العودة   شبكــة أنصــار آل محمــد > قســم إسلامنا تاريخٌ ومنهاج > بيت الكتاب والسنة

بيت الكتاب والسنة خاص بتفسير القرآن وأحكامه وتجويده وأيضاً علم الحديث وشرحه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 26-03-12, 09:49 PM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : بيت الكتاب والسنة

مقدمة


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد‏:‏ فإن كتاب الله عز وجل هو حبله المتين، وصراطه المستقيم، وصفه الله عز وجل بأوصاف عظيمة فقال جل وعلا‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا‏}‏‏.‏ ‏[‏النساء‏:‏ 174‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ‏}‏‏.‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏ وقال عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏ ‏[‏يونس‏:‏ 57‏]‏‏.‏ وقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ‏}‏‏.‏ ‏[‏النحل‏:‏ 89‏]‏‏.‏ وقال جل وعلا‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ‏}‏‏.‏ ‏[‏ص‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ‏}‏‏.‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلّم -‏)‏‏.‏ وقد اعتنى علماء الإسلام - رحمهم الله تعالى - بكتاب الله عز وجل أيما عناية، ومن وجوه هذه العناية تفسير القرآن وبيان معانيه، واستنباط الأحكام والفوائد من آياته، على حسب ما آتاهم الله عز وجل من العلم والإيمان، والفهم والتقوى‏.‏ ومن هؤلاء العلماء شيخنا العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته - فقد عقد المجالس لتفسير كتاب الله عز وجل، واستنباط الفوائد والأحكام منه، في حله وترحاله، ومن هذه المجالس اللقاء المسمى بلقاء الباب المفتوح، حيث منَّ الله عز وجل على فضيلته بإتمام تفسير جزء عم، وقدم بسورة الفاتحة، وقد عرضت على فضيلة شيخنا رحمه الله تعالى إخراج هذا التفسير فوافق على ذلك، ولكنه لم يتمكن من مراجعته بعد تفريغه من الأشرطة سوى سورة الفاتحة، ولا يخفى أن المنقول من الأشرطة ليس كالمحرر من حيث انتقاء الألفاظ، وتحرير العبارة، والبعد عن التكرار، وغير ذلك‏.‏ وقد بيَّن الشيخ - رحمه الله - منهجه في تفسير هذا الجزء من القرآن فقال في ختام تفسير سورة ‏(‏عبس‏)‏‏:‏ هذا الكلام الذي نتكلم به على هذه الآيات لا نريد به البسط ولكن نريد به التوضيح المقرب للمعنى‏.‏ وقال رحمه الله‏:‏ اخترنا هذا الجزء لأنه يقرأ كثيرًا في الصلوات، فيحسن أن يعرف معاني هذا الجزء، والقرآن أنزل لأمور ثلاثة‏:‏ الأمر الأول‏:‏ التعبد لله بتلاوته‏.‏ والثاني‏:‏ التدبر لمعانيه‏.‏ والثالث‏:‏ الاتعاظ به‏.‏ قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 29‏]‏‏.‏ ولا يمكن لأحد أن يتذكر بالقرآن إلا إذا عرف المعنى؛ لأن الذي لا يعرف المعنى بمنزلة الذي لا يقرأ، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 78‏]‏‏.‏ أي‏:‏ إلا قراءة، لهذا ينبغي للمسلم أن يحرص على معرفة معنى القرآن الكريم حتى ينتفع به، وحتى يكون متبعًا لاثار السلف، فإنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل‏.‏ وقال رحمه الله‏:‏ حري بطلبة العلم أن يحرصوا في كل مناسبة إذا اجتمعوا بالعامة أن يأتوا بآية من كتاب الله يفسرونها، لاسيما ما يكثر ترداده على العامة مثل الفاتحة، فإنك لو سألت عاميًّا بل الكثير من الناس عن معنى سورة الفاتحة لم يعرف شيئًا منها‏.‏ وامتاز تفسير فضيلة الشيخ رحمه الله بوضوح العبارة، ودقة المعنى، وتفسير القرآن بالقرآن، والبعد عن التكلف، إضافة إلى الوعظ بالقرآن الكريم، وكفى به موعظة، فجمع رحمه الله تعالى في هذا التفسير بين بيان المعنى والوعظ بكتاب الله تعالى، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأعلى درجته في المهديين، وأسكنه فسيح جناته إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين‏.‏



فهد بن ناصر السليمان



كلمات البحث

شبكــة أنصــار آل محمــد ,شبكــة أنصــار ,آل محمــد ,منتدى أنصــار





jtsdv [.x ul <<dv[n hgjefdj >










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:02 PM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

الفائدة الأولى‏:‏ التبرك بتقديم اسم الله عز وجل‏.‏ والفائدة الثانية‏:‏ الحصر؛ لأن تأخير العامل يفيد الحصر، كأنك تقول‏:‏ لا آكل باسم أحد متبركًا به، ومستعينًا به إلا باسم الله عز وجل‏.‏ وقدرناه فعلًا؛ لأن الأصل في العمل الأفعال، وهذه يعرفها أهل النحو؛ ولهذا لا تعمل الأسماء إلا بشروط‏.‏ وقدرناه مناسبًا؛ لأنه أدلّ على المقصود؛ ولهذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏ومن كان لم يذبح فليذبح باسم الله‏)‏، أو قال - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏على اسم الله‏)‏‏.‏ فخص الفعل‏.‏ و‏{‏اللَّه‏}‏‏:‏ اسم الله رب العالمين لا يسمى به غيره؛ وهو أصل الأسماء؛ ولهذا تأتي الأسماء تابعة له‏.‏ و‏{‏الرَّحْمنِ‏}‏ أي ذو الرحمة الواسعة؛ ولهذا جاء على وزن ‏"‏فَعْلان‏"‏ الذي يدل على السعة‏.‏ و‏{‏الرَّحِيمِ‏}‏ أي الموصل للرحمة من يشاء من عباده؛ ولهذا جاءت على وزن ‏"‏فعيل‏"‏ الدال على وقوع الفعل‏.‏ فهنا رحمة هي صفته - هذه دل عليها ‏{‏الرَّحْمنِ‏}‏، ورحمة هي فعله - أي إيصال الرحمة إلى المرحوم - دلّ عليها ‏{‏الرَّحِيمِ‏}‏‏.‏ و‏{‏الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏‏:‏ اسمان من أسماء الله يدلان على الذات، وعلى صفة الرحمة، وعلى الأثر‏:‏ أي الحكم الذي تقتضيه هذه الصفة‏.‏ والرحمة التي أثبتها الله لنفسه رحمة حقيقية دل عليها السمع، والعقل؛ أما السمع فهو ما جاء في الكتاب، والسنة من إثبات الرحمة لله - وهو كثير جدًا؛ وأما العقل‏:‏ فكل ما حصل من نعمة، أو اندفع من نقمة فهو من آثار رحمة الله‏.‏ هذا وقد أنكر قوم وصف الله تعالى بالرحمة الحقيقية، وحرّفوها إلى الإنعام، أو إرادة الإنعام، زعمًا منهم أن العقل يحيل وصف الله بذلك؛ قالوا‏:‏ ‏(‏لأن الرحمة انعطاف، ولين، وخضوع، ورقة؛ وهذا لا يليق بالله عز وجل‏)‏، والرد عليهم من وجهين‏:‏ الوجه الأول‏:‏ منع أن يكون في الرحمة خضوع، وانكسار، ورقة؛ لأننا نجد من الملوك الأقوياء رحمة دون أن يكون منهم خضوع، ورقة، وانكسار‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ أنه لو كان هذا من لوازم الرحمة، ومقتضياتها فإنما هي رحمة المخلوق؛ أما رحمة الخالق سبحانه وتعالى فهي تليق بعظمته، وجلاله، وسلطانه؛ ولا تقتضي نقصًا بوجه من الوجوه‏.‏ ثم نقول‏:‏ إن العقل يدل على ثبوت الرحمة الحقيقية لله عز وجل‏:‏ فإن ما نشاهده في المخلوقات من الرحمة بَيْنها يدل على رحمة الله عز وجل؛ ولأن الرحمة كمال؛ والله أحق بالكمال؛ ثم إن ما نشاهده من الرحمة التي يختص الله بها - كإنزال المطر، وإزالة الجدب، وما أشبه ذلك - يدل على رحمة الله‏.‏ والعجب أن منكري وصف الله بالرحمة الحقيقية بحجة أن العقل لا يدل عليها، أو أنه يحيلها، قد أثبتوا لله إرادة حقيقية بحجة عقلية أخفى من الحجة العقلية على رحمة الله، حيث قالوا‏:‏ إن تخصيص بعض المخلوقات بما تتميز به يدل عقلًا على الإرادة؛ ولا شك أن هذا صحيح؛ ولكنه بالنسبة لدلالة آثار الرحمة عليها أخفى بكثير؛ لأنه لا يتفطن له إلا أهل النباهة؛ وأما آثار الرحمة فيعرفه حتى العوام‏:‏ فإنك لو سألت عاميًّا صباح ليلة المطر‏:‏ ‏"‏بِمَ مطرنا‏؟‏ ‏"‏ لقال‏:‏ ‏"‏بفضل الله، ورحمته‏"‏‏.‏ مسألة‏:‏ هل البسملة آية من الفاتحة؛ أو لا‏؟‏ في هذا خلاف بين العلماء؛ فمنهم من يقول‏:‏ إنها آية من الفاتحة، ويقرأ بها جهرًا في الصلاة الجهرية، ويرى أنها لا تصح إلا بقراءة البسملة؛ لأنها من الفاتحة‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ إنها ليست من الفاتحة؛ ولكنها آية مستقلة من كتاب الله، وهذا القول هو الحق؛ ودليل هذا النص، وسياق السورة‏.‏ أما النص‏:‏ فقد جاء في حديث أبي هريرة نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال‏:‏ ‏(‏قال الله تعالى‏:‏ قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين‏:‏ فإذا قال‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ حمدني عبدي، وإذا قال‏:‏ ‏{‏الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 3‏]‏، قال الله تعالى‏:‏ أثنى علي عبدي؛ فإذا قال‏:‏ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 4‏]‏، قال الله تعالى‏:‏ مَّجدني عبدي، فإذا قال‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏، قال الله تعالى‏:‏ هذا بيني وبين عبدي نصفين؛ وإذا قال‏:‏ ‏{‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ هذا لعبدي؛ ولعبدي ما سأل‏)‏، وهذا كالنص على أن البسملة ليست من الفاتحة؛ وفي الصحيح عن أنس بن مالك نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة قال‏:‏ ‏(‏صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلّم - وأبي بكر، وعمر، وعثمان؛ فكانوا يستفتحون بـ‏{‏الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ لا يذكرون ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏ في أول قراءة، ولا في آخرها‏"‏‏.‏ والمراد لا يجهرون؛ والتمييز بينها وبين الفاتحة في الجهر، وعدمه يدل على أنها ليست منها‏.‏ أما من جهة السياق من حيث المعنى‏:‏ فالفاتحة سبع آيات بالاتفاق؛ وإذا أردت أن توزع سبع الآيات على موضوع السورة وجدت أن نصفها هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وهي الآية التي قال الله فيها‏:‏ ‏(‏قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين‏)‏؛ لأن ‏{‏الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏‏:‏ واحدة؛ ‏{‏الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 3‏]‏‏:‏ الثانية؛ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 4‏]‏ ‏:‏ الثالثة؛ وكلها حق لله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏‏:‏ الرابعة - يعني الوسط - وهي قسمان‏:‏ قسم منها حق لله؛ وقسم حق للعبد؛ ‏{‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏ للعبد؛ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏7‏]‏‏.‏ للعبد؛ ‏{‏غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏7‏]‏ للعبد‏.‏ فتكون ثلاث آيات لله عز وجل وهي الثلاث الأولى؛ وثلاث آيات للعبد وهي الثلاث الأخيرة؛ وواحدة بين العبد وربه وهي الرابعة الوسطى‏.‏ ثم من جهة السياق من حيث اللفظ فإذا قلنا‏:‏ إن البسملة آية من الفاتحة لزم أن تكون الآية السابعة طويلة على قدر آيتين؛ ومن المعلوم أن تقارب الآيات في الطول والقصر هو الأصل‏.‏ فالصواب الذي لا شك فيه أن البسملة ليست من الفاتحة كما أن البسملة ليست من بقية السور‏.‏ ‏{‏الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وصف المحمود بالكمال مع المحبة، والتعظيم؛ الكمال الذاتي، والوصفي، والفعلي؛ فهو كامل في ذاته، وصفاته، وأفعاله؛ ولابد من قيد وهو ‏"‏المحبة، والتعظيم‏"‏؛ قال أهل العلم‏:‏ ‏"‏لأن مجرد وصفه بالكمال بدون محبة، ولا تعظيم‏:‏ لا يسمى حمدًا؛ وإنما يسمى مدحًا‏"‏؛ ولهذا يقع من إنسان لا يحب الممدوح؛ لكنه يريد أن ينال منه شيئًا؛ تجد بعض الشعراء يقف أمام الأمراء، ثم يأتي لهم بأوصاف عظيمة لا محبة فيهم؛ ولكن محبة في المال الذي يعطونه، أو خوفًا منهم؛ ولكن حمدنا لربنا عز وجل حمد محبة، وتعظيم؛ فلذلك صار لابد من القيد في الحمد أنه وصف المحمود بالكمال مع المحبة، والتعظيم؛ و‏"‏أل‏"‏ في ‏{‏الْحَمْدُ‏}‏ للاستغراق‏:‏ أي استغراق جميع المحامد‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏للَّهِ‏}‏ اللام للاختصاص، والاستحقاق؛ و‏"‏الله‏"‏ اسم ربنا عز وجل؛ لا يسمى به غيره؛ ومعناه‏:‏ المألوه - أي المعبود حبًّا، وتعظيمًا‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏؛ ‏"‏الرب‏"‏‏:‏ هو من اجتمع فيه ثلاثة أوصاف‏:‏ الخلق، والملك، والتدبير؛ فهو الخالق، المالك لكل شيء، المدبر لجميع الأمور؛ و‏{‏الْعَالَمِينَ‏}‏‏:‏ قال العلماء‏:‏ كل ما سوى الله فهو من العالَم؛ وصفوا بذلك؛ لأنهم علم على خالقهم سبحانه وتعالى؛ ففي كل شيء من المخلوقات آية تدل على الخالق‏:‏ على قدرته، وحكمته، ورحمته، وعزته، وغير ذلك من معاني ربوبيته‏.‏ الفوائد‏:‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:03 PM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

1 - من فوائد الآية‏:‏ إثبات الحمد الكامل لله عز وجل، وذلك من ‏"‏أل‏"‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ‏}‏؛ لأنها دالة على الاستغراق‏.‏

2 - ومنها‏:‏ أن الله تعالى مستحق مختص بالحمد الكامل من جميع الوجوه؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلّم - إذا أصابه ما يسره قال‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات‏)‏؛ وإذا أصابه خلاف ذلك قال‏:‏ ‏(‏الحمد لله على كل حال‏)‏‏.‏

