة هل انفكوا عن دينهم، عن كفرهم وشركهم‏؟‏ الجواب قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ يعني لما جاءتهم البينة اختلفوا، منهم من آمن، ومنهم من كفر، فمن النصارى من آمن مثل النجاشي ملك الحبشة، ومن اليهود من آمن أيضًا مثل عبدالله بن سلام - نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة - فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، فمن علم الله منه أنه يريد الخير، ويريد الدين لله آمن ووفق للإيمان، ومن لم يكن كذلك وفق للكفر، كذلك أيضًا من المشركين من آمن، وما أكثر المشركين من قريش الذين آمنوا، فصار الناس قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يزالوا على ما هم عليه من الكفر حتى جاءتهم البينة، ثم لما جاءتهم البينة تفرقوا واختلفوا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ‏}‏ بين الله تعالى في هذه الآية بيانًا مؤكدًا بـ‏(‏إن‏)‏ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ‏{‏فِي نَارِ جَهَنَّمَ‏}‏ أي في النار التي تسمى جهنم، وسميت جهنم، لبعد قعرها وسوادها، فهو مأخوذ من الُجهمة، وقيل‏:‏ إنه اسم أعجمي عربته العرب‏.‏ وأيًّا كان فإنه أعني لفظ ‏{‏جَهَنَّمَ‏}‏ اسم من أسماء النار، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ هنا بيان للإبهام، أعني إبهام الإسم الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ وعلى هذا فيقتضي أن أهل الكتاب كفار وهم ‏(‏اليهود والنصارى‏)‏، والأمر كذلك، فإن اليهود والنصارى كفار حين لم يؤمنوا برسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإن قالوا‏:‏ إنهم مؤمنون بالله واليوم الاخر، ويدعون لموتاهم بالرحمة وما أشبه ذلك من العبارات التي يتزلفون بها فإنهم كاذبون، إذ لو كانوا يؤمنون بالله واليوم الاخر لامنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلّم - بل لامنوا برسلهم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قد وجد وصفه في التوراة والإنجيل كما قال الله تبارك وتعالى في سورة الأعراف ‏{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏‏.‏ بل إن عيسى - صلى الله عليه وسلّم - قال لبني إسرائيل ‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 6‏]‏‏.‏ فلما جاء هذا الرسول الذي بشر به عيسى بالبينات، قالوا‏:‏ هذا سحر مبين، وكذبوه ولم يتبعوه إلا نفرًا قليلًا من اليهود والنصارى، فقد آمنوا بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم واتبعوه‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ‏}‏ أي شر الخليقة؛ لأن البرية هي الخليقة، وعلى هذا فيكون الكفار من بني آدم من ‏(‏اليهود والنصارى والمشركين‏)‏ شر البرية ‏(‏شر الخلائق‏)‏ وقد بين الله ذلك تمامًا في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 55‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 22‏]‏‏.‏ فهؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين هم شر البرية عند الله عز وجل، وإذا كانوا هم شر البرية فلن نتوقع منهم إلا كل شر، لأن الشرير ينبثق منه الشر، ولا يمكن أبدًا أن نحسن الظن بهم، قد نثق بالصادقين منهم كما وثق النبي - صلى الله عليه وسلّم - بالمشرك، عبدالله بن أريقط، حين استأجره ليدله على طريق الهجرة، لكن غالبهم وجمهورهم لا يوثق منهم، لأنهم شر، ولما ذكر الله حكم هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين ذكر حكم المؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ‏}‏ والقرآن الكريم مثاني تثنى فيه المعاني، فيؤتى بالمعنى وما يقابله، ويأتي بأصحاب النار وأصحاب الجنة، ويأتي بآيات الترهيب وآيات الترغيب، وهلم جرا، لأجل أن يكون الإنسان سائرًا إلى الله عز وجل بين الخوف والرجاء، ولئلا يمل، فإن تنويع الأساليب وتنويع المواضيع لا شك أنه يعطي النفس قوة واندفاعًا، بخلاف ما لو كان الكلام على وتيرة واحدة، فإن الإنسان قد يمل ولا تتحرك نفسه ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ‏}‏ فخير خلق الله عز وجل هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم على طبقات أربع بينها الله في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏‏.‏ هذه الطبقات الأربع هي طبقات المؤمنين أعلاها‏:‏ طبقة النبوة، وأعلى طبقات النبوة طبقة الرسالة، ثم بعد النبوة الصديقية، وعلى رأس الصديقين أبو بكر نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة‏.‏ الطبقة الثالثة‏:‏ الشهداء، قيل‏:‏ إنهم أُولوا العلم‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم الذين قتلوا في سبيل الله، والآية تحتمل المعنيين جميعًا بدون مناقضة، والذي ينبغي لمفسر القرآن أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين بدون مناقضة أن يحملها على المعنيين جميعًا، فالشهداء هم أولوا العلم، وهم الذين قتلوا في سبيل الله، وكلهم مرتبتهم عالية فوق سائر المتبعين للرسل إلا الصديقين؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالصَّالِحِينَ‏}‏ وهم أدنى الطبقات، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات على اختلاف طبقاتهم هم خير البرية، أي خير ما خلق الله عز وجل من البرايا، ثم بين جزاءهم فقال ‏{‏جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ وهنا قدم الله الثناء على المؤمنين الذين عملوا الصالحات على ذكر جزائهم، لأن ثناء الله عليهم أعظم مرتبة وأعلى منقبة، فلذلك قدمه على الجزاء الذي هو جزاؤهم في يوم القيامة ‏{‏جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ ‏{‏جَنَّاتُ‏}‏ جمعها لاختلاف أنواعها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال‏:‏ إن الجنات ‏(‏جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما‏)‏، وإلى هذا يشير قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 46‏]‏‏.