* ـ قصة جميلة قرأناها يوم كنا صغاراً, ولم نكن ندرك مغزاه حينها, قصة على لسان بطتين وسلحفاة حريةً باحتلال حيّزٍ في الذاكرة, ويحفظها الذهن الطفولي ليجد لها العقل النقدي حضوراً على صفحة الواقع المعاش .
حكاية سلحفاة مسكينة كانت تجاور بطتين قرب غدير جفَّ ماؤه يوماً, فقررت البطتان الرحيل طلباً للماء, وعزَّ عليهما ترك الجارة وحيدة, فحملتاها على عود تقاسمتا طرفيه, وقبضت صديقتنا على وسطه, ثم انطلقت رحلة السفر بعد تحذير الجارتين الملحّ للسلحفاة بأن لا تفتح فمها وإن سمعت الناس يتعجّبون ويتقوّلون ويحللون .. لكنَّ السلحفاة لم تقو على الصبر أمام دهشة الناس وتعجّبهم, أو قل أمام ضيق أعينهم و حشريتهم) وطفوليتهم, وبعد أن امتلأ صدرها غيظاً من سيل ما سمعت, صرخت بأعلى صوتها : فقأ الله أعينكم أيها الناس .. فسقطت على الأرض وماتت .
السلحفاة (الشهيدة) نموذج كنائي يوّصف لنا آفة متراكمة يرزح تحت ثقلها مجتمعنا العربي والإسلامي الكبير, ولا غرو إن سَمعتَنا نتمنى الرحيل عن هذا العالم، لنرتمي في أي مكان على سطح البسيطة يشعر فيه واحدنا بأنه محترم الخصوصية, مالك لحقوق القول أو الفعل, أو الحركة والسكون, حرُّ فيما يملك أو يترك, طليق فيما يختار أو يفضّل, مستقل في انتقاء مأكله ومشربه, وملبسه ومسكنه, ومعتقده ومبدأه, صاحب الكلمة الفصل في اختيارات قلبه وعقله ولسانه, منفرد في تفضيل ألوانه وألحانه, مخيّر في مصير زواجه وتعداد أولاده ! .
قرأت في قواميس الديموقراطيات الحديثة ما يطرب السمع عن الحرية الشخصية واحترام
الخصوصية وقلّبت في صفحات الإسلام متباركاً بآيات الوحي السماوي الرحيمة فوجدت : (لا إكراه في الدين) وقرأت : (كل نفس بما كسبت رهينة), وأخذ بمجامع عقلي قول الحقَّ تقدست أسماؤه : (لَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) .
وقادني التتّبع إلى آياتِ عظيمة اعتبرها المفسرون والعلماء خطوطاً عامة للمنهج التربوي الإسلامي فهي واضحة الدلالة على ترسيم الحدود الشخصية والحقوق الفردية في جوانب شتى أذكر بعضها على سبيل الاستدلال لا الحصر :
* ـ حرية الاعتقاد :
(قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين ) .
* ـ ضمان الملكية الفردية :
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) .
* ـ احترام خصوصية المكان والزمان :
(يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحد فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم) .
* ـ احترام خصوصية الناس المعنوية وحفظ الكرامات :
(يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) .
(يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم) .
وبموازاة النداء القرآني للكفِّ عن الفضول, واقتحام الخصوصيات وحشر الأنوف فيما لا يعنيها، تأتي السنة النبوية الشريفة لتنبّه إلى مرجوحية التطّفل, فقد ورد أنَّ (من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه), و (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) .
تبقى الإشارة إلى أنَّ اقتحام
الخصوصية يشكل مبرّراً لظاهرة التنكّر والاستياء التي يعيشها الكثيرون اتجاه عقلية الفضول المستفحلة في المجتمعات الشرقية, وعليه يصبح طبيعياً الكلام الغزلي عن الحياة الاجتماعية الغربية, ففي الوقت الذي يختنق الشرقي في بيته وحيّه ومكان عمله, وتصيبه الأعين بشزرها والهمسات بخطرها، يتنفس المواطن الغربي الحرية, فلا أعين تراقبه ولا أيد تشير عليه ولا أصابع تعدّ عليه أنفاسه .. وهذا الفارق من شأنه أن يكوّن محرّضاَ ودافعا للتمرّد على البيئة الاجتماعية الشرقية ويثير نحوها الشعور بالكراهية والانتقاص, ويدفع نحو رفضها بشكل كلّي حتى بما تحويه من قيم سامية وروابط متينة ونقاط قوة, فيهتز عندها مفهوم الانتماء الترابطي بالأسرة والعائلة, وتنفصم العروة الاجتماعية التي يعتبرها علماء التربية والاجتماع عاملاً من عوامل الرقابة وضبط السلوك, وهذا أمر بمنتهى الخطورة ينبغي التنبّه له ولتداعياته السلبية .
لذا فإنَّ من الضروري إدخال فقرة احترام
الخصوصية الفردية في مناهج التربية المدرسية, ووضعها في سلم الأهمية نفسه الذي يحتله احترام الملكية, كما ينبغي تعميم المعرفة بأهمية هذا الأمر في الأواسط الشعبية عبر الاستعانة برجال الدين والتربية والاجتماع, كما لا بدّ من توفير البدائل العملية التي تمكّن الفرد الاستفادة من أوقات فراغه واستغلال هذه الأوقات في الانتاج الفكري أو العملاني, وذلك بإقامة دورات تدريبية وورش عمل توجيهية مفيدة بدل أن تهدر الساعات الطوال في الجاسوسية والتوثب على حدود الآخرين, واقتحام خصوصياتهم وتقييد حرياتهم .
عمرالاحمدي