3 - ومنها‏:‏ تقديم وصف الله بالألوهية على وصفه بالربوبية؛ وهذا إما لأن ‏"‏الله‏"‏ هو الاسم العلَم الخاص به، والذي تتبعه جميع الأسماء؛ وإما لأن الذين جاءتهم الرسل ينكرون الألوهية فقط‏.‏ 4 - ومنها‏:‏ عموم ربوبية الله تعالى لجميع العالم؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏ ‏{‏الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏‏:‏ ‏{‏الرَّحْمنِ‏}‏ صفة للفظ الجلالة؛ و‏{‏الرَّحِيمِ‏}‏ صفة أخرى؛ و‏{‏الرَّحْمنِ‏}‏ هو ذو الرحمة الواسعة؛ و‏{‏الرَّحِيمِ‏}‏ هو ذو الرحمة الواصلة؛ فـ‏{‏الرَّحْمنِ‏}‏ وصفه؛ و‏{‏الرَّحِيمِ‏}‏ فعله؛ ولو أنه جيء بـ‏{‏الرَّحْمنِ‏}‏ وحده، أو بـ‏{‏الرَّحِيمِ‏}‏ وحده لشمل الوصف، والفعل؛ لكن إذا اقترنا فُسر ‏{‏الرَّحْمنِ‏}‏ بالوصف؛ و‏{‏الرَّحِيمِ‏}‏ بالفعل‏.‏ الفوائد‏:‏ 1 - من فوائد الآية‏:‏ إثبات هذين الاسمين الكريمين ‏{‏الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏ لله عز وجل؛ وإثبات ما تضمناه من الرحمة التي هي الوصف، ومن الرحمة التي هي الفعل‏.‏

2 - ومنها‏:‏ أن ربوبية الله عز وجل مبنية على الرحمة الواسعة للخلق الواصلة؛ لأنه تعالى لما قال‏:‏ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ كأن سائلًا يسأل‏:‏ ‏"‏ما نوع هذه الربوبية‏؟‏ هل هي ربوبية أخذ، وانتقام‏؟‏ أو ربوبية رحمة، وإنعام‏؟‏‏"‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏‏.‏ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ صفة لـ‏{‏الله‏}‏؛ و‏{‏يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ هو يوم القيامة؛ و‏{‏الدِّينِ‏}‏ هنا بمعنى الجزاء؛ يعني أنه سبحانه وتعالى مالك لذلك اليوم الذي يجازى فيه الخلائق؛ فلا مالك غيره في ذلك اليوم؛ و‏"‏الدين‏"‏ تارة يراد به الجزاء، كما في هذه الآية؛ وتارة يراد به العمل، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 6‏]‏، ويقال‏:‏ ‏"‏كما تدين تُدان‏"‏ أي كما تعمل تُجازى‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَالِكِ‏}‏ قراءة سبعية‏:‏ ‏{‏مَلِك‏}‏، و‏"‏الملك‏"‏ أخص من ‏"‏المالك‏"‏‏.‏ وفي الجمع بين القراءتين فائدة عظيمة؛ وهو أن ملكه جل وعلا ملك حقيقي؛ لأن من الخلق من يكون ملكًا، ولكن ليس بمالك‏:‏ يسمى ملكًا اسمًا وليس له من التدبير شيء؛ ومن الناس من يكون مالكًا، ولا يكون ملكًا‏:‏ كعامة الناس؛ ولكن الرب عز وجل مالك ملك‏.‏ الفوائد‏:‏

1 - من فوائد الآية‏:‏ إثبات ملك الله عز وجل، وملكوته يوم الدين؛ لأن في ذلك اليوم تتلاشى جميع الملكيات، والملوك‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ أليس مالك يوم الدين، والدنيا‏؟‏ فالجواب‏:‏ بلى؛ لكن ظهور ملكوته، وملكه، وسلطانه إنما يكون في ذلك اليوم؛ لأن الله تعالى ينادي‏:‏ ‏{‏لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏ فلا يجيب أحد؛ فيقول تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏؛ في الدنيا يظهر ملوك؛ بل يظهر ملوك يعتقد شعوبهم أنه لا مالك إلا هم؛ فالشيوعيون مثلًا لا يرون أن هناك ربًّا للسموات والأرض؛ يرون أن الحياة‏:‏ أرحام تدفع، وأرض تبلع؛ وأن ربهم هو رئيسهم‏.‏

2 - ومن فوائد الآية‏:‏ إثبات البعث، والجزاء؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏‏.‏

3 - ومنها‏:‏ حث الإنسان على أن يعمل لذلك اليوم الذي يُدان فيه العاملون‏.‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏؛ ‏{‏إِيَّاكَ‏}‏‏:‏ مفعول به مقدم؛ وعامله‏:‏ ‏{‏نَعْبُدُ‏}‏؛ وقُدِّم على عامله لإفادة الحصر؛ فمعناه‏:‏ لا نعبد إلا إياك؛ وكان منفصلًا لتعذر الوصل حينئذ؛ و‏{‏نَعْبُدُ‏}‏ أي نتذلل لك أكمل ذلّ؛ ولهذا تجد المؤمنين يضعون أشرف ما في أجسامهم في موطئ الأقدام ذلًا لله عز وجل‏:‏ يسجد على التراب؛ تمتلئ جبهته من التراب - كل هذا ذلًا لله؛ ولو أن إنسانًا قال‏:‏ ‏"‏أنا أعطيك الدنيا كلها واسجد لي‏"‏ ما وافق المؤمن أبدًا؛ لأن هذا الذل لله عز وجل وحده‏.‏ و‏"‏العبادة‏"‏ تتضمن فعل كل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى الله عنه؛ لأن من لم يكن كذلك فليس بعابد‏:‏ لو لم يفعل المأمور به لم يكن عابدًا حقًّا؛ ولو لم يترك المنهي عنه لم يكن عابدًا حقًّا؛ العبد‏:‏ هو الذي يوافق المعبود في مراده الشرعي؛ فـ‏"‏العبادة‏"‏ تستلزم أن يقوم الإنسان بكل ما أُمر به، وأن يترك كل ما نُهي عنه؛ ولا يمكن أن يكون قيامه هذا بغير معونة الله؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ أي لا نستعين إلا إياك على العبادة، وغيرها؛ و‏"‏الاستعانة‏"‏ طلب العون؛ والله سبحانه وتعالى يجمع بين العبادة، والاستعانة، أو التوكل في مواطن عدة في القرآن الكريم؛ لأنه لا قيام بالعبادة على الوجه الأكمل إلا بمعونة الله، والتفويض إليه، والتوكل عليه‏.‏ الفوائد‏:‏

1 - من فوائد الآية‏:‏ إخلاص العبادة لله؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏؛ ووجه الإخلاص‏:‏ تقديم المعمول‏.‏

2 - ومنها‏:‏ إخلاص الاستعانة بالله عز وجل، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ حيث قدم المفعول‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ كيف يقال‏:‏ إخلاص الاستعانة بالله وقد جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ إثبات المعونة من غير الله عز وجل، وقال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏تعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة‏)‏‏.‏ فالجواب‏:‏ أن الاستعانة نوعان‏:‏ استعانة تفويض؛ بمعنى أنك تعتمد على الله عز وجل، وتتبرأ من حولك، وقوتك؛ وهذا خاص بالله عز وجل؛ واستعانة بمعنى المشاركة فيما تريد أن تقوم به‏:‏ فهذه جائزة إذا كان المستعان به حيًّا قادرًا على الإعانة؛ لأنه ليس عبادة؛ ولهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ وهل الاستعانة بالمخلوق جائزة في جميع الأحوال‏؟‏ فالجواب‏:‏ لا؛ الاستعانة بالمخلوق إنما تجوز حيث كان المستعان به قادرًا عليها؛ وأما إذا لم يكن قادرًا فإنه لا يجوز أن تستعين به‏:‏ كما لو استعان بصاحب قبر فهذا حرام؛ بل شرك أكبر؛ لأن صاحب القبر لا يغني عن نفسه شيئًا؛ فكيف يعينه‏!‏ وكما لو استعان بغائب في أمر لا يقدر عليه، مثل أن يعتقد أن الولّي الذي في شرق الدنيا يعينه على مهمته في بلده‏:‏ فهذا أيضًا شرك أكبر؛ لأنه لا يقدر أن يعينه وهو هناك‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ هل يجوز أن يستعين المخلوق فيما تجوز استعانته به‏؟‏ فالجواب‏:‏ الأولى أن لا يستعين بأحد إلا عند الحاجة، أو إذا علم أن صاحبه يُسر بذلك، فيستعين به من أجل إدخال السرور عليه؛ وينبغي لمن طلبت منه الإعانة على غير الإثم والعدوان أن يستجيب لذلك‏.‏ ‏{‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏‏:‏ ‏{‏الصِّرَاطَ‏}‏ فيه قراءتان‏:‏ بالسين‏:‏ ‏{‏السراط‏}‏، وبالصاد الخالصة‏:‏ ‏{‏الصِّرَاطَ‏}‏؛ والمراد بـ‏{‏الصِّرَاطَ‏}‏ الطريق؛ والمراد بـ‏"‏الهداية‏"‏ هداية الإرشاد، وهداية التوفيق؛ فأنت بقولك‏:‏ ‏{‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ تسأل الله تعالى علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا؛ و‏{‏المُستَقِيمَ‏}‏ أي الذي لا اعوجاج فيه‏.‏ الفوائد‏:‏

1 - من فوائد الآية‏:‏ لجوء الإنسان إلى الله عز وجل بعد استعانته به على العبادة أن يهديه الصراط المستقيم؛ لأنه لابد في العبادة من إخلاص؛ يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏؛ ومن استعانة يتقوى بها على العبادة؛ يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏؛ ومن اتباع للشريعة؛ يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏؛ لأن ‏{‏الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ هو الشريعة التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلّم - ‏.‏

2 - ومن فوائد الآية‏:‏ بلاغة القرآن، حيث حذف حرف الجر من ‏{‏اهدِنَا‏}‏؛ والفائدة من ذلك‏:‏ لأجل أن تتضمن طلب الهداية‏:‏ التي هي هداية العلم، وهداية التوفيق؛ لأن الهداية تنقسم إلى قسمين‏:‏ هداية علم وإرشاد؛ وهداية توفيق، وعمل؛ فالأولى ليس فيها إلا مجرد الدلالة؛ والله عز وجل قد هدى بهذا المعنى جميع الناس، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏؛ والثانية فيها التوفيق للهدى، واتباع الشريعة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏؛ وهذه قد يحرمها بعض الناس، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏فَهَدَيْنَاهُمْ‏}‏ أي بيّنا لهم الحق، ودَلَلْناهم عليه؛ ولكنهم لم يوفقوا‏.‏

3 - ومن فوائد الآية‏:‏ أن الصراط ينقسم إلى قسمين‏:‏ مستقيم، ومعوج؛ فما كان موافقًا للحق فهو مستقيم، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏؛ وما كان مخالفًا فهو معوج‏.‏ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ عطف بيان لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏؛ والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا‏}‏‏.‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ ‏:‏ هم اليهود، وكل من علم بالحق ولم يعمل به‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏‏:‏ هم النصارى قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلّم - وكل من عمل بغير الحق جاهلًا به‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلَيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ قراءتان سبعيتان‏:‏ إحداهما ضم الهاء؛ والثانية كسرها‏.‏ واعلم أن القراءة التي ليست في المصحف الذي بين أيدي الناس لا تنبغي القراءة بها عند العامة لوجوه ثلاثة‏:‏ الوجه الأول‏:‏ أن العامة إذا رأوا هذا القرآن العظيم الذي قد ملأ قلوبهم تعظيمه، واحترامه إذا رأوه مرة كذا، ومرة كذا تنزل منزلته عندهم؛ لأنهم عوام لا يُفرقون‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ أن القارئ يتهم بأنه لا يعرف؛ لأنه قرأ عند العامة بما لا يعرفونه؛ فيبقى هذا القارئ حديث العوام في مجالسهم‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أنه إذا أحسن العامي الظن بهذا القارئ، وأن عنده علمًا بما قرأ، فذهب يقلده، فربما يخطئ، ثم يقرأ القرآن لا على قراءة المصحف، ولا على قراءة التالي الذي قرأها، وهذه مفسدة‏.‏ ولهذا قال علّي‏:‏ ‏(‏حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله‏)‏، وقال ابن مسعود نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة‏:‏ ‏(‏إنك لا تحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة‏)‏، وعمر بن الخطاب نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة لما سمع هشام بن حكيم يقرأ آية لم يسمعها عمر على الوجه الذي قرأها هشام خاصمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلّم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلّم - لهشام‏:‏ ‏(‏اقرأ‏)‏، فلما قرأ قال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏هكذا أنزلت‏)‏، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلّم - لعمر‏:‏ ‏(‏اقرأ‏)‏، فلما قرأ قال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏هكذا أُنزلت‏)‏؛ لأن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فكان الناس يقرؤون بها حتى جمعها عثمان نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة على حرف واحد حين تنازع الناس في هذه الأحرف، فخاف نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة أن يشتد الخلاف، فجمعها في حرف واحد - وهو حرف قريش؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلّم - الذي نزل عليه القرآن بُعث منهم؛ ونُسيت الأحرف الأخرى؛ فإذا كان عمر نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة فعل ما فعل بصحابي، فما بالك بعامي يسمعك تقرأ غير قراءة المصحف المعروف عنده‏!‏ والحمد لله‏:‏ مادام العلماء متفقين على أنه لا يجب أن يقرأ الإنسان بكل قراءة، وأنه لو اقتصر على واحدة من القراءات فلا بأس؛ فدع الفتنة، وأسبابها‏.‏ الفوائد‏:‏ 1 - من فوائد الايتين‏:‏ ذكر التفصيل بعد الإجمال؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏‏:‏ وهذا مجمل؛ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏7‏]‏‏:‏ وهذا مفصل؛ لأن الإجمال، ثم التفصيل فيه فائدة‏:‏ فإن النفس إذا جاء المجمل تترقب، وتتشوف للتفصيل، والبيان، فإذا جاء التفصيل ورد على نفس مستعدة لقبوله متشوفة إليه؛ ثم فيه فائدة ثانية هنا‏:‏ وهي بيان أن الذين أنعم الله عليهم على الصراط المستقيم‏.‏

2 - ومنها‏:‏ إسناد النعمة إلى الله تعالى وحده في هداية الذين أنعم عليهم؛ لأنها فضل محض من الله‏.‏

3 - ومنها‏:‏ انقسام الناس إلى ثلاثة أقسام؛ قسم أنعم الله عليهم؛ وقسم مغضوب عليهم؛ وقسم ضالون؛ وقد سبق بيان هذه الأقسام‏.‏ وأسباب الخروج عن الصراط المستقيم‏:‏ إما الجهل؛ أو العناد؛ والذين سبب خروجهم العناد هم المغضوب عليهم، وعلى رأسهم اليهود؛ والاخرون الذين سبب خروجهم الجهل كل من لا يعلم الحق، وعلى رأسهم النصارى؛ وهذا بالنسبة لحالهم قبل البعثة - أعني النصارى؛ أما بعد البعثة فقد علموا الحق، وخالفوه؛ فصاروا هم، واليهود سواءً - كلهم مغضوب عليهم‏.‏

4 - ومن فوائد الآيتين‏:‏ بلاغة القرآن، حيث جاء التعبير عن المغضوب عليهم باسم المفعول الدال على أن الغضب عليهم حاصل من الله تعالى، ومن أوليائه‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:07 PM   المشاركة رقم: 4
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

5 - ومنها‏:‏ أنه يقدم الأشد، فالأشد؛ لأنه تعالى قدم المغضوب عليهم على الضالين؛ لأنهم أشد مخالفة للحق من الضالين؛ فإن المخالف عن علم يصعب رجوعه بخلاف المخالف عن جهل‏.‏ وعلى كل حال السورة هذه عظيمة؛ ولا يمكن لا لي، ولا لغيري أن يحيط بمعانيها العظيمة؛ لكن هذا قطرة من بحر؛ ومن أراد التوسع في ذلك فعليه بكتاب ‏"‏مدارج السالكين‏"‏ لابن القيم رحمه الله‏.‏