‏ ثم ذكـر أوصاف هاتـين الجنتين، ثم قـال‏:‏ ‏{‏وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 62‏]‏‏.‏ فلهم جنـات والجنات التي ذكرها الله تعالى جزاء للمؤمنين العاملين الصالحات هي عبارة عن منازل عظيمـة أعدهـا الله عز وجل للمؤمنين المتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولا يمكن لإنسان في هذه الدنيا أن يتصور كيف نعيم الاخرة أبدًا، لأنه أعلى وأجل مما نتصور، قال ابن عباس نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةا ‏(‏ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء‏)‏، لكنها الحقائق تختلف اختلافًا عظيمًا، قال عز وجل‏:‏ ‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ‏}‏ العدن بمعنى الإقامة في المكان وعدم النزوح عنه، ومن تمام نعيم أهل الجنة أن كل واحد منهم لا يطلب تحولًا عما هو عليه من النعيم، لأنه لا يرى أن أحدًا أكمل منه، ولا يحس في قلبه أنه في غضاضة بالنسبة لمن هو أرقى منه وأكمل قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 108‏]‏‏.‏ أي لا يبغون تحولًا عما هم عليه لأن الله قد أقنعهم بما أعطاهم فلا يجدون أحدًا أكمل نعيمًا منهم، ولهذا سمى الله تعالى هذه الجنات جنات عدن ‏{‏تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ ‏{‏مِن تَحْتِهَا‏}‏ قال العلماء‏:‏ من تحت قصورها وأشجارها وإلا فهو على سطحها وليس أسفل، إنما هو من تحت هذه القصور والأشجار، والأنهار التي ذكرها الله عز وجل هنا مجملة فصلها في سورة ‏(‏محمد‏)‏ فقال‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وقد جاء في الاثار من وصف هذه الأنهار أنها تجري بغير أخدود وبغير خنادق بمعنى أن النهر يجري على سطح الأرض يتوجه حيث وجهه الإنسان، ولا يحتاج إلى شق خنادق، ولا إلى بناء أخدود تمنع سيلان الماء يمينًا وشمالًا، وفي هذا يقول ابن القيم - رحمه الله - في كتابه النونية‏:‏ أنهارها من غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان ‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا‏}‏ أي ماكثين فيها أبدًا، لا يموتون، ولا يمرضون، ولا يبأسون، ولا يألمون، ولا يحزنون، ولا يمسهم فيها نصب، فهم في أكمل النعيم دائمًا وأبدًا - أبد الابدين - ‏{‏رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ‏}‏ وهذا أكمل نعيم أن الله تعالى يرضى عنهم، فيحل عليهم رضوانه فلا يسخط بعده أبدًا، بل وينظرون إلى الله تبارك وتعالى بأعينهم كما يرون القمر ليلة البدر لا يشكون في ذلك، ولا يمترون في ذلك، ولا يتضامون في ذلك، أي لا ينضم بعضهم إلى بعض ليريه الاخر، بل كل إنسان يراه في مكانه حسب ما أراد الله عز وجل‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ‏}‏ أي ذلك الجزاء لمن خشي الله عز وجل، والخشية هي خوف الله عز وجل المقرون بالهيبة والتعظيم ولا يصدر ذلك إلا من عالم بالله كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏‏.‏ أي العلماء بعظمته وكمال سلطانه، فالخشية أخص من الخوف، ويتضح الفرق بينهما بالمثال‏:‏ إذا خفت من شخص لا تدري هل هو قادر عليك أم لا‏؟‏ فهذا خوف، وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر عليك فهذه خشية‏.‏ وبهذا تمت هذه السورة العظيمة وتم ما تيسر لنا من الكلام على تفسيرها، ونسأل الله أن يجعلنا ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته إنه على كل شيء قدير‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:50 PM   المشاركة رقم: 27
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة الزلزلة


‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا‏}‏ المراد بذلك ما ذكره الله تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏زِلْزَالَهَا‏}‏ يعني الزلزال العظيم الذي لم يكن مثله قط، ولهذا يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى‏}‏ يعني من شدة ذهولهم وما أصابهم تجدهم كأنهم سكارى، وما هم بسكارى بل هم صحاة، لكن لشدة الهول صار الإنسان كأنه سكران لا يدري كيف يتصرف، ولا كيف يفعل‏.‏ ‏{‏وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا‏}‏ المراد بهم‏:‏ أصحاب القبور، فإنه إذا نفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم نفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، يخرجون من قبورهم لرب العالمين عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 6‏]‏‏.‏ ‏{‏وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا‏}‏ الإنسان المراد به الجنس، يعني أن الإنسان البشر يقول‏:‏ ما لها‏؟‏ أي شيء لها هذا الزلزال‏؟‏ ولأنه يخرج وكأنه كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سُكَارَى‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 2‏]‏‏.‏ فيقول‏:‏ ما الذي حدث لها وما شأنها‏؟‏ لشدة الهول‏.‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ أي في ذلك اليوم إذا زلزلت ‏{‏تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا‏}‏ أي تخبر عما فعل الناس عليها من خير أو شر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن المؤذن إذا أذن فإنه لا يسمع صوته شجر، ولا مدر، ولا حجر، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة، فتشهد الأرض بما صنع عليها من خير أو شر، وهذه الشهادة من أجل بيان عدل الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى لا يؤاخذ الناس إلا بما عملوه، وإلا فإن الله تعالى بكل شيء محيط، ويكفي أن يقول لعباده جل وعلا عملتم كذا وعملتم كذا‏.‏‏.‏ لكن من باب إقامة العدل وعدم إنكار المجرم؛ لأن المجرمين ينكرون أن يكونوا مشركين، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏‏.