فهو يعرب كلماته؛ أي: يعطي كلاًّ منها حركتَه المناسبة، ضمةً كانت أو فتحة أو كسرة، دون أن يعلم شيئًا عن فنِّ الإعراب، ودون أن يدرس شيئًا من دروس النحو والقواعد، إنه نحوُ الفطرة الذي يجري على ألسنة الفصاح، لا نحوُ الفطنة الذي تشتمل عليه مصنفات النحو، وهو – أي: نحو الفطرة - النحوُ الذي استقامتْ به ألسنة، وارتقت عليه أذواق، واستوت به مَلَكات.
وإنما يُكتَسَبُ من مجالسة الفصحاء، ومداومة الكلام معهم، وقراءة النصوص - نصوص العربية السليمة - وتخيُّر الجميل منها وحفظه، وملازمة الكتب.
قلت لصاحبي الصغير مرة: كيف أتقنتَ العربية؟ وأنَّى لك هذه الطلاقة فيها؟
فأجابني: من كلامي مع والدي، ومن أفلام الكرتون، ومن القصص التي أقرؤها صباحَ مساءَ.
وقد جرَّبتُه في هذا فوجدتُه قارئًا نهمًا؛ بل هو أسرع قارئ صغير عرفتُه، إذ زارني مع أبيه ذات يوم، فتجاذبت معه أطراف الحديث، ثم خشيت أن يلهيني عن والده، فصرفته بمجموعة قصصية تحوي أربع قصص، دفعتها إليه طالبًا منه أن يقرأها؛ ظانًّا أنه سيبدأ بها عندي ليكملها في بيته، وما كان أشدَّ عجبي حين أعلن بُعَيد برهة يسيرة أنه أتى على تلك القصص! وجعل يعلق على بعض شخصياتها، فذكَّرني بالمتنبي حين أخذ يتصفح كتابًا يريد صاحبُه أن يبيعه في سوق الوراقين، فلما أطال النظر فيه نَهَره صاحبُ الكتاب قائلاً: إن كنتَ تريد حفظه، فهذا - إن شاء الله - يكون بعد شهر، فأجابه المتنبي: وإذا كنتُ قد حفظتُه، فما لي عليك؟ قال: أهبه لك، وأقبل يتلوه عليه إلى آخره، فعجب الرجلُ وترك له الكتاب.
أمَّا أنا، فأعطيتُ صاحبي الصغيرَ مجموعةً قصصية أخرى وأنا أودعه على باب المنزل؛ خشيةَ أن يأتي على مجموعات المكتبة كلها، فلا يبقي لأولادي منها شيئًا!
وحدَّثني والده وهو يقدِّم لي أطروحته التي صنعها لنيل درجة الماجستير: أن صاحبي الصغير هذا - واسمه إبراهيم - كان يساعده في إعدادها، وقد وقف له على تصحيح بيت من الشعر، كما أنه أسهم في ترتيب مواد الفهرس على حروف الهجاء؛ لأنه يحفظ الترتيب جيدًا.
والحق أن صاحبي هذا ليس بِدْعًا في بابه؛ بل هو يمثل نمطًا من الأطفال أخذهم آباؤهم بهذه اللغة الفطرية، فأحسنوا فيها كلَّ الإحسان، وكان شيخنا وشيخهم في ذلك الأستاذ الدكتور عبدالله دنان، الذي عمَّم هذه التجربة الرائدة، وأخرجها من محيطه الفردي إلى رياض للأطفال، بدأها في هذا البلد الطيب الكويت في أواخر الثمانينيات من القرن الفائت، وانطلق بها لتعم كثيرًا من بلداننا العربية؛ كسورية، ولبنان، والسعودية، وقطر، وأولُ الغيث قَطْرٌ ثم ينهمر.
ولعل من أبرز أبطال هذه المدرسة صاحبًا لي آخر، يُدعى أحمد أيمن ذو الغنى، أخذه والده أخذًا حازمًا بهذه اللغة الفطرية، فلم يُسمِعْه إلاَّ إيَّاها، ولم يرتضِ أن يسمع منه سواها، فإذا رَطَنَ الولد بالعامية، زعم الوالد أنه لم يفهم، فعاد الولد إلى فُصحاه، وانطلق يغرِّد بها تغريدَ العَنَادِل، يرفع وينصب، ويجر ويجزم، ويعطي كلَّ ذي حق حقَّه فطرةً وسليقةً، يفعل ذلك كله دون أن ينسى لهجته العامية، تلك التي يتكلم بها مع أمه وأقاربه، وأصحابه وأترابه.
ومن طريف ما رواه لي والده: أنه لقِيَه مرةً يلعب مع أترابٍ له خارج المنزل، وكانوا من جنسيات مختلفة، فيهم السعودي، وفيهم المصري، وفيهم الحلبي، فجعل الولد يترجم لأبيه ما ينطق به هؤلاء من لهجاتهم المحلية؛ لأنه موقن أن أباه لا يفهم إلا هذه الفصحى الشريفة!