تفسير سورة النبأ



{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَسَاءلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 1‏:‏ 16‏]‏‏.‏



البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏عَمَّ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 1‏]‏‏.‏ يعني عم يتساءل هؤلاء، ثم أجاب الله عز وجل عن هذا السؤال فقال‏:‏ ‏{‏عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 1‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وهذا النبأ هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من البينات والهدى، ولاسيما ما جاء به من الأخبار عن اليوم الاخر والبعث والجزاء، وقد اختلف الناس في هذا النبأ الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ فمنهم من آمن به وصدق، ومنهم من كفر به وكذب، فبين الله أن هؤلاء الذين كذبوا سيعلمون ما كذبوا به علم اليقين، وذلك إذا رأوا يوم القيامة يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق، ولهذا قال سبحانه هنا‏:‏ ‏{‏كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 4‏:‏ 5‏]‏‏.‏ والجملة الثانية توكيدٌ للأولى من حيث المعنى، وإن كانت ليست توكيدًا باعتبار اصطلاح النحويين؛ لأنه فُصل بينها وبين التي قبلها بحرف العطف، والتوكيد لا يُفصل بينه وبين مؤكدة بشيء من الحروف‏.‏ والمراد بالعلم الذي توعدهم الله به هو علم اليقين الذي يشاهدونه على حسب ما أخبروا به‏.‏ ثم بين الله تعالى نعمه على عباده ليقرر هذه النعم فيلزمهم شكرها فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 6‏]‏‏.‏ أي جعل الله الأرض مهادًا ممهدة للخلق ليست بالصلبة التي لا يستطيعون حرثها، ولا المشي عليها إلا بصعوبة، وليست باللينة الرخوة التي لا ينتفعون بها، ولكنها ممهدة لهم على حسب مصالحهم وعلى حسب ما ينتفعون به‏.‏ ‏{‏وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 7‏]‏‏.‏ أي جعلها الله تعالى أوتادًا بمنزلة الوتد للخيمة حيث يثبتها فتثبت به، وهو أيضًا ثابت كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وهذه الأوتاد قال علماء الأرض‏:‏ إن هذه الجبال لها جذور راسخة في الأرض كما يرسخ جذر الوتد بالجدار، ولذلك تجدها صلبة قوية لا تزعزعها الرياح وهذا من تمام قدرته ونعمته‏.‏ ‏{‏وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 8‏]‏‏.‏ أي أصنافًا ما بين ذكر وأنثى، وصغير وكبير، وأسود وأحمر، وشقي وسعيد إلى غير ذلك مما يختلف الناس فيه، فهم أزواج مختلفون على حسب ما أراده الله عز وجل واقتضته حكمته ليعتبر الناس بقدرة الله تعالى، وأنه قادر على أن يجعل هذا البشر الذين خلقوا من مادة واحدة ومن أب واحد على هذه الأصناف المتنوعة المتباينة‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 9‏]‏‏.‏ أي قاطعًا للتعب، فالنوم يقطع ما سبقه من التعب، ويستجد به الإنسان نشاطًا للمستقبل، ولذلك تجد الرجل إذا تعب ثم نام استراح وتجدد نشاطه، وهذا من النعمة وهو أيضًا من آيات الله كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ‏}‏‏.‏ ‏[‏الروم‏:‏ 23‏]‏‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 10‏]‏‏.‏ أي جعل الله هذا الليل على الأرض بمنزلة اللباس كأن الأرض تلبسه ويكون جلبابًا لها، وهذا لا يعرفه تمام المعرفة إلا إذا صعد فوق ظل الأرض، وقد رأينا ذلك من الآيات العجيبة إذا صعدت في الطائرة وارتفعت وقد غابت الشمس عن سطح الأرض ثم تبينت لك الشمس بعد أن ترتفع تجد الأرض وكأنما كسيت بلباس أسود‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 11‏]‏‏.‏ أي معاشًا يعيش الناس فيه في طلب الرزق على حسب درجاتهم وعلى حسب أحوالهم، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على العباد‏.‏ ‏{‏وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وهي السماوات السبع، وصفها الله تعالى بالشداد لأنها قوية كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏‏.‏ أي بنيناها بقوة‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 13‏]‏ ‏.‏ يعني بذلك الشمس فهي سراج مضيء، وهي أيضًا ذات حرارة عظيمة‏.‏ ‏{‏وَهَّاجًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 13‏]‏‏.‏ أي وقَّادة، وحرارتها في أيام الصيف حرارة شديدة مع بعدها الساحق عن الأرض، فما ظنك بما يقرب منها، ثم إنها تكون في أيام الحر في شدة حرها من فيح جهنم، كما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم‏)‏‏.‏ وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏اشتكت النار إلى الله فقالت‏:‏ يا رب، أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم، وأشد ما يكون من الحر من فيح جهنم‏)‏‏.‏ ومع ذلك فإن فيها مصلحة عظيمة للخلق فهي توفر على الخلق أموالًا عظيمة في أيام النهار حيث يستغني الناس بها عن إيقاد الأنوار، وكذلك الطاقة التي تستخرج منها تكون فيها فوائد كثيرة، وكذلك إنضاج الثمار وغير هذا من الفوائد العديدة من هذا السراج الذي جعله الله عز وجل لعباده‏.‏ ولما ذكر السراج الوهاج الذي به الحرارة واليبوسة ذكر ما يقابل ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏14‏]‏‏.‏ والماء فيه رطوبة وفيه برودة، وهذا الماء أيضًا تنبت به الأرض وتحيا به، فإذا انضاف إلى هذا ماء السماء وحرارة الشمس حصل في هذا إنضاج للثمار ونمو لها على أكمل ما يكون‏.‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏14‏]‏‏.‏ يعني من السحاب، ووصفها الله بأنها معصرات كأنما تعصر هذا الماء عند نزوله عصرًا، كما يعصر الثوب، فإن هذا الماء يتخلل هذا السحاب ويخرج منه كما يخرج الماء من الثوب المعصور، وقوله‏:‏ ‏{‏مَاء ثَجَّاجًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏14‏]‏‏.‏ أي كثير التدفق واسعًا‏.‏ ‏{‏لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏14‏]‏‏.‏ أي لنخرج بهذا الماء الذي أنزل من السماء إلى الأرض فتنبت الأرض ويخرج الله به من الحب بجميع أصنافه وأنواعه البر والشعير والذرة وغيرها‏.‏ ‏{‏وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 16‏]‏‏.‏ أي بساتين ملتفًا بعضها إلى بعض، من كثرتها وحسنها وبهائها حتى إنها لتستر من فيها لكثرتها، والتفاف بعضها إلى بعض، وهي الأشجار التي لها ساق، فيخرج من هذا الماء الثجاج الزروع والنخيل والأعناب وغيرها سواء خرج منه مباشرة أو خرج منه بواسطة استخراج الماء من باطن الأرض؛ لأن الماء الذي في باطن الأرض هو من المطر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وقال تعالى في آية أخرى‏:‏ ‏{‏فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ‏}‏‏.‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 21‏]‏‏.‏ ولما ذكر الله تعالى ما أنعم به على العباد ذكر حال اليوم الاخر وأنه ميقات يجمع الله به الأولين والآخرين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلْطَّاغِينَ مَآبًا لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا جَزَاء وِفَاقًا إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 17‏:‏ 30‏]‏‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وهو يوم القيامة، وسمي يوم فصل لأن الله يفصل فيه بين العباد فيما شجر بينهم، وفيما كانوا يختلفون فيه، فيفصل بين أهل الحق وأهل الباطل، وأهل الكفر وأهل الإيمان، وأهل العدوان وأهل الاعتدال، ويفصل فيه أيضًا بين أهل الجنة والنار، فريق في الجنة وفريق في السعير‏.‏ ‏{‏كَانَ مِيقَاتًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 17‏]‏‏.‏ يعني موقوتًا لأجل معدود كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 104‏]‏‏.‏ وما ظنك بشيء له أجل معدود وأنت ترى الأجل كيف يذهب سريعًا يومًا بعد يوم حتى ينتهي الإنسان إلى آخر مرحلة، فكذلك الدنيا كلها تسير يومًا بعد يوم حتى تنتهي إلى آخر مرحلة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 104‏]‏‏.‏ كل شيء معدود فإنه ينتهي‏.‏ ‏{‏يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 18‏]‏ والنافخ الموكل فيها إسرافيل، ينفخ فيها نفختين‏:‏

الأولى‏:‏ يفزع الناس ثم يصعقون فيموتون، والثانية‏:‏ يبعثون من قبورهم تعود إليهم أرواحهم، ولهذا قال هنا‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وفي الآية إيجاز بالحذف أي فتحيون فتأتون أفواجًا؛ فوجًا مع فوج أو يتلو فوجًا، وهذه الأفواج - والله أعلم - بحسب الأمم كل أمة تدعى إلى كتابها لتحاسب عليه، فيأتي الناس أفواجًا في هذا الموقف العظيم الذي تسوى فيه الأرض فيذرها الله عز وجل قاعًا صفصفًا لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، وفي هذا اليوم يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا‏}‏ ‏[‏النبأى‏:‏ 19‏]‏‏.‏ فتحت وانفرجت فتكون أبوابًا يشاهدها الناس بعد أن كانت سقفًا محفوظًا تكون في ذلك اليوم أبوابًا مفتوحة، وفي هذا دليل على كمال قدرة الله عز وجل أن هذه السبع الشداد يجعلها الله تعالى يوم القيامة كأن لم تكن، تكون أبوابًا ‏{‏يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 8 - 11‏]‏‏.‏ ‏{‏وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 20‏]‏‏.‏ أي أن الجبال العظيمة الصماء تُدك فتكون كالرمل ثم تكون كالسراب تسير ‏{‏وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 20‏]‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلْطَّاغِينَ مَآبًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 21‏:‏ 23‏]‏‏.‏ الطغيان مجاوزة الحد، وحد الإنسان مذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏‏.‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏‏.‏ فمن جاوز حده ولم يعبد الله فهو الطاغي، فجهنم كانت للطاغين مآبهم ومرجعهم وأنهم لابثون فيها أحقابًا‏.‏ ‏{‏لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 24‏]‏‏.‏ نفى الله سبحانه وتعالى عنهم البرد الذي تبرد به ظواهر أبدانهم، والشراب الذي تبرد به أجوافهم‏.‏ ‏{‏إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏25 ‏]‏‏.‏ الاستثناء هنا منقطع عند النحويين لأن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، والمعنى ليس لهم إلا هذا الحميم وهو الماء الحار المنتهي في الحرارة‏.‏ ‏{‏يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏.‏ ‏{‏وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ‏}‏‏.‏ ‏[‏محمد‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ‏{‏وَغَسَّاقًا‏}‏ قال المفسرون‏:‏ إن الغساق هو شراب منتن الرائحة شديد البرودة، فيجمع لهم - والعياذ بالله - بين الماء الحار الشديد الحرارة، والماء البارد الشديد البرودة ليذوقوا العذاب من الناحيتين‏:‏ من ناحية الحرارة، ومن ناحية البرودة، بل إن بعض أهل التفسير قالوا‏:‏ إن المراد بالغساق صديد أهل النار، وما يخرج من أجوافهم من النتن والعرق وغير ذلك‏.‏ وعلى كل حال فالآية الكريمة تدل على أنهم لا يذوقون إلا هذا الشراب الذي يقطع أمعاءهم من حرارته، ويفطّر أكبادهم من برودته، نسأل الله العافية‏.‏ وإذا اجتمعت هذه الأنواع من العذاب كان ذلك زيادة في مضاعفة العذاب عليهم‏.‏ ‏{‏جَزَاء وِفَاقًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 26‏]‏‏.‏ أي يجزون بذلك جزاء موافقًا لأعمالهم من غير أن يظلموا، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 44‏]‏‏.‏ فهذا الجزاء موافق مطابق لأعمالهم‏.‏ ثم بين وجه الموافقة أي موافقة هذا العذاب للأعمال فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 27‏:‏ 28‏]‏‏.‏ فذكر انحرافهم في العقيدة وانحرافهم في القول، ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا‏}‏ أي لا يؤملون أن يحاسبوا بل ينكرون الحساب، ينكرون البعث يقولون‏:‏ ‏{‏مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ‏}‏ فلا يرجون حسابًا يحاسبون به لأنهم ينكرون ذلك، هذه عقيدة قلوبهم، أما ألسنتهم فيكذبون يقولون هذا كذب، هذا سحر، هذا جنون، وما أشبه ذلك كما جاء في كتاب الله ما يصف به هؤلاء المكذبون رسل الله، كما قال عز وجل‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وقال الله تعالى عن المكذبين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقالوا إنه شاعر ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ ولولا أن الله ثبت أقدام الرسل وصبرهم على قومهم ما صبروا على هذا الأمر، ثم إن قومهم المكذبين لهم لم يقتصروا على هذا بل آذوهم بالفعل كما فعلوا مع الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - من الأذية العظيمة بل آذوهم بحمل السلاح عليهم، فمن كانت هذه حاله فجزاؤه جهنم جزاءً موافقًا مطابقًا لعمله كما في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏جَزَاء وِفَاقًا إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏25‏:‏ 28 ‏]‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا‏}‏ ‏{‏َكُلَّ شَيْءٍ‏}‏ يشمل ما يفعله الله - عز وجل - من الخلق والتدبير في الكون، ويشمل ما يعمله العباد من أقوال وأفعال، ويشمل كل صغير وكبير ‏{‏أَحْصَيْنَاهُ‏}‏ أي ضبطناه بالإحصاء الدقيق الذي لا يختلف‏.‏ ‏{‏كِتَابًا‏}‏ يعني كتبًا، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله تعالى كتب مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، ومن جملة ذلك أعمال بني آدم فإنها مكتوبة، بل كل قول يكتب، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 18‏]‏‏.‏ رقيب يعني مراقب، والعتيد يعني الحاضر‏.‏ ودخل رجل على الإمام أحمد رحمه الله وهو مريض يئن من مرضه فقال له‏:‏ يا أبا عبدالله إن طاووسًا وهو أحد التابعين المشهورين يقول‏:‏ إن أنين المريض يكتب، فتوقف رحمه الله عن الأنين خوفًا من أن يكتب عليه أنين مرضه‏.‏ فكيف بأقوال لا حدّ لها ولا ممسك لها، ألفاظ تترى طوال الليل والنهار ولا يحسب لها الحساب، فكل شيء يكتب حتى الهم يكتب إما لك وإما عليك، من همّ بالسيئة فلم يعملها عاجزًا عنها فإنها تكتب عليه، وإن هم بها وتركها لله فإنها تكتب له، فلا يضيع شيء كل شيء أحصيناه كتابًا‏.‏ ‏{‏فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 30‏]‏‏.‏ هذا الأمر للإهانة والتوبيخ، يعني يقال لأهل النار‏:‏ ذوقوا العذاب إهانة وتوبيخًا فلن نزيدكم إلا عذابًا ولن نخفف عنكم بل ولا نبقيكم على ما أنتم عليه لا نزيدكم إلا عذابًا في قوته ومدته ونوعه، وفي آية أخرى أنهم يقولون لخزنة جهنم‏:‏ ‏{‏ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 49‏]‏‏.‏ تأمل هذه الكلمة من عدة أوجه‏:‏ أولًا‏:‏ أنهم لم يسألوا الله سبحانه وتعالى وإنما طلبوا من خزنة جهنم أن يدعوا لهم‏.‏ لأن الله قال لهم‏:‏ ‏{‏قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ‏}‏‏.‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏‏.‏ فرأوا أنفسهم أنهم ليسوا أهلًا لأن يسألوا الله ويدعوه إلا بواسطة‏.‏ ثانيًا‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ ‏{‏ادْعُواْ رَبَّكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 49‏]‏‏.‏ ولم يقولوا‏:‏ ادعوا ربنا، لأن وجوههم وقلوبهم لا تستطيع أن تتحدث أو أن تتكلم بإضافة ربوبية الله لهم أي بأن يقولوا ربنا، عندهم من العار والخزي ما يرون أنهم ليسوا أهلًا لأن تضاف ربوبية الله إليهم بل قالوا ‏{‏رَبَّكُمْ‏}‏‏.‏ ثالثًا‏:‏ لم يقولوا يرفع عنا العذاب بل قالوا‏:‏ ‏{‏يُخَفِّفْ‏}‏ لأنهم آيسون نعوذ بالله، آيسون من أن يرفع عنهم‏.‏ رابعًا‏:‏ أنهم لم يقولوا يخفف عنا العذاب دائمًا، بل قالوا ‏{‏يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 79‏]‏‏.‏ يومًا واحدًا، بهذا يتبين ما هم عليه من العذاب والهوان والذل ‏{‏وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 45‏]‏‏.‏ أعاذنا الله منها‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:13 PM   المشاركة رقم: 5
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا وَكَأْسًا دِهَاقًا لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 31‏:‏ 36‏]‏‏.‏