‏ لأنهم إذا رأوا أهل التوحيد قد خلصوا من العذاب ونجوا منه أنكروا الشرك لعلهم ينجون، ولكنهم يختم على أفواههم، وتكلم الأيدي، وتشهد الأرجل والجلود والألسن كلها تشهد على الإنسان بما عمل، وحينئذ لا يستيطع أن يبقى على إنكاره بل يقر ويعترف، إلا أنه لا ينفع الندم في ذلك الوقت‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا‏}‏ هو جواب الشرط في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا‏}‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا‏}‏ أي بسبب أن الله أوحى لها، يعني أذن لها في أن تحدث أخبارها، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير إذا أمر شيئًا بأمر فإنه لابد أن يقع، يخاطب الله الجماد فيتكلم الجماد كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال الله تعالى للقلم اكتب، قال‏:‏ ربِّ وماذا أكتب‏؟‏ قال‏:‏ اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة‏.‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 65‏]‏‏.‏ فالله عز وجل إذا وجه الكلام إلى شيء ولو جمادًا فإنه يخاطب الله ويتكلم ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ يعني يومئذ تزلزل الأرض زلزالها‏.‏ ‏{‏يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا‏}‏ أي جماعات متفرقين، يصدرون كل يتجه إلى مأواه، فأهل الجنة - جعلنا الله منهم - يتجهون إليها، وأهل النار - والعياذ بالله - يساقون إليها ‏{‏يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 85 - 87‏]‏‏.‏ فيصدر الناس جماعات وزمرًا على أصناف متباينة تختلف اختلافًا كبيرًا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 21‏]‏‏.‏ ‏{‏لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ‏}‏ يعني يصدرون أشتاتًا فيروا أعمالهم، يريهم الله تعالى أعمالهم إن خيرًا فخير، وإن شًّرا فشر، وذلك بالحساب وبالكتاب، فيعطى الإنسان كتابه إما بيمينه، وإما بشماله، ثم يحاسب على ضوء ما في هذا الكتاب، يحاسبه الله عز وجل، أما المؤمن فإن الله تعالى يخلو به وحده ويقرره بذنوبه ويقول‏:‏ فعلت كذا، وفعلت كذا وكذا، وفعلت كذا، حتى يقر ويعترف، فإذا رأى أنه هلك، قال الله عز وجل‏:‏ ‏(‏إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم‏)‏، وأما الكافر - والعياذ بالله - فإنه لا يعامل هذه المعاملة بل ينادى على رؤوس الأشهاد ‏{‏هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ‏}‏ هذا مضاف والمضاف يقتضي العموم وظاهره أنهم يرون الأعمال الصغير والكبير وهو كذلك، إلا ما غفره الله من قبل بحسنات، أو دعاء أو ما أشبه ذلك فهذا يمحى كما قال الله تعالى ‏{‏إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏‏.‏ فيرى الإنسان عمله، يرى عمله القليل والكثير حتى يتبين له الأمر جليًّا ويعطى كتابه ويقال‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 64‏]‏‏.‏ ولهذا يجب على الإنسان أن لا يقدم على شيء لا يرضي الله عز وجل؛ لأنه يعلم أنه مكتوب عليه، وأنه سوف يحاسب عليه‏.‏ ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ ‏{‏مَن‏}‏ شرطية تفيد العموم، يعني‏:‏ أي إنسان يعمل مثقال ذرة فإنه سيراه، سواء من الخير، أو من الشر ‏{‏مِثْقَالَ ذَرَّةٍ‏}‏ يعني وزن ذرة، والمراد بالذرة‏:‏ صغار النمل كما هو معروف، وليس المراد بالذرة‏:‏ الذرة المتعارف عليها اليوم كما ادعاه بعضهم، لأن هذه الذرة المتعارف عليها اليوم ليست معروفة في ذلك الوقت، والله عز وجل لا يخاطب الناس إلا بما يفهمون، وإنما ذكر الذرة لأنها مضرب المثل في القلة، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 40‏]‏‏.‏ ومن المعلوم أن من عمل ولو أدنى من الذرة فإنه سوف يجده، لكن لما كانت الذرة مضرب المثل في القلة قال الله تعالى ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ‏}‏‏.‏ وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏مِثْقَالَ ذَرَّةٍ‏}‏ يفيد أن الذي يوزن هو الأعمال، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم‏:‏ فمن العلماء من قال‏:‏ إن الذي يوزن العمل‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ إن الذي يوزن صحائف الأعمال‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ إن الذي يوزن هو العامل نفسه‏.‏ ولكل دليل، أما من قال‏:‏ إن الذي يوزن هو العمل فاستدل بهذه الآية ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ‏}‏ لأن تقدير الآية فمن يعمل عملًا مثقال ذرة‏.‏ واستدلوا أيضًا بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏(‏كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم‏)‏‏.‏ لكن يشكل على هذا أن العمل ليس جسمًا يمكن أن يوضع في الميزان بل العمل عمل انتهى وانقضى‏.‏ ويجاب عن هذا بأن يقال‏:‏ أولًا‏:‏ على المرء أن يصدق بما أخبر الله تعالى به ورسوله - صلى الله عليه وسلّم - من أمور الغيب، وإن كان عقله قد يحار فيه، ويتعجب ويقول كيف يكون هذا‏؟‏ فعليه التصديق لأن قدرة الله تعالى فوق ما نتصور، فالواجب على المسلم أن يسلم ويستسلم ولا يقول كيف‏؟‏ لأن أمور الغيب فوق ما يتصور‏.‏ ثانيًا‏:‏ أن الله تعالى يجعل هذه الأعمال أجسامًا توضع في الميزان وتثقل وتخف، والله تعالى قادر على أن يجعل الأمور المعنوية أجسامًا، كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلّم - في أن الموت يؤتى به على صورة كبش ويوقف بين الجنة والنار فيقال‏:‏ يا أهل الجنة فيشرئبون ويطلعون ويقال‏:‏ يا أهل النار فيشرئبون ويطلعون فيقال لهم‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم، هذا الموت، مع أنه في صورة كبش والموت ‏(‏معنى‏)‏ ليس جسمًا ولكن الله تعالى يجعله جسمًا يوم القيامة، فيقولون‏:‏ هذا الموت فيذبح أمامهم ويقال‏:‏ يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، وبهذا يزول الإشكال الوارد على هذا القول‏.