وزاد أبوه فجعل يروِّيه من الشعر أجزلَه، ومن الأدب أجملَه، فضلاً عن محفوظه من القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، فنشأ الولد أديبًا أريبًا، يكتب القصة، وينشد الشعر، ويسهم في نشاطات صحفية مختلفة، ولمَّا يجاوز العاشرة؛ بل إن أباه زفَّ لي منذ أيام بشرى انضمام أحمد إلى نادي الصحفيين، وإجرائه الحوارَ الأول له مع وكيل مدرسته، وكان من قبل هذا قد استضيف في إحدى القنوات الفضائية ونوَّه بتجربته الرائعة.
أكتب هذا الكلام وقلبي يتفطر حسرةً على الضعف المستشري بين أبنائنا وآبائهم، وأعمامهم وعمَّاتهم، وكل مَن يلوذ بهم، في لغتهم العربية، مع أن العلاج سهل ميسور، وهو على طرف الثُّمام من كل منا، إنه يكمن في سماع صحيح، يمكن أن نوفره لهم فيما يتابعونه من أفلام الكرتون، وقراءةٍ نهمة، يمكن أن نعوِّدهم عليها بتقديم القصص الجميلة بلبوس بديع، وأسلوب شائق، ثم نعتادهم ببعض النصوص الأدبية القصيرة من القرآن والحديث والشعر الرائق يحفظونها، فيمتلكون ناصية اللغة، ويكتمل في أذهانهم نظامُ نحو الفطرة، ويستغنون به عن كثير مما نشغلهم به من نحو الفطنة، فهلاَّ بدأنا!
لقد شُغِلنا بنحو الفطنة – أعني: قواعد اللغة ونحوها وصرفها - أكثر مما ينبغي، وأهملنا نحو الفطرة – أعني: سماع اللغة السليمة، وقراءة نصوصها الفصيحة، وحفظ روائعها الجميلة - فكانت النتيجة ما نحن فيه من ضعفٍ في اللغة، ونفورٍ من دروسها، وعداءٍ مستحكم بين أبنائنا وبينها.
إن هذه السبيل في اكتساب مَلَكة اللغة – أعني: سبيل نحو الفطرة - هي التي سَلَكها أجدادُنا في تعليم أولادهم العربية، وفي إكسابهم سليقةَ الفصاحة والبيان، عن طريق المحاكاة والسماع، لا عن طريق النحو والقواعد، وفي هذا يقول الجاحظ في فصلٍ عقده لرياضة الصبي من رسالته في المعلمين: "وأما النحو، فلا تشغل قلبَه منه إلا بقدر ما يؤديه إلى السلامة من فاحش اللحن، ومن مقدار جهل العوام في كتابٍ إن كتبه، وشعرٍ إن أنشده، وشيءٍ إن وصفه، وما زاد على ذلك، فهو مشغلة عما هو أولى به، ومذهل عما هو أردُّ عليه منه من رواية المثل والشاهد، والخبر الصادق، والتعبير البارع".
وهي السبيل التي نادى بها ابنُ خلدون في "مقدمته"، عندما رسم خطة التعليم لمن ابتغى مَلَكة اللغة، ثم انتهى إلى القول: "وتعلم مما قررناه في هذا الباب أن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب؛ حتى يرتسم في خياله المنوالُ الذي نسجوا عليه تراكيبَهم، فينسج هو عليه، ويتنزل بذلك منزلة مَن نشأ معهم، وخالط عباراتهم في كلامهم، حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم".
وهي السبيل أيضًا التي نبَّه عليها أربابُ العربية في عصرنا، حين تصدَّوا لأمر اكتساب اللغة، فمن ذلك قول الأستاذ إبراهيم مصطفى عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة: "إن أفضل طريقة لتعليم اللغة وأيسرها وأقربها إلى مسايرة الطبيعة: هي أن نستمع إليها فنطيل الاستماع، ونحاول التحدُّث بها فنكثر المحاولة، ونكل إلى موهبة المحاكاة أن تؤدِّي عملَها في تطويع اللغة وتملكها وتيسير التصرف بها، وتلك سنة الحياة في اكتساب الأطفال لغاتهم من غير معاناة ولا إكراه ولا مشقة، فلو استطعنا أن نصنع هذه البيئة التي تنطلق فيها الألسنةُ بلغة فصيحة صحيحة، نستمعها فتنطبع في نفوسنا، ونحاكيها فتجري بها ألسنتُنا - إذًا لَمَلكْنا اللغةَ من أيسر طرقها، ولمُهِّد لنا كلُّ صعب في طريقها".
ومن ذلك أيضًا قول الأستاذ الدكتور رمضان عبدالتواب: "لا شيء أجدى على من يريد تعلم لغةٍ ما من الاستماع إليها، والقراءة الكثيرة في تراثها، وحفظ الجيد من نصوصها".
فلْنَعُدْ إلى النحو الفطري، نحو القرآن الكريم، والحديث الشريف، والشعر العذب النبيل، والمَثَل السائر، والحكمة البليغة، والخُطبة المؤثِّرة، وطرائف الأدب ولطائفه.