ذكر الله عز وجل ما للمتقين من النعيم بعد قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلْطَّاغِينَ مَآبًا‏}‏‏.‏ لأن القرآن مثاني إذا ذكر فيه العقاب ذكر فيه الثواب، وإذا ذكر الثواب ذكر العقاب، وإذا ذكر أهل الخير ذكر أهل الشر، وإذا ذكر الحق ذكر الباطل، مثاني حتى يكون سير الإنسان إلى ربه بين الخوف والرجاء؛ لأنه إن غلب عليه الرجاء وقع في الأمن من مكر الله، وإن غلب عليه الخوف وقع في القنوط من رحمة الله، وكلاهما من كبائر الذنوب، كلاهما شر، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله‏:‏ ‏"‏ينبغي أن يكون الإنسان في عبادته لربه بين الخوف والرجاء، فأيهما غلب هلك صاحبه‏"‏‏.‏ لذلك تجد القرآن الكريم يأتي بهذا وبهذا، ولئلا تمل النفوس من ذكر حال واحدة والإسهاب فيها دون ما يقابلها‏.‏ وهكذا، لأجل أن يكون الإنسان حين يقرأ القرآن راغبًا راهبًا، وهذا من بلاغة القرآن الكريم‏.‏ ‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 31‏]‏‏.‏ المتقون هم الذين اتقوا عقاب الله، وذلك بفعل أوامر الله واجتناب نواهيه، وأحيانًا يأمر الله بتقواه، وأحيانًا يأمر بتقوى يوم الحساب، وأحيانًا يأمر بتقوى النار، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُواْ النَّارَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 130‏]‏‏.‏ فجمع بين الأمر بتقواه والأمر بتقوى النار، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 281‏]‏‏.‏ فأمر بتقوى يوم الحساب، وكل هذا يدور على معنى واحد وهو‏:‏ أن يتقي الإنسان محارم ربه فيقوم بطاعته وينتهي عن معصيته، فالمتقون هم الذين قاموا بأوامر الله واجتنبوا نواهي الله، هؤلاء لهم ‏{‏مَفَازًا‏}‏، والمفاز هو مكان الفوز وزمان الفوز أيضًا، فهم فائزون في أمكنتهم، وفائزون في أيامهم‏.‏ ‏{‏حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا‏}‏ هذا نوع المفاز، ‏{‏حَدَائِقَ‏}‏ أي بساتين أشجارها عظيمة وكثيرة ومنوعة الأشجار‏.‏ ‏{‏وَأَعْنَابًا‏}‏ الأعناب جمع عنب وهي من جملة الحدائق لكنه خصها بالذكر‏.‏ ‏{‏وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا‏}‏ الكواعب جمع كاعب وهي التي تبين ثديها ولم يتدل، بل برز وظهر كالكعب، وهذا أكمل ما يكون في جمال الصدر‏.‏ و‏{‏أَتْرَابًا‏}‏ أي على سن واحدة لا تختلف إحداهن عن الأخرى كبرًا كما في نساء الدنيا، لأنها لو اختلفت إحداهن عن الأخرى كبرًا فربما تختل الموازنة بينهما، وربما تكون إحداهما محزونة إذا لم تساوي الأخرى، لكنهن أتراب‏.‏ ‏{‏وَكَأْسًا دِهَاقًا‏}‏ أي كأسًا ممتلئة، والمراد بالكأس هنا كأس الخمر‏.‏ وربما يكون للخمر وغيره، لأن الجنة فيها ‏{‏أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ‏{‏لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 35‏]‏ لا يسمعون في الجنة لغوًا أي كلامًا باطلًا لا خير فيه‏.‏ ‏{‏وَلا كِذَّابًا‏}‏ أي ولا كذبًا فلا يكذبون، ولا يكذب بعضهم بعضًا، لأنهم على سرر متقابلين قد نزع الله ما في صدورهم من غل وجعلهم إخوانًا‏.‏ ‏{‏جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 36‏]‏‏.‏ أي أنهم يجزون بهذا جزاء من الله سبحانه وتعالى على أعمالهم الحسنة التي عملوها في الدنيا واتقوا بها محارم الله‏.‏ ‏{‏حِسَابًا‏}‏ أي كافيًا، مأخوذة من الحسب وهو الكفاية أي أن هذا الكأس كأس كافٍ لا يحتاجون معه إلى غيره لكمال لذته وتمام منفعته‏.‏

‏{‏رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا‏}‏‏.‏

‏{‏رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ‏}‏ فالله سبحانه وتعالى هو رب كل شيء، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 91‏]‏‏.‏ فهو رب السماوات السبع الطباق، ورب الأرض وهي سبع كما ثبت ذلك في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏.‏ ‏{‏وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ أي ما بين السماوات والأرض من المخلوقات العظيمة كالغيوم والسحب والأفلاك وغيرها مما نعلمه، ومما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 37‏]‏‏.‏ يعني أن الناس لا يملكون الخطاب من الله، ولا يستطيع أحد أن يتكلم إلا بإذن الله، وذلك ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وهو جبريل ‏{‏وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 38‏]‏‏.‏ أي صفوفًا‏.‏ صفًّا بعد صف، لأنه كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏تنزل ملائكة السماء الدنيا فتحيط بالخلق، ثم ملائكة السماء الثانية من وراءهم، ثم الثالثة والرابعة والخامسة‏)‏‏.‏ وهكذا‏.‏‏.‏ صفوفًا لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم سبحانه وتعالى‏.‏ ‏{‏لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا‏}‏‏.‏ أي لا يتكلمون ملائكة ولا غيرهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 108‏]‏‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 38‏]‏‏.‏ بالكلام فإنه يتكلم كما أُذن له‏.‏ ‏{‏وَقَالَ صَوَابًا‏}‏ أي قال قولًا صوابًا موافقًا لمرضات الله سبحانه وتعالى وذلك بالشفاعة إذا أذن الله لأحد أن يشفع شفع فيما أذن له فيه على حسب ما أُذن له‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 39‏]‏‏.‏ أي ذلك الذي أخبرناكم عنه هو اليوم الحق، والحق ضد الباطل أي الثابت الذي يقوم فيه الحق، ويقوم فيه العدل يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم‏.‏ ‏{‏فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 39‏]‏‏.‏ أي من شاء عمل عملًا يؤوب به إلى الله ويرجع به إلى الله، وذلك العمل الصالح الموافق لمرضاة الله تعالى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا‏}‏ قيدتها آية أخرى وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28، 29‏]‏‏.‏ يعني أننا لنا الخيار فيما نذهب إليه لا أحد يكرهنا على شيء؛ لكن مع ذلك خيارنا وإرادتنا ومشيئتنا راجعة إلى الله ‏{‏وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28، 29‏]‏‏.‏ وإنما بين الله ذلك في كتابه من أجل أن لا يعتمد الإنسان على نفسه وعلى مشيئته بل يعلم أنها مرتبطة بمشيئة الله، حتى يلجأ إلى الله في سؤال الهداية لما يحب ويرضى‏.‏ لا يقول الإنسان أنا حر أريد ما شئت وأتصرف كما شئت، نقول الأمر كذلك لكنك مربوط بإرادة الله عز وجل‏.‏ ‏{‏إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 40‏]‏‏.‏ أي خوفناكم من عذاب قريب وهو يوم القيامة‏.‏ ويوم القيامة قريب، ولو بقيت الدنيا ملايين السنين فإنه قريب ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 46‏]‏‏.‏ فهذا العذاب الذي أنذرنا الله قريب، ليس بين الإنسان وبينه إلا أن يموت، والإنسان لا يدري متى يموت قد يصبح ولا يمسي، أو يمسي ولا يصبح، ولهذا كان علينا أن نحزم في أعمالنا، وأن نستغل الفرصة قبل فوات الأوان‏.‏ ‏{‏يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 40‏]‏‏.‏ المرء‏:‏ أي كل امرئ ينظر ما قدمت يداه ويكون بين يديه ويعطى كتابه، ويقال‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 14‏]‏‏.‏ ويقول الكافر من شدة ما يرى من الهول وما يشاهده من العذاب‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 40‏]‏‏.‏ أي ليتني لم أخلق، أو ليتني لم أبعث، أو إذا رأى البهائم التي يقضي الله بينها ثم يقول كوني ترابًا فتكون ترابًا يتمنى أن يكون مثل البهائم فقوله‏:‏ ‏{‏كُنتُ تُرَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 40‏]‏‏.‏ تحتمل ثلاثة معانٍ‏:‏ المعنى الأول‏:‏ يا ليتني كنت ترابًا فلم أُخلق، لأن الإنسان خُلق من تراب‏.‏ المعنى الثاني‏:‏ يا ليتني كنت ترابًا فلم أُبعث، يعني كنت ترابًا في أجواف القبور‏.‏

المعنى الثالث‏:‏ أنه إذا رأى البهائم التي قضى الله بينها وقال لها كوني ترابًا فكانت ترابًا قال‏:‏ ليتني كنت ترابًا أي كما كانت هذه البهائم - والله أعلم - وإلى هنا تنتهي سورة النبأ، وفيها من المواعظ والحكم وآيات الله عز وجل ما يكون موجبًا للإيقان والإيمان، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بكتابه، وأن يجعله موعظة لقلوبنا، وشفاء لما في صدورنا، إنه جواد كريم‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:15 PM   المشاركة رقم: 6
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة النازعات


‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 1‏:‏ 14‏]‏‏.‏ البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا‏}‏ يعني الملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار تنزعها ‏{‏غَرْقًا‏}‏ أي نزعًا بشدة‏.‏ ‏{‏وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا‏}‏ يعني الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين، تنشطها نشطًا‏:‏ أي تسلها برفق كالأنشوطة، والأنشوطة‏:‏ الربط الذي يسمونه عندنا ‏(‏التكة‏)‏ أو ما أشبه ذلك من الكلمات، يعني يكون ربطًا بحيث إذا سللت أحد الطرفين انفكت العقدة هذا ينحل بسرعة وبسهولة، فهؤلاء الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين تنشطها نشطًا أي‏:‏ تسلها برفق، وسبب ذلك أن الملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار إذا دعت الروح إلى الخروج تناديها بأقبح الأوصاف تقول الملائكة لروح الكافر‏:‏ اخرجي أيتها النفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث، اخرجي إلى غضب الله، فتنفر الروح لا تريد أن تخرج إلى هذا، وتتفرق في الجسد حتى يقبضوها بشدة، وينزعوها نزعًا يكاد يتمزق الجسد منها من شدة النزع‏.‏ أما أرواح المؤمنين - جعلني الله وإياكم منهم - فإن الملائكة إذا نزلت لقبضها تبشرها‏:‏ أخرجي يا أيتها النفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب أخرجي إلى رضوان الله، وما أشبه هذا من الكلام الذي يهون عليها أن تفارق جسدها الذي ألفته فتخرج بسهولة، ولهذا لما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه‏)‏‏.‏ قالت عائشة‏:‏ يا رسول الله‏:‏ إنَّا لنكره الموت، فقال‏:‏ ‏(‏ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه‏)‏، لأنه في تلك اللحظة يرى أنه سينتقل إلى دار أحسن من الدار التي فارقها فيفرح كما يفرح أحدنا إذا قيل له أخرج من بيت الطين إلى بيت المسلح القصر المشيد الطيب، فيفرح فيحب لقاء الله، والكافر - والعياذ بالله - بالعكس إذا بشر بالغضب والعذاب فإنه يكره أن يموت، يكره لقاء الله فيكره الله لقاءه‏.‏ ‏{‏وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 3‏]‏‏.‏ هي الملائكة تسبح بأمر الله، أي تسرع فيه كما يسرع السابح في الماء، وكما قال تعالى عن الشمس والقمر والليل والنهار ‏{‏كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 33‏]‏‏.‏ فالمعنى أنها تسبح بأمر الله عز وجل على حسب ما أراد الله سبحانه وتعالى، وهم أي الملائكة أقوى من الجن، والجن أقوى من البشر، انظر إلى قوله تعالى عن سليمان‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 38 - 40‏]‏‏.‏ يعني إذا مددت طرفك ثم رجعته فقبل أن يرجع إليك آتيك به ‏{‏فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 40‏]‏‏.‏ في الحال رآه ‏{‏قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 40‏]‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ إنه حملته الملائكة حتى جاءت به إلى سليمان من اليمن، وسليمان بالشام بلحظة فدل هذا على أن قوة الملائكة أكبر بكثير من قوة الجن، وقوة الجن أكبر من بني آدم؛ لأنه لا يستطيع أحد من بني آدم أن يأتي بعرش ملكة سبأ من اليمن إلى الشام قبل مدة طويلة، فالحاصل أن الملائكة تسبح بأمر الله عز وجل بما يأمرها به‏.‏ ‏{‏فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 4‏]‏‏.‏ أيضًا هي الملائكة تسبق إلى أمر الله عز وجل، ولهذا كانت الملائكة أسبق إلى أمر الله وأقوم بأمر الله من بني آدم، قال الله تعالى في وصف ملائكة النار‏:‏ ‏{‏عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏‏.‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وقال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 19، 20‏]‏‏.‏ فهم سباقون إلى أمر الله عز وجل بما يأمرهم لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لقوتهم وقدرتهم على فعل أوامر الله عز وجل‏.‏ ‏{‏فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا‏}‏ أيضًا وصف للملائكة تدبر الأمر، وهو واحد الأمور يعني أمور الله عز وجل لها ملائكة تدبرها، فجبرائيل موكل بالوحي يتلقاه من الله وينزل به على الرسل، وإسرافيل موكل بنفخ الصور الذي يكون عند يوم القيامة ينفخ في الصور فيفزع الناس ويموتون، ثم ينفخ فيه أخرى فيبعثون، وهو أيضًا من حملة العرش، وميكائيل موكل بالقطر وبالمطر والنبات، وملك الموت موكل بالأرواح، ومالك موكل بالنار، ورضوان موكل بالجنة، وعن اليمين وعن الشمال قعيد موكل بالأعمال، كلٌّ يدبر ما أمره الله عز وجل به‏.‏ فهذه الأوصاف كلها أوصاف للملائكة على حسب أعمالهم، وأقسم الله سبحانه وتعالى بالملائكة لأنهم من خير المخلوقات، ولا يقسم الله سبحانه وتعالى بشيء إلا وله شأن عظيم إما في ذاته، وإما لكونه من آيات الله عز وجل‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ‏}‏ هذه ‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ‏}‏ متعلقة بمحذوف والتقدير أذكر يا محمد وذكّر الناس بهذا اليوم العظيم‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ‏}‏، وهما النفختان في الصور، النفخة الأولى ترجف الناس ويفزعون ثم يموتون عن آخرهم إلا من شاءالله، والنفخة الثانية يبعثون من قبورهم فيقوم الناس من قبورهم مرة واحدة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏ إذا رجفت الراجفة وتبعتها الرادفة انقسم الناس إلى قسمين‏:‏ ‏{‏قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 8‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وهذه قلوب الكفار ‏{‏وَاجِفَةٌ‏}‏ أي‏:‏ خائفة خوفًا شديدًا‏.‏ ‏{‏أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ‏}‏ يعني ذليلة لا تكاد تحدق أو تنظر بقوة ولكنه قد غضت أبصارهم - والعياذ بالله - لذلهم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 45‏]‏‏.‏ ‏{‏فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 13‏:‏ 14‏]‏‏.‏ زجرة من الله عز وجل يزجرون ويصاح بهم فيقومون من قبورهم قيام رجل واحد على ظهر الأرض بعد أن كانوا في بطنها قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 53‏]‏‏.‏ كل الخلق في هذه الكلمة الواحدة يخرجون من قبورهم أحياء، ثم يحضرون إلى الله عز وجل ليجازيهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 12‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 50‏]‏‏.‏ يعني أنَّ الله إذا أراد شيئًا إنما يقول له‏:‏ ‏(‏كن‏)‏ مرة واحدة فقط فيكون ولا يتأخر هذا عن قول الله لحظة ‏{‏إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 50‏]‏‏.‏ والله عز وجل لا يعجزه شيء، فإذا كان الخلق كلهم يقومون من قبورهم لله عز وجل بكلمة واحدة فهذا أدل دليل على أن الله تعالى على كل شيء قدير، وأن الله لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 44‏]‏‏.‏ ‏{‏فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 13‏:‏ 14‏]‏‏.‏