‏ أما من قال‏:‏ إن الذي يوزن هو صحائف الأعمال فاستدلوا بحديث صاحب البطاقة الذي يؤتى يوم القيامة به، ويقال‏:‏ انظر إلى عملك فتمد له سجلات مكتوب فيها العمل السيىء، سجلات عظيمة، فإذا رأى أنه قد هلك أتي ببطاقة صغيرة فيها لا إله إلا الله فيقول‏:‏ يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات‏؟‏ فيقال له‏:‏ إنك لا تظلم شيئًا، ثم توزن البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فترجح بهن البطاقة وهي لا إله إلا الله قالوا فهذا دليل على أن الذي يوزن هو صحائف الأعمال‏.‏ وأما الذين قالوا‏:‏ إن الذي يوزن هو العامل نفسه فاستدلوا بحديث عبدالله بن مسعود نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة أنه كان ذات يوم مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهبت ريح شديدة، فقام عبدالله بن مسعود نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة فجعلت الريح تكفئه؛ لأنه نحيف القدمين والساقين، فجعل الناس يضحكون، فقال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏مما تضحكون‏؟‏ أو مما تعجبون‏؟‏ والذي نفسي بيده إن ساقيه في الميزان أثقل من أحد‏)‏ وهذا يدل على أن الذي يوزن هو العامل‏.‏ فيقال‏:‏ نأخذ بالقول الأول‏:‏ أن الذي يوزن العمل، ولكن ربما يكون بعض الناس توزن صحائف أعماله، وبعض الناس يوزن هو بنفسه‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ على هذا القول أن الذي يوزن هو العامل هل ينبني هذا على أجسام الناس في الدنيا وأن صاحب الجسم الكبير العظيم يثقل ميزانه يوم القيامة‏؟‏ فالجواب‏:‏ لا ينبني على أجسام الدنيا، فعن أبي هريرة نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - قال‏:‏ ‏(‏إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة‏)‏، وقال‏:‏ اقرؤا ‏{‏فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا‏}‏‏.‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 105‏]‏‏.‏ وهذا عبد الله بن مسعود يقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏إن ساقيه في الميزان أثقل من أحد‏)‏، فالعبرة بثقل الجسم أو عدمه، ثقله يوم القيامة بما كان معه من أعمال صالحة‏.‏ يقول عز وجل‏:‏ ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏‏.‏ وهذه السورة كلها التحذير والتخويف من زلزلة الأرض، وفيها الحث على الأعمال الصالحة، وفيها أن العمل لا يضيع مهما قل، حتى لو كان مثقال ذرة، أو أقل فإنه لابد أن يراه الإنسان ويطلع عليه يوم القيامة‏.‏ نسأل الله تعالى أن يختم لنا بالخير والسعادة والصلاح والفلاح، وأن يجعلنا ممن يحشرون إلى الرحمن وفدًا إنه على كل شيء قدير‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:51 PM   المشاركة رقم: 28
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة العاديات


‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا‏}‏ هذا قسم، والعاديات صفة لموصوف محذوف فما هو هذا الموصوف‏؟‏ هل المراد الخيل يعني ‏(‏والخيل العاديات‏)‏ أو المراد الإبل يعني ‏(‏والإبل العاديات‏)‏‏؟‏ في هذا قولان للمفسرين‏:‏ فمنهم من قال‏:‏ إن الموصوف هي الإبل، والتقدير ‏(‏والإبل العاديات‏)‏ ويعني بها الإبل التي تعدوا من عرفة إلى مزدلفة، ثم إلى منى، وذلك في مناسك الحج، واستدلوا لهذا بأن هذه السورة مكية، وأنه ليس في مكة جهاد على الخيل حتى يقسم بها‏.‏ أما القول الثاني لجمهور المفسرين وهو الصحيح فإن الموصوف هو الخيل والتقدير ‏(‏والخيل العاديات‏)‏ والخيل العاديات معلومة للعرب حتى قبل مشروعية الجهاد، هناك خيل تعدو على أعدائها سواء بحق أو بغير حق فيما قبل الإسلام، أما بعد الإسلام فالخيل تعدوا على أعدائها بحق‏.‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْعَادِيَاتِ‏}‏ والعادي اسم فاعل من العدو وهو سرعة المشي والانطلاق، وقوله‏:‏ ‏{‏ضَبْحًا‏}‏ الضبح ما يسمع من أجواف الخيل حين تعدوا بسرعة، يكون لها صوت يخرج من صدورها، وهذا يدل على قوة سعيها وشدته‏.‏ ‏{‏فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا‏}‏ الموريات من أورى أو وري بمعنى قدح، ويعني بذلك قدح النار حينما يضرب الأحجار بعضها بعضًا، كما هو مشهور عندنا في حجر المرو، فإنك إذا ضربت بعضه ببعض انقدح، هذه الخيل لقوة سعيها وشدته، وضربها الأرض، إذا ضربت الحجر ضرب الحجر الحجر الثاني ثم يقدح نارًا، وذلك لقوتها وقوة سعيها وضربها الأرض‏.‏ ‏{‏فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا‏}‏ أي التي تغير على عدوها في الصباح، وهذا أحسن ما يكون في الإغارة على العدو أن يكون في الصباح لأنه في غفلة ونوم، وحتى لو استيقظ من الغارة فسوف يكون على كسل وعلى إعياء، فاختار الله عز وجل للقسم بهذه الخيول أحسن وقت للإغارة وهو الصباح، وكان النبي - صلى الله عليه وسلّم - لا يغير على قوم في الليل بل ينتظر فإذا أصبح إن سمع أذان كف وإلا أغار‏.‏ ‏{‏فَأَثَرْنَ بِهِ‏}‏ أي أثرن بهذا العدو، وهذه الإغارة ‏{‏نَقْعًا‏}‏ وهو الغبار الذي يثور من شدة السعي، فإن الخيل إذا سعت إذا اشتد عدوها في الأرض، وصار لها غبار من الكر والفر‏.‏ ‏{‏فَوَسَطْنَ بِهِ‏}‏ أي توسطن بهذا الغبار ‏{‏جَمْعًا‏}‏ أي جموعًا من الأعداء أي أنها ليس لها غاية، ولا تنتهي غايتها إلا وسط الأعداء، وهذه غاية ما يكون من منافع الخيل، مع أن الخيل كلها خير، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏ أقسم الله تعالى بهذه العاديات - بهذه الخيل التي بلغت الغاية - وهو الإغارة على العدو وتوسط العدو، من غير خوف ولا تعب ولا ملل‏.