‏{‏هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏15‏:‏ 26‏]‏‏.‏

ثم قال تعالى مبينًا ما جرى للأمم قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى‏}‏ والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏هَلْ أتَاكَ‏}‏ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يتأتى خطابه ويصح توجيه الخطاب إليه، ويكون على المعنى الأول ‏(‏هل أتاك يا محمد‏)‏، وعلى المعنى الثاني‏:‏ ‏(‏هل أتاك أيها الإنسان‏)‏ ‏{‏حَدِيثُ مُوسَى‏}‏ وهو ابن عمران - صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل أنبياء بني إسرائيل، وهو أحد أولي العزم الخمسة الذين هم‏:‏ محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح عليهم الصلاة والسلام، وقد ذكر هؤلاء الخمسة في القرآن في موضعين، أحدهما في الأحزاب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏‏.‏

والثاني في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وحديث موسى - صلى الله عليه وآله وسلم - ذكر في القرآن أكثر من غيره؛ لأن موسى هو نبي اليهود وهم كثيرون في المدينة وحولها في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت قصص موسى أكثر ما قص علينا من نبأ الأنبياء وأشملها وأوسعها وفي قوله‏:‏ ‏{‏هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 15‏]‏‏.‏ تشويق للسامع ليستمع إلى ما جرى في هذه القصة‏.‏ ‏{‏إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 16‏]‏‏.‏ ناداه الله عز وجل نداءً سمعه بصوت الله عز وجل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 16‏]‏‏.‏ هو الطور، والوادي هو مجرى الماء، وسماه الله مقدسًا لأنه كان فيه الوحي إلى موسى - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏طُوًى‏}‏ اسم للوادي‏.‏ ‏{‏اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 17‏]‏‏.‏ فرعون كان ملك مصر، وكان يقول لقومه إنه ربهم الأعلى، وأنه لا إله غيره ‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏‏.‏ فادعى ما ليس له، وأنكر حق غيره وهو الله عز وجل، وأمر الله نبيه موسى - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يذهب إلى فرعون وهذه هي الرسالة، وبين سبب ذلك وهو طغيان هذا الرجل - أعني فرعون - وفي سورة طه قال‏:‏ ‏{‏اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 43‏]‏‏.‏ ولا منافاة بين الآيتين وذلك أن الله تعالى أرسل موسى أولًا ثم طلب موسى صلى الله عليه وآله وسلم من ربه أن يشد أزره بأخيه هارون فأرسل هارون - صلى الله عليه وآله وسلم - مع موسى فصار موسى وهارون كلاهما مرسل إلى فرعون‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ طَغَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 17‏]‏‏.‏ أي‏:‏ زاد على حده؛ لأن الطغيان هو الزيادة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 11‏]‏‏.‏ ومنه الطاغوت‏:‏ لأن فيه مجاوزة الحد‏.‏ ‏{‏فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 18‏]‏‏.‏ الاستفهام هنا للتشويق، تشويق فرعون أن يتزكى مما هو عليه من الشر والفساد، وأصل الزكاة النمو والزيادة، وتطلق بمعنى الإسلام والتوحيد، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9 - 10‏]‏‏.‏ ‏{‏وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ‏}‏ أي أدلك إلى ربك أي إلى دين الله عز وجل الموصل إلى الله‏.‏ ‏{‏فَتَخْشَى‏}‏ أي فتخاف الله عز وجل على علم منك؛ لأن الخشية هي الخوف المقرون بالعلم، فإن لم يكن علم فهو خوف مجرد، وهذا هو الفرق بين الخشية والخوف‏.‏ الفرق بينهما أن الخشية عن علم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وأما الخوف فهو خوف مجرد ذعر يحصل للإنسان ولو بلا علم، ولهذا قد يخاف الإنسان من شيء يتوهمه، قد يرى في الليلة الظلماء شبحًا لا حقيقة له فيخاف منه، فهذا ذعر مبني على وهم، لكن الخشية تكون عن علم‏.‏ أي فذهب موسى - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال لفرعون ما أمره الله به ‏{‏هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 19‏]‏‏.‏ ولما كان البشر لا يؤمنون ولا يقبلون دعوى شخص أنه رسول إلا بآية كما هو ظاهر أن الإنسان لا يقبل من أحد دعوى إلا ببينة جعل الله سبحانه وتعالى مع كل رسول آية تدل على صدقه، وهنا قال‏:‏ ‏{‏فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 20‏]‏‏.‏ يعني أرى موسى فرعون الآية الكبرى، فما هي هذه الآية‏؟‏ الآية أن معه عصًا من خشب من فروع الشجر كما هو معروف، فكان إذا وضعها في الأرض صارت حية تسعى ثم يحملها فتعود عصا، وهذا من آيات الله أن شيئًا جمادًا إذا وضع على الأرض صار حية تسعى، وإذا حمل من الأرض عاد في الحال فورًا إلى حاله الأولى عصا من جملة العصي، وإنما بعثه - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذه الآية، وبكونه يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء أي من غير عيب، أي‏:‏ بيضاء بياضًا ليس بياض البرص ولكنه بياض جعله الله آية، إنما بعثه الله بالعصا واليد؛ لأنه كان في زمن موسى السحر منتشرًا شائعًا فأرسله الله عز وجل بشيء يغلب السحرة الذين تصدوا لموسى - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏.‏ قال أهل العلم‏:‏ وفي عهد عيسى صلى الله عليه وآله وسلم انتشر الطب انتشارًا عظيمًا، فجاء عيسى بأمر يعجز الأطباء، وهو أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، إذا جيء إليه بشخص فيه عاهة أي عاهة تكون مسحه بيده ثم برئ بإذن الله ‏{‏وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 49‏]‏‏.‏ مع أن البرص لا دواء له لكن هو يبرئ الأبرص بإذن الله عز وجل، ويبرئ الأكمه الذي خلق بلا عيون، وأشد من هذا وأعظم أنه يحيي الموتى بإذن الله، يؤتى إليه بالميت فيتكلم معه ثم تعود إليه الحياة، وأشد من ذلك وأبلغ أنه يخرج الموتى بإذن الله من قبورهم، يقف على القبر وينادي صاحب القبر فيخرج من القبر حيًّا، هذا شيء لا يمكن لأي طب أن يبلغه، ولهذا كانت آية عيسى في هذا الوقت مناسبة تمامًا لما كان عليه الناس‏.‏ قال أهل العلم‏:‏ أما رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد أتى إلى العرب وهم يتفاخرون في الفصاحة، ويرون أن الفصاحة أعظم منقبة للإنسان فجاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بهذا القرآن العظيم الذي أعجز أمراء الفصاحة، وعجزوا عن أن يأتوا بمثله، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏‏.‏ يعني لو كان بعضهم يعاون بعضًا فإنهم لن يأتوا بمثله‏.‏ حينئذ نقول إن موسى - صلى الله عليه وآله وسلم - أرى فرعون الآية الكبرى ولكن لم ينتفع بالآيات ‏{‏وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 101‏]‏‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فالذين ليس في قلوبهم استعداد للهداية لا يهتدون ولو جاءتهم كل آية - والعياذ بالله - ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبَ وَعَصَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 21‏]‏‏.‏ كذب الخبر، وعصى الأمر، يعني قال لموسى إنك لست رسولًا بل قال ‏{‏إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وعصى الأمر فلم يمتثل أمر موسى ولم ينقد لشرعه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 22‏]‏‏.‏ أي تولى مدبرًا يسعى حثيثًا‏.‏ ‏{‏فَحَشَرَ فَنَادَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 22‏]‏‏.‏ حشر الناس أي جمعهم ونادى فيهم بصوت مرتفع ليكون ذلك أبلغ في نهيهم عما يريد منهم موسى - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏.‏ ‏{‏فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏‏.‏ يعني لا أحد فوقي لأن ‏{‏الأَعْلَى‏}‏ اسم تفضيل من العلو، فانظر كيف استكبر هذا الرجل وادعى لنفسه ما ليس له في قوله‏:‏ ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وكان يفتخر بالأنهار والُملك الواسع يقول لقومه في ما قال لهم ‏{‏يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 51، 52‏]‏‏.‏ فما الذي حصل‏؟‏ أغرقه الله عز وجل بالماء الذي كان يفتخر به، وأورث الله ملك مصر بني إسرائيل الذين كان يستضعفهم‏.‏ ‏{‏فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 25‏]‏‏.‏ أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، ‏{‏نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 25‏]‏‏.‏ يعني أنه نكّل به في الآخرة وفي الأولى، فكان عبرة في زمنه، وعبرة فيما بعد زمنه إلى يوم القيامة، كل من قرأ كتاب الله وما صنع الله بفرعون فإنه يتخذ ذلك عبرة يعتبر به، وكيف أهلكه الله مع هذا الملك العظيم وهذا الجبروت وهذا الطغيان فصار أهون على الله تعالى من كل هين‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 26‏]‏‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ‏}‏ أي فيما جرى من إرسال موسى إلى فرعون ومحاورته إياه واستهتار فرعون به واستكباره عن الانقياد له عبرة، ‏{‏لِّمَن يَخْشَى‏}‏ أي يخشى الله عز وجل، فمن كان عنده خشية من الله وتدبر ما حصل لموسى مع فرعون والنتيجة التي كانت لهذا ولهذا فإنه يعتبر ويأخذ من ذلك عبرة، والعبر في قصة موسى كثيرة ولو أن أحدًا انتدب لجمع القصة من الآيات في كل سورة ثم يستنتج ما حصل في هذه القصة من العبر لكان جيدًا، يعني يأتي بالقصة كلها في كل الآيات، لأن السور في بعضها شيء ليس في البعض الاخر، فإذا جمعها وقال مثلًا يؤخذ من هذه القصة العظيمة العبر التالية ثم يسردها، كيف أرسله الله عز وجل إلى فرعون‏؟‏ كيف قال لهما ‏{‏فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏‏.‏ مع أنه مستكبر خبيث‏؟‏ وكيف كانت النتيجة‏؟‏ وكيف كان موسى - صلى الله عليه وآله وسلم - خرج من مصر خائفًا على نفسه يترقب كما خرج الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - من مكة يترقب، وصارت العاقبة للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ولموسى - صلى الله عليه وآله وسلم - لكن العاقبة للرسول - صلى الله عليه وسلّم - بفعله وأصحابه، عذب الله أعداءهم بأيديهم، وعاقبة موسى بفعل الله عز وجل، فهي عبر يعتبر بها الإنسان يصلح بها نفسه وقلبه حتى يتبين الأمر‏.‏‏{‏أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 27‏]‏‏.‏ هذا الاستفهام لتقرير إمكان البعث؛ لأن المشركين كذبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبعث وقالوا‏:‏ ‏{‏مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 78‏]‏‏.‏ فيقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 27‏]‏‏.‏ الجواب معلوم لكل أحد أنه السماء كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 57‏]‏‏.‏ ‏{‏بَنَاهَا‏}‏ هذه الجملة لا تتعلق بالتي قبلها، ولهذا ينبغي للقارىء إذا قرأ أن يقف على قوله ‏{‏أَمِ السَّمَاء‏}‏ ثم يستأنف فيقول‏:‏ ‏{‏بَنَاهَا‏}‏ فالجملة استئنافية لبيان عظمة السماء، ‏{‏بَنَاهَا‏}‏ أي بناها الله عز وجل وقد بين الله سبحانه وتعالى في آية أخرى في سورة الذاريات أنه بناها بقوة فقال‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏‏.‏ أي بقوة ‏{‏وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏‏.‏ ‏{‏رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 28‏]‏‏.‏ رفعه يعني عن الأرض ورفعه عز وجل بغير عمد كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 2‏]‏‏.‏ ‏{‏فَسَوَّاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 28‏]‏‏.‏أي جعلها مستوية، وجعلها تامة كاملة كما قال تعالى في خلق الإنسان‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏ فسواك‏:‏ أي جعلك سويًّا تام الخلقة، فالسماء كذلك سواها الله عز وجل‏.‏ ‏{‏وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا‏}‏ أغطشه أي أظلمه، فالليل مظلم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 12‏]‏‏.‏ ‏{‏وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 29‏]‏ بينه بالشمس التي تخرج كل يوم من مطلعها وتغيب من مغربها‏.‏ ‏{‏وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 30‏]‏‏.‏ أي بعد خلق السماوات والأرض ‏{‏دَحَاهَا‏}‏ بين سبحانه هذا الدحو بقوله‏:‏ ‏{‏أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 31‏]‏ وكانت الأرض مخلوقة قبل السماء كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9 - 12‏]‏‏.‏ فالأرض مخلوقة من قبل السماء لكن دحوها وإخراج الماء منها والمرعى كان بعد خلق السماوات‏.‏ ‏{‏وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعاتا‏:‏ 32‏]‏‏.‏ أي جعلها راسية في الأرض تمسك الأرض لئلا تضطرب بالخلق‏.‏ ‏{‏مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ‏}‏ أي جعل الله تعالى ذلك متاعًا لنا نتمتع به فيما نأكل ونشرب، ولأنعامنا أي مواشينا من الإبل والبقر والغنم وغيرها‏.‏ ولما ذكَّر الله عز وجل عباده بهذه النعم الدالة على كمال قدرته ذكرهم بمآلهم الحتمي الذي لابد منه، فقال عز وجل‏:‏

‏{‏فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 34‏:‏ 46‏]‏‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:18 PM   المشاركة رقم: 7
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة عبس



‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ‏}‏‏.‏ البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى‏}‏ هذا العابس والمتولي هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏.‏ ومعنى ‏{‏عَبَسَ‏}‏ أي كلح في وجهه يعني استنكر الشيء بوجهه‏.‏ ومعنى ‏{‏تَوَلَّى‏}‏ أعرض‏.‏ ‏{‏أَن جَاءهُ الأَعْمَى‏}‏ الأعمى هو عبد الله بن عمرو ابن أم مكتوم نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة، فإنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة وهو في مكة، وكان عنده قوم من عظماء قريش يطمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إسلامهم، - ومن المعلوم أن العظماء والأشراف إذا أسلموا كان ذلك سببًا لإسلام من تحتهم وكان طمع النبي - صلى الله عليه وسلّم - فيهم شديدًا - فجاء هذا الأعمى يسأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وذكروا أنه كان يقول‏:‏ علمني مما علمك الله ويستقرىء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يعرض عنه وعبس في وجهه رجاءً وطمعًا في إسلام هؤلاء العظماء وكأنه خاف أن هؤلاء العظماء يزدرون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم إذا وجه وجهه لهذا الرجل الأعمى وأعرض عن هؤلاء العظماء، فكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في عبوسه وتوليه يلاحظ هذين الأمرين‏.‏ الأمر الأول‏:‏ الرجاء في إسلام هؤلاء العظماء‏.‏ والأمر الثاني‏:‏ ألا يزدروا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كونه يلتفت إلى هذا الرجل الأعمى الذي هو محتقر عندهم، ولا شك أن هذا اجتهاد من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليس احتقارًا لابن أم مكتوم؛ لأننا نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - لا يهمه إلا أن تنتشر دعوته الحق بين عباد الله، وأن الناس عنده سواء بل من كان أشد إقبالًا على الإسلام فهو أحب إليه‏.‏ ‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ‏}‏ أي‏:‏ أي شيء يريبك أن يتزكى هذا الرجل ويقوي إيمانه‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُ‏}‏ أي لعل ابن أم مكتوم ‏{‏يَزَّكَّى‏}‏ أي يتطهر من الذنوب والأخلاق التي لا تليق بأمثاله، فإذا كان هذا هو المرجو منه فإنه أحق أن يلتفت إليه‏.‏ ‏{‏أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى‏}‏ يعني وما يدريك لعله يذكر أي يتعظ فتنفعه الموعظة فإنه نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة أرجى من هؤلاء أن يتعظ ويتذكر‏.‏ ‏{‏أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى‏}‏ يعني استغنى بماله لكثرته، واستغنى بجاهه لقوته فهذا ‏{‏فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى‏}‏ أي تتعرض وتطلب إقباله عليك وتقبل عليه‏.‏ ‏{‏وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى‏}‏ يعني ليس عليك شيء إذا لم يتزكى هذا المستغني؛ لأنه ليس عليك إلا البلاغ، فبيّن الله سبحانه وتعالى أن ابن أم مكتوم نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة أقرب إلى التزكي من هؤلاء العظماء، وأن هؤلاء إذا لم يتزكوا مع إقبال الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - عليهم فإنه ليس عليه منهم شيء‏.‏ ‏{‏وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى‏}‏ يعني ليس عليك شيء إذا لم يتزكى لأن إثمه عليه وليس عليك إلا البلاغ‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى‏}‏ هذا مقابل قوله‏:‏ ‏{‏أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى‏}‏‏.‏ ‏{‏وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى‏}‏ أي يستعجل من أجل انتهاز الفرصة إلى حضور مجلس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ‏{‏وَهُوَ يَخْشَى‏}‏ أي يخاف الله عز وجل بقلبه‏.‏ ‏{‏فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى‏}‏ أي تتلهى عنه وتتغافل لأنه انشغل برؤساء القوم لعلهم يهتدون‏.‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ يعني لا تفعل مثل هذا ولهذا نقول‏:‏ إن ‏{‏كَلاَّ‏}‏ هنا حرف ردع وزجر أي لا تفعل مثل ما فعلت‏.‏ ‏{‏إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ‏}‏ ‏{‏إِنَّهَا‏}‏ أي الآيات القرآنية التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏.‏ ‏{‏تَذْكِرَةٌ‏}‏ تذكر الإنسان بما ينفعه وتحثه عليه، وتذكر له ما يضره وتحذره منه ويتعظ بها القلب‏.‏ ‏{‏فَمَن شَاء ذَكَرَهُ‏}‏ أي فمن شاء ذكر ما نزل من الموعظة فاتعظ، ومن شاء لم يتعظ لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏.‏ فالله جعل للإنسان الخيار قدرًا بين أن يؤمن ويكفر، أما شرعًا فإنه لا يرضى لعباده الكفر، وليس الإنسان مخير شرعًا بين الكفر والإيمان بل هو مأمور بالإيمان ومفروض عليه الإيمان، لكن من حيث القدر هو مخير وليس كما يزعم بعض الناس مسير مجبر على عمله، بل هذا قول مبتدع ابتدعه الجبرية من الجهمية وغيرهم‏.‏ ‏{‏فَمَن شَاء ذَكَرَهُ‏}‏ أي ذكر ما نزل من الوحي فاتعظ به، ومن شاء لم يذكره، والموفق من وفقه الله عز وجل‏.‏ ‏{‏فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ‏}‏ أي أن هذا الذكر الذي تضمنته هذه الآيات ‏{‏فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ‏}‏ معظمة عند الله، والصحف جمع صحائف، والصحائف جمع صحيفة وهي ما يكتب فيه القول‏.‏ ‏{‏بِأَيْدِي سَفَرَةٍ‏}‏ السفرة الملائكة، وسموا سفرة لأنهم كتبة مأخوذة من السَّفَر أو من السَّفْرِ وهو الكتاب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ السفرة الوسطاء بين الله وبين خلقه، من السفير وهو الواسطة بين الناس، ومنه حديث أبي رافع نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة قبل أن يحرم قال‏:‏ ‏"‏وكنت السفير بينهما‏"‏ أي الواسطة‏.‏ المهم أن السفرة هم الملائكة وسموا سفرة لأنهم كتبة يكتبون، وسموا سفرة لأنهم سفراء بين الله وبين الخلق، فجبريل - صلى الله عليه وآله وسلم - واسطة بين الله وبين الخلق في النزول بالوحي، والكتبة الذين يكتبون ما يعمل الإنسان أيضًا يكتبونه ويبلغونه إلى الله عز وجل، والله تعالى عالم به حين كتابته وقبل كتابته‏.‏ ‏{‏كِرَامٍ بَرَرَةٍ‏}‏ كرام في أخلاقهم‏.‏‏.‏ كرام في خلقتهم لأنهم على أحسن خلقة، وعلى أحسن خُلق، ولهذا وصف الله الملائكة بأنهم كرام كاتبين يعلمون ما تفعلون، وأنهم عليهم الصلاة والسلام لا يستكبرون عن عبادة الله ولا يستحسرون‏.‏ يسبحون الليل والنهار لا يفترون‏.‏ وهذه الآيات فيها تأديب من الله عز وجل للخلق ألا يكون همهم هًّما شخصيًّا بل يكون همهم هًّما معنويًّا وألا يفضلوا في الدعوة إلى الله شريفًا لشرفه، ولا عظيمًا لعظمته، ولا قريبًا لقربه، بل يكون الناس عندهم سواء في الدعوة إلى الله الفقير والغني، الكبير والصغير، القريب والبعيد، وفيها أيضًا تلطف الله عز وجل بمخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال في أولها‏:‏ ‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الأَعْمَى‏}‏ ثلاث جمل لم يخاطب الله فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنها عتاب فلو وجهت إلى الرسول بالخطاب لكان فيه ما فيه لكن جاءت بالغيبة ‏{‏عَبَسَ‏}‏ فجعل الحكم للغائب كراهية أن يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الكلمات الغليظة الشديدة، ولأجل ألا يقع بمثل ذلك من يقع من هذه الأمة، والله سبحانه وتعالى وصف كتابه العزيز بأنه بلسان عربي مبين، وهذا من بيانه، وفي الآيات أيضًا دليل على جواز لقب الإنسان بوصفه مثل الأعمى والأعرج والأعمش، وقد كان العلماء يفعلون هذا، الأعرج عن أبي هريرة، الأعمش عن ابن مسعود‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا، قال أهل العلم واللقب بالعيب إذا كان المقصود به تعيين الشخص فلا بأس به، وأما إذا كان المقصود به تعيير الشخص فإنه حرام؛ لأن الأول - إذا كان المقصود به تبيين الشخص - تدعو الحاجة إليه، والثانية - إذا كان المقصود به التعيير - فإنه لا يقصد به التبيين وإنما يقصد به الشماتة وقد جاء في الأثر ‏"‏لا تظهر الشماتة في أخيك فيرحمه الله ويبتليك‏"‏‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:19 PM   المشاركة رقم: 8
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

‏{‏قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏قُتِلَ الإِنسَانُ‏}‏ ‏{‏قُتِلَ‏}‏ تأتي في القرآن كثيرًا فمن العلماء من يقول‏:‏ إن معناها لعن، والذي يظهر أن معناها أُهلك؛ لأن القتل يكون به الهلاك وهو أسلوب تستعمله العرب في تقبيح ما كان عليه صاحبه فيقولون مثلًا‏:‏ قتل فلان ما أسوأ خلقه، قتل فلان ما أخبثه وما أشبه ذلك‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُتِلَ الإِنسَانُ‏}‏ قال بعض العلماء‏:‏ المراد بالإنسان هنا الكافر خاصة، وليس كل إنسان لقوله فيما بعد ‏{‏مَا أَكْفَرَهُ‏}‏ ويحتمل أن يكون المراد بالإنسان الجنس، لأن أكثر بني آدم كفار كما ثبت في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏أن الله يقول يقوم القيامة‏:‏ ‏"‏يا آدم، فيقول‏:‏ لبيك وسعديك، فيقول له الله عز وجل‏:‏ أخرج من ذريتك بعثًا إلى النار‏.‏ فيقول‏:‏ يا رب، وما بعث النار‏؟‏ قال‏:‏ من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين‏"‏‏)‏، فيكون المراد بالإنسان هنا الجنس ويخرج المؤمن من ذلك بما دلت عليه النصوص الأخرى‏.‏ ‏{‏مَا أَكْفَرَهُ‏}‏ قال بعض العلماء إن ‏{‏مَا‏}‏ هنا استفهامية أي‏:‏ أي شيء أكفره‏؟‏ ما الذي حمله على الكفر‏؟‏ وقال بعض العلماء‏:‏ إن هذا من باب التعجب يعني ما أعظم كفره‏!‏ وإنما كان كفر الإنسان عظيمًا لأن الله أعطاه عقلًا، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب وأمده بكل ما يحتاج إلى التصديق، ومع ذلك كفر فيكون كفره عظيمًا‏.‏ والفرق بين القولين أنه على القول الأول تكون ‏{‏مَا‏}‏ استفهامية أي‏:‏ ما الذي أكفره‏؟‏ وعلى القول الثاني تكون تعجبية يعني عجبًا له كيف كفر مع أن كل شيء متوفر لديه في بيان الحق والهدى‏!‏‏!‏ والكفر هنا يشمل كل أنواع الكفر، ومنه إنكار البعث فإن كثيرًا من الكفار كذبوا بالبعث، وقالوا‏:‏ لا يمكن أن يُبعث الناس بعد أن كانت عظامهم رميمًا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 78‏]‏‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ‏}‏ استفهام تقرير لما يأتي بعده في قوله‏:‏ ‏{‏مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ‏}‏ يعني أنت أيها الإنسان كيف تكفر بالبعث‏؟‏ من أي شيء خلقت‏؟‏ ألم تخلق من العدم لم تكن شيئًا مذكورًا من قبل فوجدت وصرت إنسانًا فكيف تكفر بالبعث‏؟‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ‏}‏ والنطفة هي في الأصل الماء القليل، والمراد به هنا ماء الرجل الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب يلقيه في رحم المرأة فتحمل ‏{‏فَقَدَّرَهُ‏}‏ أي جعله مقدرًا أطوارًا‏:‏ نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة قال‏:‏ حدثنا رسول الله نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة وهو الصادق المصدوق فقال‏:‏ ‏(‏إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات‏:‏ بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها‏)‏‏.‏ فالإنسان مقدر في بطن أمه من الذي يقدره هذا التقدير‏؟‏ من الذي يوصل إليه ما ينمو به من الدم الذي يتصل به بواسطة السرة من دم أمه‏؟‏ إلا الله عز وجل، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ‏}‏ السبيل هنا بمعنى الطريق يعني يسر له الطريق ليخرج من بطن أمه إلى عالم المشاهدة، ويسر له أيضًا بعد ذلك ما ذكره تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 10‏]‏‏.‏ يسر له ثديي أمه يتغذى بهما، ويسر له بعد ذلك ما فتح له من خزائن الرزق، ويسر له فوق هذا كله وما هو أهم وهو طريق الهدى والفلاح وذلك بما أرسل إليه من الرسالات، وأنزل عليه من الكتب، ثم بعد هذا ‏{‏أَمَاتَهُ‏}‏ الموت مفارقة الروح للبدن‏.‏ ‏{‏فَأَقْبَرَهُ‏}‏ أي جعله في قبر، أي مدفونًا سترًا عليه وإكرامًا واحترامًا؛ لأن البشر لو كانوا إذا ماتوا كسائر الميتات جثثًا ترمى في الزبال لكان في ذلك إهانة عظيمة للميت ولأهل الميت، ولكن من نعمة الله سبحانه وتعالى أن شرع لعباده هذا الدفن، ولهذا قال ابن عباس نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَقْبَرَهُ‏}‏ قال‏:‏ أكرمه بدفنه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ‏}‏ أي إذا شاء الله عز وجل ‏{‏أَنشَرَهُ‏}‏ أي بعثه يوم النشور ليجازيه على عمله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ‏}‏ يعني أنه لا يعجزه عز وجل أن ينشره لكن لم يأتِ أمر الله بعد ولهذا قال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ‏}‏ ‏{‏لَمَّا‏}‏ هنا بمعنى ‏(‏لم‏)‏ لكنها تفارقها في بعض الأشياء، والمعنى أن الله تعالى لم يقضِ ما أمره، أي ما أمر به كونًا وقدرًا، أي أن الأمر لم يتم لنشر أو لانشار هذا الميت بل له موعد منتظر، وفي هذا رد على المكذبين بالبعث الذين يقولون لو كان البعث حقًّا لوجدنا آباءنا الان، وهذا القول منهم تحدي مكذوب؛ لأن الرسل لم تقل لهم إنكم تبعثون الان، ولكنهم قالوا لهم إنكم تبعثون جميعًا بعد أن تموتوا جميعًا‏.‏ ثم قال عز وجل مذكرًا للإنسان بما أنعم الله عليه ‏{‏فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ‏}‏‏.‏ أي فلينظر إلى طعامه من أين جاء‏؟‏ ومن جاء به‏؟‏ وهل أحدٌ خلقه‏؟‏ وينبغي للإنسان أن يتذكر عند هذه الآية قول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 65، 67‏]‏‏.‏ من الذي زرع هذا الزرع حتى استوى ويسر الحصول عليه حتى كان طعامًا لنا‏؟‏ هو الله عز وجل، ولهذا قال ‏{‏لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا‏}‏ أي بعد أن نخرجه نحطمه حتى لا تنتفعوا به‏.‏ ‏{‏أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا‏}‏ يعني من السحاب ‏{‏ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا‏}‏ بعد نزول المطر عليها تتشقق بالنبات‏.‏ ‏{‏فَأَنبَتْنَا فِيهَا‏}‏ أي في الأرض ‏{‏حَبًّا‏}‏ كالبر والرز والذرة والشعير وغير ذلك من الحبوب الكثيرة ‏{‏وَعِنَبًا‏}‏ معروف ‏{‏وَقَضْبًا‏}‏ قيل‏:‏ إنه القت المعروف ‏{‏وَزَيْتُونًا‏}‏ معروف ‏{‏وَنَخْلاً‏}‏ معروف ‏{‏وَحَدَائِقَ غُلْبًا‏}‏ حدائق جمع حديقة، والغلب كثير الأشجار ‏{‏وَفَاكِهَةً‏}‏ يعني ما يتفكه به الإنسان من أنواع الفواكه ‏{‏وَأَبًّا‏}‏ الأب نبات معروف عند العرب ترعاه الإبل ‏{‏مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ‏}‏ يعني أننا فعلنا ذلك متعة لكم، يقوم بها أودكم، وتتمتعون بها أيضًا بالتفكه بهذه النعم‏.‏ ثم لما ذكر الله عز وجل الإنسان بحاله منذ خلق من نطفة حتى بقي في الدنيا وعاش، ذكر حاله الاخرة في قوله‏:‏