‏ أما المقسم عليه فهو الإنسان فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ‏}‏ والمراد بالإنسان هنا الجنس، أي أن جنس الإنسان، إذا لم يوفق للهداية فإنه ‏{‏لَكَنُودٌ‏}‏ أي كفور لنعمة الله عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 72‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالإنسان هو الكافر، فعلى هذا يكون عامًّا أريد به الخاص، والأظهر أن المراد به العموم، وأن جنس الإنسان لولا هداية الله لكان كنودًا لربه عز وجل، والكنود هو الكفر، أي كافر لنعمة الله عز وجل، يرزقه الله عز وجل فيزداد بهذا الرزق عتوًا ونفورًا، فإن من الناس من يطغى إذا رآه قد استغنى عن الله، وما أكثر ما أفسد الغنى من بني آدم فهو كفور بنعمة الله عز وجل، يجحد نعمة الله، ولا يقوم بشكرها، ولا يقوم بطاعة الله لأنه كنود لنعمة الله‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ‏}‏ ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ الضمير قيل‏:‏ يعود على الله، أي أن الله تعالى يشهد على العبد بأنه كفور لنعمة الله‏.‏ وقيل‏:‏ إنه عائد على الإنسان نفسه، أي أن الإنسان يشهد على نفسه بكفر نعمة الله عز وجل‏.‏ والصواب أن الآية شاملة لهذا وهذا، فالله شهيد على ما في قلب ابن آدم، وشهيد على عمله، والإنسان أيضًا شهيد على نفسه، لكن قد يقر بهذه الشهادة في الدنيا، وقد لا يقر بها فيشهد على نفسه يوم القيامة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 24‏]‏‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُ‏}‏ أي الإنسان ‏{‏لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ‏}‏ الخير هو المال كما قال الله تعالى ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏‏.‏ أي‏:‏ إن ترك مالًا كثيرًا‏.‏ فالخير هو المال، والإنسان حبه للمال أمر ظاهر، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ولا تكاد تجد أحدًا يسلم من الحب الشديد للمال، أما الحب مطلق الحب فهذا ثابت لكل أحد، ما من إنسان إلا ويحب المال، لكن الشدة ليست لكل أحد، بعض الناس يحب المال الذي تقوم به الكفاية، ويستغني به عن عبادالله، وبعض الناس يريد أكثر، وبعض الناس يريد أوسع وأوسع‏.‏ فالمهم أن كل إنسان فإنه محب للخير أي للمال، لكن الشدة تختلف، ويختلف فيها الناس من شخص لاخر، ثم إن الله تعالى ذكَّر الإنسان حالًا لابد له منها فقال‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ‏}‏ فيعمل لذلك، ولا يكن همه المال ‏{‏أَفَلا يَعْلَمُ‏}‏ أي يتيقن‏.‏ ‏{‏إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ‏}‏ أي‏:‏ نشر وأظهر فإن الناس يخرجون من قبورهم لرب العالمين، كأنهم جراد منتشر، يخرجون جميعًا بصيحة واحدة ‏{‏إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 53‏]‏‏.‏ ‏{‏وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ‏}‏ أي ما في القلوب من النيات، وأعمال القلب كالتوكل، والرغبة، والرهبة، والخوف، والرجاء وما أشبه ذلك‏.‏ وهنا جعل الله عز وجل العمدة ما في الصدور كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 9، 10‏]‏‏.‏ لأنه في الدنيا يعامل الناس معاملة الظاهر، حتى المنافق يعامل كما يعامل المسلم حقًّا، لكن في الاخرة العمل على ما في القلب، ولهذا يجب علينا أن نعتني بقلوبنا قبل كل شيء قبل الأعمال؛ لأن القلب هو الذي عليه المدار، وهو الذي سيكون الجزاء عليه يوم القيامة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ‏}‏ ومناسبة الايتين بعضهما لبعض أن بعثرة ما في القبور إخراج للأجساد من بواطن الأرض، وتحصيل ما في الصدور إخراج لما في الصدور، مما تكنه الصدور، فالبعثرة بعثرة ما في القبور عما تكنه الأرض، وهنا عما يكنه الصدر، والتناسب بينهما ظاهر‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ‏}‏ أي إن الله عز وجل بهم‏:‏ أي‏:‏ بالعباد لخبير، وجاء التعبير ‏{‏بِهِمْ‏}‏ ولم يقل ‏(‏به‏)‏ مع أن الإنسان مفرد، باعتبار المعنى، أي‏:‏ أنه أعاد الضمير على الإنسان باعتبار المعنى، لأن معنى ‏{‏إِنَّ الإِنسَانَ‏}‏ أي‏:‏ أن كل إنسان، وعلق العلم بذلك اليوم ‏{‏إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ‏}‏ لأنه يوم الجزاء، والحساب، وإلا فإن الله تعالى عليم خبير في ذلك اليوم وفيما قبله، فهو جل وعلا عالم بما كان، وما يكون لو كان كيف يكون‏.‏ هذا هو التفسير اليسير لهذه السورة العظيمة، ومن أراد البسط فعليه بكتب التفاسير التي تبسط القول في هذا، ونحن إنما نشير إلى المعاني إشارة موجزة‏.‏ نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق، وأن يجعلنا ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته، إنه على كل شيء قدير‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:52 PM   المشاركة رقم: 29
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة القارعة



‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏الْقَارِعَةُ‏}‏ اسم فاعل من قرع، والمراد‏:‏ التي تقرع القلوب وتفزعها وذلك عند النفخ في الصور، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏‏.‏ فهي تقرع القلوب بعد قرع الأسماع، وهذه القارعة هي قارعة عظيمة لا نظير لها قبل ذلك، وهي من أسماء يوم القيامة، كما تسمى الغاشية، والحاقة، وقوله‏:‏ ‏{‏مَا الْقَارِعَةُ‏}‏ ‏{‏مَا‏}‏ هنا استفهام بمعنى التعظيم والتفخيم يعني‏:‏ ما هي القارعة التي ينوه عنها‏؟‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ‏}‏ هذا زيادة في التفخيم والتعظيم والتهويل، يعني أي شيء أعلمك عن هذه القارعة‏؟‏ أي ما أعظمها وما أشدها، ثم بين متى تكون‏؟‏ فقال جل وعلا‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ‏}‏ أي‏:‏ أنها تكون في ذلك الوقت، يوم يكون الناس كالفراش المبثوث حين يخرجون من قبورهم‏.‏ قال العلماء‏:‏ يكونون كالفراش المبثوث، والفراش هو هذه الطيور الصغيرة التي تتزاحم عند وجود النار في الليل وهي ضعيفة وتكاد تمشي بدون هدي، وتتراكم وربما لطيشها تقع في النار وهي لا تدري، فهم يشبهون الفراش في ضعفه وحيرته وتراكمه وسيره إلى غير هدى‏.‏ و‏{‏الْمَبْثُوثِ‏}‏ يعني المنتشر، فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ لو تصورت هذا المشهد يخرج الناس من قبورهم على هذا الوجه لتصورت أمرًا عظيمًا لا نظير له، هؤلاء العالم من آدم إلى أن تقوم الساعة كلهم يخرجون خروج رجل واحد في آن واحد من هذه القبور المبعثرة في مشارق الأرض ومغاربها، ومن غير القبور كالذي ألقي في لجة البحر، وأكلته الحيتان، أو في فلوات الأرض، وأكلته السباع، أو ما أشبه ذلك، كلهم سيخرجون مرة واحدة، يصولون ويجولون في هذه الأرض‏.‏ أما الجبال وهي تلك الجبال العظيمة الراسية الصلبة فتكون ‏{‏كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ‏}‏ ‏{‏العِهْنِ‏}‏ الصوف‏.‏ وقيل‏:‏ القطن‏.‏ ‏{‏المَنْفُوشِ‏}‏ المبعثر أي‏:‏ أن هذه الجبال بعد أن كانت صلبة قوية راسخة تكون مثل العهن الصوف، أو القطن المبعثر - سواء نفشته بيدك أو بالمنداف فإنه يكون خفيفًا يتطاير مع أدنى ريح، وقد قال الله تعالى في آيات أخرى أن الجبال تكون هباء منبثًّا ‏{‏وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 5، 6‏]‏‏.‏ وقال جل وعلا هنا‏:‏ ‏{‏وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ‏}‏‏.‏

‏{‏فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ‏}‏‏.‏ قسم الله تعالى الناس إلى قسمين‏:‏ القسم الأول‏:‏ من ثقلت موازينه وهو الذي رجحت حسناته على سيئاته‏.‏ والثاني‏:‏ من خفت موازينه وهو الذي رجحت سيئاته على حسناته، أو الذي ليس له حسنة أصلًا كالكافر، يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏ العيشة مأخوذة من العيش وهو الحياة، يقال‏:‏ عاش الرجل زمنًا طويلًا، أي‏:‏ بقي وحيي زمنًا طويلًا، والعيشة هنا على وزن فعلة فهي هيئة وليست مصدرًا، المصدر الدال على الوحدة أن تقول عيشة، وأما إذا قلت عِيْشَة فهي فعلة تدل على الهيئة، كما قال ابن مالك رحمه الله‏:‏ وفعلة لمرة كجَلسةٍ وفعلة لهيئة كجِلسةً المعنى‏:‏ أنه في حياة طيبة راضية‏.‏ ‏{‏رَّاضِيَةٍ‏}‏ قيل‏:‏ إنها اسم فاعل بمعنى اسم المفعول، أي‏:‏ مرضية‏.‏ وقيل‏:‏ إنها اسم فاعل من باب النسبة أي ذات رضى، وكلا المعنيين واحد، والمعنى‏:‏ أنها عيشة طيبة ليس فيها نكد، وليس فيها صخب، وليس فيها نصب، كاملة من كل وجه، وهذا يعني العيش في الجنة جعلنا الله منهم‏.‏ هذا العيش لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين، لا يحزنون، ولا يخافون، في أنعم عيش، وأطيب بال، وأسر حال فهي عيشة راضية‏.‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ‏}‏ إما أنه الكافر الذي ليس له أي حسنة، لأن حسنات الكافر يجازى بها في الدنيا ولا تنفعه في الاخرة، أو أنه مسلم ولكنه مسرف على نفسه وسيئاته أكثر‏.‏ ‏{‏فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ‏}‏ أم هنا بمعنى مقصوده، أي‏:‏ الذي يقصده الهاوية، والهاوية من أسماء النار،يعني أنه مآله إلى نار جهنم - والعياذ بالله ـ‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد بالأم هنا‏:‏ أم الدماغ، والمعنى‏:‏ أنه يلقى في النار على أم رأسه‏.‏ نسأل الله السلامة‏.‏ وإذا كانت الآية تحتمل معنيين لا يترجح أحدهما على الاخر ولا يتنافيان فإنه يؤخذ بالمعنيين جميعًا فيقال‏:‏ يرمى في النار على أم رأسه، وأيضًا ليس له مأوى ولا مقصد إلا النار‏.‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ‏}‏ هذا من باب التفخيم والتعظيم لهذه الهوية، يسأل ما هي‏؟‏ أتدري ما هي‏؟‏ إنها لشيء عظيم، إنها نار حامية في غاية ما يكون من الحمو، وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏إنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا‏)‏‏.‏ إذا تأملت نار الدنيا كلها سواء نار الحطب، أو الورق، أو البتغاز أو أشد من ذلك فإن نار جهنم مفضلة عليها بتسعة وستين جزءًا نسأل الله العافية‏.‏ وفي هذه الآية التخويف والتحذير من هذا اليوم وأن الناس لا يخرجون عن حالين‏:‏ إما رجل رجحت حسناته، أو رجل رجحت سيئاته‏.‏ وفيها أيضًا دليل على أن يوم القيامة فيه موازين، وقد جاء في بعض النصوص أنه ميزان فهل هو واحد أو متعدد‏؟‏ قال بعض أهل العلم‏:‏ إنه واحد وإنماجمع باعتبار الموزون، لأنه يوزن فيه الحسنات والسيئات، وتوزن فيه حسنات فلان وفلان، وتوزن فيه حسنات هذه الأمة والأمة الأخرى، فهو مجموع باعتبار الموزون لا باعتبار الميزان، وإلا فالميزان واحد‏.‏ وقال بعض أهل العلم‏:‏ إنها موازين متعددة، لكل أمة ميزان، ولكل عمل ميزان فلهذا جمعت‏.‏ والأظهر - والله أعلم أنه ميزان واحد - لكنه جمع باعتبار الموزون على حسب الأعمال، أو على حسب الأمم، أو على حسب الأفراد‏.‏ وفي هذه الآية دليل على أن الإنسان إذا تساوت حسناته وسيئاته فإنه قد سكت عنه في هذه الآية، ولكن بين الله تعالى في سورة الأعراف أنهم لا يدخلون النار وإنما يحبسون في مكان يقال له الأعراف، وذكر الله تعالى في سورة الأعراف ما يجري بينهم وبين المؤمنين، وأنهم إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين‏.‏ نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن رجحت حسناته على سيئاته، وأن يغفر لنا، ويعاملنا بعفوه، إنه على كل شيء قدير‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:53 PM   المشاركة رقم: 30
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة التكاثر



‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ‏}‏ هذه الجملة جملة خبرية يخبر الله عز وجل بها العباد مخاطبًا لهم يقول‏:‏ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ‏}‏ ومعنى ‏{‏أَلْهَاكُمُ‏}‏ أي شغلكم حتى لهوتم عن ما هو أهم من ذكر الله تعالى والقيام بطاعته، والخطاب هنا لجميع الأمة إلا أنه يخصص بمن شغلتهم أمور الاخرة عن أمور الدنيا وهم قليل، وإنما نقول هم قليل لأنه ثبت في الصحيحين أن الله تبارك وتعالى يقول يوم القيامة‏:‏ ‏(‏يا آدم، فيقول‏:‏ لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول‏:‏ أخرج من ذريتك بعثًا إلى النار، قال‏:‏ وما بعث النار‏؟‏ قال‏:‏ من كل ألفٍ تسع مئة وتسعة وتسعين‏)‏، واحد في الجنة والباقي في النار، وهذا عدد هائل‏!‏ إذا لم يكن من بني آدم إلا واحدًا من الألف من أهل الجنة والباقون من أهل النار، إذًا فالخطاب بالعموم في مثل هذه الآية جار على أصله، لأن الواحد من الألف ليس بشيء بالنسبة إليه، وأما قوله‏:‏ ‏{‏التَّكَاثُرُ‏}‏ فهو يشمل التكاثر بالمال، والتكاثر بالقبيلة، والتكاثر بالجاه، والتكاثر بالعلم، وبكل ما يمكن أن يقع فيه التفاخر، ويدل لذلك قول صاحب الجنة لصاحبه‏:‏ ‏{‏أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 34‏]‏‏.‏ فالإنسان قد يتكاثر بماله فيطلب أن يكون أكثر من الاخر مالًا وأوسع تجارة، وقد يتكاثر الإنسان بقبيلته، يقول نحن أكثر منهم عددًا، كما قال الشاعر‏:‏ ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثرأكثر منهم حصى؛ لأنهم كانوا فيما سبق يعدون الأشياء بالحصى‏.‏ فمثلًا‏:‏ إذا كان هؤلاء حصاهم عشرة آلاف، والاخرون حصاهم ثمانية آلاف صار الأول أكثر وأعز، فيقول الشاعر‏:‏ لست بالأكثر منهم حصى وإنما العزةُ للكاثر كذلك يتكاثر الإنسان بالعلم، فتجده يكاثر على غيره بالعلم لكن إن كان بالعلم الشرعي فهو خير، وإن كان بالعلم غير الشرعي فهو إما مباح وإما محرم‏.‏ وهذا هو الغالب على بني آدم التكاثر‏.‏ فيتكاثرون في هذه الأمور عما خلقوا له من عبادة الله عز وجل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ‏}‏ يعني إلى أن زرتم المقابر، يعني إلى أن مُتم، فالإنسان مجبول على التكاثر إلى أن يموت، بل كلما ازداد به الكِبر ازداد به الأمل، فهو يشيب في السن ويشب في الأمل، حتى إن الرجل له تسعون سنة مثلًا تجد عنده من الامال وطول الأمل ما ليس عند الشاب الذي له خمس عشرة سنة‏.‏ هذا هو معنى الآية الكريمة‏.‏ أي‏:‏ أنكم تلهوتم بالتكاثر عن الاخرة إلى أن متم‏.‏ وقيل‏:‏ إن معنى ‏{‏حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ‏}‏ حتى أصبحتم تتكاثرون بالأموات كما تتكاثرون بالأحياء، فيأتي الإنسان فيقول‏:‏ أنا قبيلتي أكثر من قبيلتك وإذا شئت فاذهب إلى القبور عد القبور منا، وعد القبور منكم فأينا أكثر‏؟‏ لكن هذا قول ضعيف بعيد من سياق الآية‏.‏ والمعنى الأول هو الصحيح أنكم تتكاثرون إلى أن تموتوا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ‏}‏ استدل به عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - على أن الزائر لابد أن يرجع إلى وطنه، وأن القبور ليست بدار إقامة، وكذلك يذكر عن بعض الأعراب أنه سمع قارىء يقرأ‏:‏ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ‏}‏ فقال‏:‏ ‏"‏والله ما الزائر بمقيم والله لنبعثن‏"‏، لأن الزائر كما هو معروف يزور ويرجع، فقال‏:‏ والله لنبعثن‏.‏ وهذا هو الحق‏.‏ وبهذا نعرف أن ما يذكره بعض الناس الان في الجرائد وغيرها‏.‏ يقول عن الرجل إذا مات‏:‏ ‏"‏إنه انتقل إلى مثواه الأخير‏"‏، إن هذا كلام باطل وكذب؛ لأن القبور ليس هي المثوى الخير، بل لو أن الإنسان اعتقد مدلول هذا اللفظ لصار كافرًا بالبعث، والكفر بالبعث ردة عن الإسلام، لكن كثيًرا من الناس يأخذون الكلمات ولا يدرون ما معناها، ولعل هذه موروثة عن الملحدين الذين لا يقرون بالبعث بعد الموت، لهذا يجب تجنب هذه العبارة، فلا يقال عن القبر إنه المثوى الأخير؛ لأن المثوى الأخير إما الجنة، وإما النار في يوم القيامة‏.‏ ثم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ قيل‏:‏ إن ‏{‏كَلاَّ‏}‏ بمعنى الردع يعني‏:‏ ارتدعوا عن هذا التكاثر، وقيل‏:‏ إنها بمعنى حقًّا، ومعنى ‏{‏سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ سوف تعلمون عاقبة أمركم إذا رجعتم إلى الاخرة، وأن هذا التكاثر لا ينفعكم‏.‏ وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رواه مسلم ‏(‏يقول ابن آدم‏:‏ مالي ومالي - يعني‏:‏ يفتخر به - وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت‏)‏ والباقي تاركه لغيرك وهذا هو الحق، أموالنا التي بين أيدينا‏.‏ إما أن نأكلها فتفنى، وإما أن نلبسها فتبلى، وإما أن نتصدق بها فنمضيها وتكون أمامنا يوم القيامة‏.‏ وإما أن نتركها لغيرنا لا يمكن أن يخرج المال الذي بأيدينا عن هذه القسمة الرباعية‏.‏ ‏{‏كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ سوف تعلمون عاقبة أمركم بالتكاثر الذي ألهاكم عن الاخرة ‏{‏ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ وهذه الجملة تأكيد للردع مرة ثانية، ثم قال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ‏}‏ يعني‏:‏ حقًّا لو تعلمون علم اليقين لعرفتم أنكم في ضلال، ولكنكم لا تعلمون علم اليقين، لأنكم غافلون لاهون في هذه الدنيا،ولو علمتم علم اليقين لعرفتم أنكم في ضلال وفي خطأ عظيم‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ‏}‏ ‏{‏لَتَرَوُنَّ‏}‏ هذه الجملة مستقلة ليست جواب ‏"‏لو‏"‏ ولهذا يجب على القارئ أن يقف عند قوله‏:‏ ‏{‏كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ‏}‏ ونحن نسمع كثيرًا من الأئمة يصلون فيقولون ‏{‏كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ‏}‏ وهذا الوصل إما غفلة منهم ونسيان، وإما أنهم لم يتأملوا الآية حق التأمل، وإلا لو تأملوها حق التأمل لوجدوا أن الوصل يفسد المعنى لأنه إذا قال ‏{‏كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ‏}‏ صار رؤية الجحيم مشروطة بعلمهم، وهذا ليس بصحيح، لذلك يجب التنبه والتنبيه لهذا من سمع أحد يقرأ ‏{‏كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ‏}‏ ينبه ويقول له‏:‏ يا أخي هذا الوصل يوهم فساد المعنى، فلا تصل وقف، أولًا‏:‏ لأنها رأس آية، والمشروع أن يقف الإنسان عند رأس كل آية، وثانيًا‏:‏ أن الوصل يفسد المعنى ‏{‏كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ‏}‏ إذًا ‏{‏لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ‏}‏ جملة مستأنفة لا صلة لها بما قبلها، وهي جملة قسمية، فيما قسم مقدر والتقدير‏:‏ والله لترون الجحيم، ولهذا يقول المعربون في إعرابها‏:‏ إن اللام موطئة للقسم، وجملة ‏{‏ تَرَوُنَّ‏}‏ هي جواب القسم، والقسم محذوف والتقدير ‏"‏والله لترون الجحيم‏"‏ و‏{‏الْجَحِيمَ‏}‏ اسم من أسماء النار ‏{‏ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ‏}‏ تأكيد لرؤيتها، ومتى ترى‏؟‏ تُرى يوم القيامة، يؤتى بها تُجر بسبعين ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك، فما ظنك بهذه النار - والعياذ بالله - إنها نار كبيرة عظيمة لأن فيها سبعين ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك، والملائكة عظام شداد فهي نار عظيمة - أعاذنا الله منها‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ يعني‏:‏ ثم في ذلك الوقت في ذلك الموقف العظيم تسألن عن النعيم، واختلف العلماء رحمهم الله في قوله‏:‏ ‏{‏لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ هل المراد الكافر، أو المراد المؤمن والكافر‏؟‏ والصواب‏:‏ أن المراد المؤمن والكافر كل يسأل عن النعيم، لكن الكافر يسأل سؤال توبيخ وتقريع، والمؤمن يسأل سؤال تذكير، والدليل على أنه عام ما جرى في قصة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأبي بكر وعمر، فعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال‏:‏ ‏"‏ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة‏؟‏‏"‏ قالا‏:‏ الجوع، يا رسول الله‏!‏ قال‏:‏ ‏"‏وأنا، والذي نفسي بيده‏!‏ لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا‏"‏ فقاموا معه، فأتى رجلًا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت‏:‏ مرحبًا‏!‏ وأهلًا‏!‏ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏"‏أين فلان‏؟‏‏"‏ قالت‏:‏ ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - وصاحبه، ثم قال‏:‏ الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافًا مني، قال‏:‏ فانطلق فجاءهم بعذق فيه بُسر وتمر ورطب، فقال‏:‏ كلوا من هذه، وأخذ المدية، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏"‏إياك‏!‏ والحلوب‏"‏ فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - لأبي بكر وعمر‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده‏!‏ لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم‏"‏‏)‏‏.‏ وفي رواية أخرى‏:‏ ‏(‏هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة، ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد‏)‏‏.‏وهذا دليل على أن الذي يُسأل المؤمن والكافر‏.‏ ولكن يختلف السؤال، سؤال المؤمن سؤال تذكير بنعمة الله عز وجل عليه حتى يفرح، ويعلم أن الذي أنعم عليه في الدنيا ينعم عليه في الاخرة، بمعنى أنه إذا تكرم بنعمته عليه في الدنيا تكرم عليه بنعمته في الاخرة، أما الكافر فإنه سؤال توبيخ وتنديم‏.‏ نسأل الله تعالى أن يستعملنا في طاعته، وأن يجعل ما رزقنا عونًا على طاعته، إنه على كل شيء قدير‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

(مشاهدة الكل عدد الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0 :
لا يوجد أعضاء
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

Bookmark and Share


الساعة الآن 07:26 PM

أقسام المنتدى

قســم إسلامنا تاريخٌ ومنهاج | بيت الكتاب والسنة | قســم موسوعة الصوتيات والمرئيات والبرامج | بيت الشكـاوي والإقتراحــات | بيت الآل والأصحاب من منظور أهل السنة والجماعة | قســم الموسوعـة الحواريـة | بيت الحــوار العقـائــدي | بيت الطـب البـديـل وطـب العـائلـة | بيت الأسـرة السعيــدة | قســم الدعم الخاص لقناة وصــال | بيت شبهات وردود | بيت التـاريـخ الإسلامي | بيت المهتدون إلى الإسلام ومنهج الحق | قســم موسوعة الأسرة المسلمـــة | وحــدة الرصــد والمتـابعــة | بيت الصوتيـات والمرئيـات العــام | بيت الصــــور | بيت الأرشيــف والمواضيــع المكــررة | بيت الترحيب بالأعضاء الجدد والمناسبات | بيت الجـوال والحـاسـب والبـرامـج المعـربـة | بيت المكتبـة الإسلاميـة | بيت الأحبـة فــي اللــه الطاقــم الإشـرافــي | بيت موسوعة طالب العلم | قســم الموسوعة الثقافية | البيــت العـــام | قســم دليل وتوثيق | بيت وثائق وبراهين | بيت القصـص والعبـــــــر | بيت الإدارة | بيت الصوتيـات والمرئيـات الخــاص | بيت المعتقد الإسماعيلي الباطني | بيت مختارات من غرف البالتوك لأهل السنة والجماعة | بيت الأحبـة فــي اللــه المراقبيـــــــن | بيت أهل السنه في إيران وفضح النشاط الصفوي | بيت المحــذوفــات | بيت ســؤال وجــواب | بيت أحداث العالم الإسلامي والحوار السياسـي | بيت فـرق وأديـان | باب علــم الحــديـث وشرحــه | بيت الحـــوار الحــــــــّر | وصــال للتواصل | بيت الشعـــر وأصنافـــه | باب أبـداعـات أعضـاء أنصـار الشعـريـة | باب المطبــخ | بيت الداعيـــات | بيت لمســــــــــــات | بيت الفـلاش وعـالـم التصميــم | قســم التـواصـي والتـواصـل | قســم الطــاقــــــــم الإداري | العضويات | بـاب الحــــج | بيـت المــواســم | بـاب التعليمـي | أخبــار قناة وصــال المعتمدة | بيت فـريـق الإنتـاج الإعـلامـي | بيت الـلـغـة العــربـيـة | مطبخ عمل شامل يخص سورية الحبيبة | باب تصاميم من إبداع أعضاء أنصـار آل محمد | بـاب البـرودكــاسـت | بيت تفسير وتعبير الرؤى والأحلام | ســؤال وجــواب بمــا يخــص شبهات الحديث وأهله | كلية اللغة العربية | باب نصح الإسماعيلية | باب غرفـة أبنـاء عائشـة أنصـار آل محمـد | بـيــت المـؤسـســيـــن | بـاب السيـرة النبـويـة | بـاب شهـــر رمضــان | تـراجــم علمـائـنـا |



Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
This Forum used Arshfny Mod by islam servant