‏{‏فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ‏}‏‏.‏

‏{‏فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ‏}‏ يعني الصيحة العظيمة التي تصخ الاذان، وهذا هو يوم القيامة ‏{‏يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ‏}‏ من أخيه شقيقه أو لأبيه أو لأمه ‏{‏وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ‏}‏ الأم والأب المباشر، والأجداد أيضًا، والجدات يفر من هؤلاء كلهم ‏{‏وَصَاحِبَتِهِ‏}‏ زوجته ‏{‏وَبَنِيهِ‏}‏ وهم أقرب الناس إليه وأحب الناس إليه‏.‏ ويفر من هؤلاء كلهم‏.‏ قال أهل العلم‏:‏ يفر منهم لئلا يطالبوه بما فرط به في حقهم من أدب وغيره، لأن كل واحد في ذلك اليوم لا يحب أبدًا أن يكون له أحد يطالبه بشيء ‏{‏لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ كل إنسان مشتغل بنفسه لا ينظر إلى غيره، ولهذا لما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏إنكم تحشرون يوم القيامة حفاة، عراة، غرلًا‏.‏ قالت عائشة - نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةا - ‏:‏ ‏"‏الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض‏"‏‏؟‏ قال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏"‏الأمر أعظم من أن ينظر بعضهم إلى بعض‏"‏‏)‏، ثم قسّم الله الناس في ذلك اليوم إلى قسمين فقال‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ‏}‏ مسفرة من الإسفار وهو الوضوح لأنها وجوه المؤمنين تُسفر عما في قلوبهم من السرور والانشراح ‏{‏ضَاحِكَةٌ‏}‏ يعني متبسمة، وهذا من كمال سرورهم ‏{‏مُّسْتَبْشِرَةٌ‏}‏ أي قد بشرت بالخير لأنها تتلقاهم الملائكة بالبشرى يقولون ‏{‏سَلامٌ عَلَيْكُمُ‏}‏ ‏{‏وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ‏}‏ يعني يوم القيامة ‏{‏عَلَيْهَا غَبَرَةٌ‏}‏ أي شيء كالغبار؛ لأنها ذميمة قبيحة ‏{‏تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ‏}‏ أي ظلمة ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ‏}‏ الذين جمعوا بين الكفر والفجور، نسأل الله العافية، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة إنه جواد كريم‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:21 PM   المشاركة رقم: 9
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة التكوير



‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ‏}‏‏.‏

البسملة‏:‏ تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ‏}‏ هذا يكون يوم القيامة، والتكوير‏:‏ جمع الشيء بعضه إلى بعض ولفّه كما تكوّر العمامة على الرأس، والشمس كتلة عظيمة كبيرة واسعة في يوم القيامة يكورها الله عز وجل فيلفها جميعًا ويطوي بعضها على بعض فيذهب نورها، ويلقيها في النار عز وجل إغاظة للذين يعبدونها من دون الله، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ أي تحصبون في جهنم ‏{‏أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏‏.‏ ويستثني من ذلك من عُبد من دون الله من أولياء الله فإنه لا يلقى في النار كما قال الله تعالى بعد هذه الآية ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101، 102‏]‏‏.‏ ‏{‏وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ‏}‏ انكدرت يعني تساقطت كما تفسره الآية الثانية‏.‏ ‏{‏وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 2‏]‏‏.‏ فالنجوم يوم القيامة تتناثر وتزول عن أماكنها ‏{‏وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ‏}‏ هذه الجبال العظيمة الصلبة العالية الرفيعة تكون هباءً يوم القيامة وتسيّر كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ‏{‏وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ‏}‏ العشار جمع عشراء، وهي الناقة الحامل التي تم لحملها عشرة أشهر وهي من أنفس الأموال عند العرب، وتجد صاحبها يرقبها ويلاحظها، ويعتني بها ويأوي إليها ويحف بها في الدنيا، لكن في الاخرة تعطل ولا يلتفت إليها؛ لأن الإنسان في شأن عظيم مزعج ينسيه كل شيء كما قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 34 - 37‏]‏‏.‏ ‏{‏وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ‏}‏ الوحوش جمع وحش، والمراد بها جميع الدواب، لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏‏.‏ تحشر الدواب يوم القيامة ويشاهدها الناس ويُقتص لبعضها من بعض، حتى إنه يقتص للبهيمة الجلحاء التي ليس لها قرن من البهيمة القرناء، فإذا اقتص من بعض هذه الوحوش لبعض أمرها الله تعالى فكانت ترابًا، وإنما يفعل ذلك سبحانه وتعالى لإظهار عدله بين خلقه ‏{‏وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ‏}‏ البحار جمع بحر وجمعت لعظمتها وكثرتها، فإنها تمثل ثلاثة أرباع الأرض تقريبًا أو أكثر‏.‏ هذه البحار العظيمة إذا كان يوم القيامة فإنها تُسجر، أي توقد نارًا، تشتعل نارًا عظيمة وحينئذ تيبس الأرض ولا يبق فيها ماء؛ لأن بحارها المياه العظيمة تسجّر حتى تكون نارًا ‏{‏وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ‏}‏ النفوس جمع نفس، والمراد بها الإنسان كله، فتزوّج النفوس يعني يُضم كل صنف إلى صنفه؛ لأن الزوج يراد به الصنف كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ أي أصنافًا ثلاثة وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 58‏]‏‏.‏ أي أصناف، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 22‏]‏‏.‏ أي أصنافهم وأشكالهم فيوم القيامة يضم كل شكل إلى مثله، أهل الخير إلى أهل الخير، وأهل الشر إلى أهل الشر، وهذه الأمة يضم بعضها إلى بعض ‏{‏وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً‏}‏ لوحدها ‏{‏كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية 28‏]‏‏.‏ إذًا ‏{‏وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ‏}‏ يعني شكّلت وضُم بعضها إلى بعض كل صنف إلى صنفه، كل أمة إلى أمتها ‏{‏وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ‏}‏ الموؤدة هي الأنثى تدفن حية، وذلك أنه في الجاهلية لجهلهم وسوء ظنهم بالله، وعدم تحملهم يعيّر بعضهم بعضًا إذا أتته الأنثى، فإذا بُشِّر أحدهم بالأثنى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم، ممتلىء هًّما وغمًّا ‏{‏يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ‏}‏ يعني يختفي منهم ‏{‏مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ‏}‏ ‏[‏النحل 59‏]‏‏.‏ يعني إذا قيل لأحدهم نبشرك أن الله جاء لك بأنثى - ببنت - اغتم واهتم، وامتلأ من الغم والهم، وصار يفكر هل يبقي هذه الأنثى على هون وذل‏؟‏ أو يدسها في التراب ويستريح منها‏؟‏ فكان بعضهم هكذا، وبعضهم هكذا‏.‏ فمنهم من يدفن البنت وهي حية، إما قبل أن تميز أو بعد أن تميز، حتى إن بعضهم كان يحفر الحفرة لبنته فإذا أصاب لحيته شيء من التراب نفضته عن لحيته وهو يحفر لها ليدفنها ولا يكون في قلبه لها رحمة، وهذا يدلك على أن الجاهلية أمرها سفال، فإن الوحوش تحنو على أولادها وهي وحوش، وهؤلاء لا يحنون على أولادهم، يقول عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ‏}‏ تسأل يوم القيامة ‏{‏بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ‏}‏ هل أذنبت‏؟‏ فإذا قال قائل‏:‏ كيف تُسأل وهي المظلومة‏.‏‏.‏‏.‏ هي المدفونة، ثم هي قد تدفن وهي لا تميز، ولم يجر عليها قلم التكليف، فكيف تسأل‏؟‏ قيل‏:‏ إنها تُسأل توبيخًا للذي وأدها، لأنها تُسأل أمامه فيقال‏:‏ بأي ذنب قُتِلْتِ أو قُتِلَتْ‏؟‏ نظير ذلك لو أن شخصًا اعتدى على آخر في الدنيا فأتوا إلى السلطان إلى الأمير فقال للمظلوم‏:‏ بأي ذنب ضربك هذا الرجل‏؟‏ وهو يعرف أنه معتدًا عليه ليس له ذنب‏.‏ لكن من أجل التوبيخ للظالم، فالموؤدة تُسأل بأي ذنب قتلت توبيخًا لظالمها وقاتلها ودافنها نسأل الله العافية‏.‏ ‏{‏وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ‏}‏ الصحف جمع صحيفة، وهي ما يكتب فيها الأعمال‏.‏ واعلم أيها الإنسان أن كل عمل تعمله من قول أو فعل فإنه يكتب ويسجل بصحائف على يد أمناء كرام كاتبين يعلمون ما تفعلون، يسجل كل شيء تعمله فإذا كان يوم القيامة فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ‏}‏ يعني عمله في عنقه ‏{‏وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا‏}‏ مفتوحًا ‏{‏اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ ‏[‏الإسراء 14‏]‏، كلامنا الان ونحن نتكلم يكتب، كلام بعضكم مع بعض يكتب، كل كلام يكتب ‏{‏مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 18‏]‏‏.‏ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليقل خيرًا أو ليصمت‏)‏، لأن كل شيء سيكتب عليه، ومن كثُر كلمُه كثُر سقطه، يعني الذي يُكثر الكلام يكثر منه السقط والزلات، فاحفظ لسانك فإن الصحف سوف يكتب فيها كل ما تقول وسوف تنشر لك يوم القيامة‏.‏ ‏{‏وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ‏}‏ السماء فوقنا الان سقف محفوظ قوي شديد‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏‏:‏ 47‏]‏‏.‏ أي بقوة‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 12‏]‏‏.‏ أي قوية‏.‏ في يوم القيامة تكشط يعني تُزال عن مكانها كما يكشط الجلد عند سلخ البعير عن اللحم يكشطها الله عز وجل ثم يطويها جل وعلا بيمينه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏‏.‏ ‏{‏كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏ يعني كما يطوي السجل الكتب، يعني الكاتب إذا فرغ من كتابته طوى الورقة حفظًا لها عن التمزق وعن المحي، فالسماء تكشط يوم القيامة ويبقى الأمر فضاء إلا أن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 17‏]‏‏.‏ يكون بدل السماء التي فوقنا الآن يكون الذي فوقنا هو العرش؛ لأن السماء تطوى بيمين الله عز وجل يطويها بيمينه ويهزها وكذلك يقبض الأرض ويقول‏:‏ ‏(‏أنا الملك، أين ملوك الأرض‏)‏، ‏{‏وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ‏}‏ الجحيم هي النار، وسميت بذلك لبعد قعرها وظلمة مرءاها‏.‏ تُسعر أي توقد‏.‏ وما وقودها الذي توقد به‏؟‏ وقودها الذي وقد به قال الله عنه‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏‏.‏ بدل ما توقد بالحطب والورق يكون الوقود الناس يعني الكفار‏.‏ والحجارة حجارة من نارٍ عظيمة شديدة الاشتعال شديدة الحرارة، هذا تسعير جهنم ‏{‏وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ‏}‏ الجنة دار المتقين فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ‏{‏أُزْلِفَتْ‏}‏ يعني قُرِّبت وزُيِّنت للمؤمنين، وانظر الفرق بين هذا وذاك‏.‏ دار الكفار تسعّر، توقد، ودار المؤمنين تزيّن وتقرّب ‏{‏وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ‏}‏ كل هذا يكون يوم القيامة، إذا قرأنا هذه الآيات‏:‏ ‏{‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ‏}‏ هذه اثنتا عشرة جملة إلى الان لم يأت بالجواب‏.‏ لأن كلها في ضمن الشرط ‏{‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ‏}‏ فالجواب لم يأت بعد ماذا يكون إذا كانت هذه الأشياء‏؟‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ‏}‏ أي ما قدمته من خير وشر ‏{‏يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 30‏]‏‏.‏ يعني يكون محضرًا أيضًا ‏{‏تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 30‏]‏‏.‏ فتعلم في ذلك اليوم كل نفس ما أحضرت من خير أو شر، في الدنيا نعلم ما نعمل من خير وشر لكن سرعان ما ننسى‏.‏ نسينا الشيء الكثير لا من الطاعات ولا من المعاصي، ولكن هذا لن يذهب سدى كما نسيناه‏؟‏ بل والله هو باق، فإذا كان يوم القيامة أحضرته أنت بإقرارك على نفسك بأنك عملته، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ‏}‏ فينبغي بل يجب على الإنسان أن يتأمل في هذه الآيات العظيمة وأن يتعظ بما فيها من المواعظ، وأن يؤمن بها كأنه يراها رأي عين؛ لأن ما أخبر الله به وعلمنا مدلوله فإنه أشد يقينًا عندنا مما شاهدناه بأعيننا أو سمعناه بأذاننا؛ لأن خبر الله لا يكذب، صدق، لكن ما نراه أو نسمعه كثيرًا ما يقع فيه الوهم‏.‏ قد ترى

‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا أُقْسِمُ‏}‏ قد يظن بعض الناس أن ‏{‏لا‏}‏ نافية وليس كذلك، بل هي مثبتة للقسم ويؤتى بها بمثل هذا التركيب للتأكيد‏.‏ فالمعنى ‏{‏أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ‏}‏ والخنس جمع خانسة، وهي النجوم التي تخنس، أي ترجع فبينما تراها في أعلى الأفق إذا بها راجعة إلى آخر الأفق، وذلك والله أعلم لارتفاعها وبُعدها فيكون ما تحتها من النجوم أسرع منها في الجري بحسب رؤية العين، ‏{‏الْجَوَارِ‏}‏ أصلها ‏(‏الجواري‏)‏ بالياء لكن حذفت الياء للتخفيف و‏{‏الْكُنَّسِ‏}‏ هي التي تكنس أي تدخل في مغيبها‏.‏ فأقسم الله بهذه النجوم ثم أقسم بالليل والنهار فقال‏:‏ ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ‏}‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏عَسْعَسَ‏}‏ يعني أقبل، وقيل‏:‏ معناه أدبر، وذلك أن الكلمة ‏{‏عَسْعَسَ‏}‏ في اللغة العربية تصلح لهذا وهذا‏.‏ لكن الذي يظهر أن معناها ‏"‏أقبل‏"‏ ليوافق أو ليطابق ما بعده من القسم‏.‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ‏}‏ فيكون الله أقسم بالليل حال إقباله، وبالنهار حال إقباله‏.‏ وإنما أقسم الله تعالى بهذه المخلوقات لعظمها وكونها من آياته الكبرى، فمن يستطيع أن يأتي بالنهار إذا كان الليل، ومن يستطيع أن يأتي بالليل إذا كان النهار، قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ‏}‏‏.‏ ‏[‏القصص‏:‏ 71‏]‏‏.‏ ‏{‏وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 73‏]‏‏.‏ فهذه المخلوقات العظيمة يقسم الله بها لعظم المقسم عليه وهو قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ أي القرآن ‏{‏لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ هو جبريل - صلى الله عليه وآله وسلم - فإنه رسول الله إلى الرسل بالوحي الذي ينزله عليهم‏.‏ ووصفه الله بالكرم لحسن منظره كما قال تعالى في آية أخرى‏:‏ ‏{‏ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 6‏]‏‏.‏ ‏{‏ذُو مِرَّةٍ‏}‏ قال العلماء‏:‏ المرة‏:‏ الخلق الحسن والهيئة الجميلة، فكان جبريل - صلى الله عليه وآله وسلم - موصوفًا بهذا الوصف‏:‏ ‏{‏كَرِيمٍ‏}‏ ‏{‏ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ‏}‏ ‏{‏ذِي قُوَّةٍ‏}‏ وصفه الله تعالى بالقوة العظيمة، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلّم - رآه على صورته التي خلقه الله عليها له ست مئة جناح قد سدّ الأفق كله من عظمته - صلى الله عليه وآله وسلم - وقوله‏:‏ ‏{‏عِندَ ذِي الْعَرْشِ‏}‏ أي عند صاحب العرش وهو الله جل وعلا، والعرش فوق كل شيء، وفوق العرش رب العالمين عز وجل‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 15‏]‏‏.‏ فذو العرش هو الله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَكِينٍ‏}‏ أي ذو مكانة، أي أن جبريل عند الله ذو مكانة وشرف، ولهذا خصه الله بأكبر النعم التي أنزلها الله على عباده، وهو الوحي فإن النعم لو نظرنا إليها لوجدنا أنها قسمان‏:‏ نِعَم يستوي فيها البهائم والإنسان، وهي متعة البدن الأكل والشرب، والنكاح والسكن، هذه النعم يستوي فيها الإنسان والحيوان، فالإنسان يتمتع بما يأكل، وبما يشرب، وبما ينكح، وبما يسكن، والبهائم كذلك‏.‏ ونِعمٌ أخرى يختص بها الإنسان، وهي الشرائع التي أنزلها الله على الرسل لتستقيم حياة الخلق، لأنه لا يمكن أن تستقيم حياة الخلق أو تطيب حياة الخلق إلا بالشرائع ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 97‏]‏‏.‏ المؤمن العامل بالصالحات هو الذي له الحياة الطيبة في الدنيا والثواب الجزيل في الاخرة‏.‏ والله لو فتشت الملوك وأبناء الملوك، والوزراء وأبناء الوزراء، والأمراء وأبناء الأمراء، والأغنياء وأبناء الأغنياء، لو فتشتهم وفتشت من آمن وعمل صالحًا لوجدت الثاني أطيب عيشة، وأنعم بالًا، وأشرح صدرًا، لأن الله عز وجل الذي بيده مقاليد السموات والأرض تكفل‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً‏}‏‏.‏ تجد المؤمن العامل للصالحات مسرور القلب، منشرح الصدر، راضيًا بقضاء الله وقدره، إن أصابه خير شكر الله على ذلك، وإن أصابه ضده صبر على ذلك واعتذر إلى الله مما صنع، وعلم أنه إنما أصابه بذنوبه فرجع إلى الله عز وجل، قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏عجبًا للمؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سَّراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضَّراء صبر فكان خيرًا له‏)‏، وصدق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذن أكبر نعمة أنزلها الله على الخلق هي نعمة الدين الذي به قوام حياة الإنسان في الدنيا والاخرة، والحياة الحقيقية هي حياة الاخرة، والدليل قوله تعالى في سورة الفجر‏:‏ ‏{‏يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 24‏]‏‏.‏ فالدنيا ليست بشيء‏.‏ الحياة حقيقة حياة الآخرة، والذي يعمل للاخرة يحيا حياة طيبة في الدنيا، فالمؤمن العامل للصالحات هو الذي كسب الحياتين‏:‏ حياة الدنيا، وحياة الاخرة‏.‏ والكافر هو الذي خسر الدنيا والاخرة ‏{‏قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ‏{‏مُطَاعٍ ثَمَّ‏}‏ أي هناك ‏{‏أَمِينٍ‏}‏ على ما كُلف به‏.‏ جبريل هو المطاع فمن الذي يطيعه‏؟‏ قال العلماء‏:‏ تطيعه الملائكة لأنه ينزل بالأمر من الله فيأمر الملائكة فتطيع، فله إمرة وله طاعة على الملائكة‏.‏ ثم الرسل عليهم الصلاة والسلام الذين ينزل جبريل عليهم بالوحي لهم إمرة وطاعة على المكلفين ‏{‏وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ‏}‏‏.‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 92‏]‏‏.‏ في هذه الآيات ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ‏}‏ أقسم الله عز وجل على أن هذا القرآن قول هذا الرسول الكريم الملكي جبريل - صلى الله عليه وآله وسلم - وفي آية أخرى بين الله سبحانه وتعالى وأقسم أن هذا القرآن قول رسول كريم بشري في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 38 - 41‏]‏‏.‏ فالرسول هنا في سورة التكوير رسول ملكي أي من الملائكة وهو جبريل - صلى الله عليه وآله وسلم - والرسول هناك رسول بشري وهو محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - والدليل على هذا واضح‏.‏ هنا قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ‏}‏‏.‏ وهذا الوصف لجبريل، لأنه هو الذي عند الله، أما محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو في الأرض‏.‏ هناك قال‏:‏ ‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ‏}‏‏.‏ ردًّا لقول الكفار الذين قالوا إن محمدًا شاعر ‏{‏وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ‏}‏‏.‏ فأيهما أعظم قسمًا ‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ‏}‏ أو ‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏، الثاني أعظم، ليس فيه شيء أعمّ منه ‏{‏بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ‏}‏‏.‏ كل الأشياء إما نبصرها أو لا نبصرها‏.‏ إذن أقسم الله بكل شيء‏.‏ وهنا أقسم بالآيات العلوية ‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ‏}‏‏.‏ هذه آيات علوية أفقية تناسب الرسول الذي أُقسم على أنه قوله وهو جبريل؛ لأن جبريل عند الله‏.‏ فإذا قال قائل‏:‏ كيف يصف الله القرآن بأنه قول الرسول البشري، والرسول الملكي‏؟‏ فنقول‏:‏ نعم الرسول الملكي بلّغه إلى الرسول البشري، والرسول البشري بلغه إلى الأمة، فصار قول هذا بالنيابة، قول جبريل بالنيابة وقول محمد بالنيابة، والقائل الأول هو الله عز وجل، فالقرآن قول الله حقيقة، وقول جبريل باعتبار أنه بلغه لمحمد، وقول محمد باعتبار أنه بلغه إلى الأمة‏.‏ ‏{‏وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ‏}‏ أي محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - وتأمل أنه قال‏:‏ ‏{‏وَمَا صَاحِبُكُم‏}‏ كأنه قال‏:‏ ما صاحبكم الذي تعرفونه وأنتم وإياه دائمًا، بقي فيهم أربعين سنة في مكة قبل النبوة يعرفونه، ويعرفون صدقه وأمانته، حتى كانوا يطلقون عليه اسم الأمين ‏{‏وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ‏}‏ يعني ليس مجنونًا، بل هو أعقل العقلاء - صلى الله عليه وآله وسلم - أكمل الناس عقلًا بلا شك وأسدّهم رأيًا‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ رَآهُ‏}‏ ‏.‏ أي رأى جبريل ‏{‏بِالأُفُقِ الْمُبِينِ‏}‏‏.‏ أي البين الظاهر العالي، فإن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - رأى جبريل على صورته التي خُلق عليها مرتين‏:‏ مرة في غار حراء، ومرة في السماء السابعة لما عُرج به - صلى الله عليه وآله وسلم - وهذه الرؤية هي التي في غار حراء، لأنه يقول ‏{‏رَآهُ بِالأُفُقِ‏}‏ إذن محمد في الأرض ‏{‏وَمَا هُوَ‏}‏ يعني ما محمد - صلى الله عليه وسلّم - ‏{‏عَلَى الْغَيْبِ‏}‏ يعني على الوحي الذي جاءه من عند الله ‏{‏بِضَنِينٍ‏}‏ بالضاد أي ببخيل، فهو - صلى الله عليه وآله وسلم - ليس بمتهم في الوحي ولا باخل به، بل هو أشد الناس بذلًا لما أوحي إليه، يعلم الناس في كل مناسبة، وهو أبعد الناس عن التهمة لكمال صدقه - صلى الله عليه وآله وسلم - وفي قراءة ‏{‏بِظَنِينٍ‏}‏ بالظاء المشالة، أي‏:‏ بمتهم، من الظن وهو التهمة‏.‏ ‏{‏وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ‏}‏ أي ليس بقول أحد من الشياطين، وهم الكهنة الذين توحي إليهم الشياطين الوحي ويكذبون معه ويخبرون الناس فيظنونهم صادقين‏.‏ ‏{‏فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏.‏ ‏{‏إِنْ‏}‏ هنا بمعنى ‏(‏ما‏)‏ وهذه قاعدة‏:‏ ‏"‏أنه إذا جاءت ‏(‏إلا‏)‏ بعد ‏(‏إن‏)‏ فهي بمعنى ‏(‏ما‏)‏‏"‏ أي أنها تكون نافية لأن ‏"‏إن‏"‏ تأتي نافية، وتأتي شرطية، وتأتي مخففة من الثقيلة، والذي يبين هذه المعاني هو السياق فإذا جاءت ‏(‏إن وبعدها إلا‏)‏ فهي نافية، أي ما هو أي القرآن الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلّم - ونزل به جبريل على قلبه ‏{‏إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ‏}‏ ، ذكر يشمل التذكير والتذكّر، فهو تذكير للعالمين، وتذكر لهم، أي أنهم يتذكرون به ويتعظون به ‏(‏والمراد بالعالمين‏)‏ من بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏‏.‏ فالمراد بالعالمين هنا من أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ‏{‏لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ‏}‏ ‏{‏لِمَن شَاء‏}‏ هذه الجملة بدل مما قبلها لكنها بإعادة العامل وهي ‏(‏إلا‏)‏ أي‏:‏ ‏{‏إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ‏}‏ وأما من لا يشاء الاستقامة فإنه لا يتذكر بهذا القرآن ولا ينتفع به كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 37‏]‏‏.‏ فالإنسان الذي لا يريد الاستقامة لا يمكن أن ينتفع بهذا القرآن، ولكن إذا قال قائل‏:‏ هل مشيئة الإنسان باختياره‏؟‏ نقول‏:‏ نعم مشيئة الإنسان باخيتاره‏.‏ فالله عز وجل جعل للإنسان اختيارًا وإرادة، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل؛ لأنه لو لم يكن كذلك لم تقم الحجة على الخلق الذين أرسلت إليه الرسل بإرسال الرسل، فما نفعله هو باختيارنا وإرادتنا، ولولا ذلك ما كان لإرسال الرسل حجة علينا إذ أننا نستطيع أن نقول نحن لا نقدر على الاختيار، فالإنسان لا شك فاعل باختياره، وكل إنسان يعرف أنه إذا أراد أن يذهب إلى مكة فهو باختياره، وإذا أراد أن يذهب إلى المدينة فهو باختياره، وإذا أراد أن يذهب إلى بيت المقدس فهو باختياره وإذا أراد أن يذهب إلى الرياض فهو باختياره، أو إلى أي شيء أراده فهو باختياره لا يرى أن أحدًا أجبره عليه، ولا يشعر أن أحدًا أجبره على ذلك، كذلك أيضًا من أراد أن يقوم بطاعة الله فهو باختياره ومن أراد أن يعصي الله فهو باختياره، فللإنسان مشيئة ولكن نعلم علم اليقين أنه ما شاء شيئًا إلا وقد شاءه الله من قبل، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ‏}‏ ما نشاء شيئًا إلا بعد أن يكون الله قد شاءه، فإذا شئنا الشيء علمنا أن الله قد شاءه، ولولا أن الله شاءه ما شئناه‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏ فنحن إذا عملنا الشيء نعمله بمشيئتنا واختيارنا، ولكن نعلم أن هذه المشيئة والاختيار كانت بعد مشيئة الله عز وجل، ولو شاء الله ما فعلنا‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ إذن لنا حجة في المعصية لأننا ما شئناها إلا بعد أن شاءها الله‏.‏ فالجواب‏:‏ أنه لا حجة لنا لأننا لم نعلم أن الله شاءها إلا بعد أن فعلناها، وفعلنا إياها باختيارنا، ولهذا لا يمكن أن نقول إن الله شاء كذا إلا بعد أن يقع، فإذا وقع فبأي شيء وقع‏؟‏ وقع بإرادتنا ومشيئتنا، لهذا لا يتجه أن يكون للعاصي حجة على الله عز وجل وقد أبطل الله هذه الحجة في قوله‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا‏}‏‏.‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏‏.‏ فلولا أنه لا حجة لهم ما ذاقوا بأس الله، لسَلِموا من بأس الله، ولكنه لا حجة لهم فلهذا ذاقوا بأس الله، وكلنا نعلم أن الإنسان لو ذُكر له أن بلدًا آمنًا مطمئنًا، يأتيه رزقه رغدًا من كل مكان، فيه من المتاجر والمكاسب ما لا يوجد في البلاد الأخرى، وأن بلدًا آخر بلدٌ خائف غير مستقر، مضطرب في الاقتصاد، مضطرب في الخوف والأمن، فإلى أيهما يذهب‏؟‏ بالتأكيد سيذهب إلى الأول ولا شك، ولا يرى أن أحدًا أجبره أن يذهب إلى الأول، يرى أنه ذهب إلى الأول بمحض إرادته، وهكذا الان طريق الخير وطريق الشر، فالله بيّن لنا‏:‏ هذه طريق جهنم وهذه طريق الجنة، وبيّن لنا ما في الجنة من النعيم، وما في النار من العذاب‏.‏ فأيهما نسلك‏؟‏ بالقياس الواضح الجلي أننا سنسلك طريق الجنة لا شك، كما أننا في المثال الذي قبل نسلك طريق البلد الامن الذي يأتيه رزقه رغدًا من كل مكان‏.‏ لو أننا سلكنا طريق النار فإنه سيكون علينا العتب والتوبيخ واللوم، ويُنادى علينا بالسفه، كما لو سلكنا في المثال الأول طريق البلد المخوف المتزعزع الذي ليس فيه استقرار، فإن كل أحد يلومنا ويوبخنا، إذًا ففي قوله‏:‏ ‏{‏لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ‏}‏ تقرير لكون الإنسان يفعل الشيء بمشيئته واختياره، ولكن بعد أن يفعل الشيء ويشاء الشيء نعلم أن الله قد شاءه من قبل ولو شاء الله ما فعله، وكثيرًا ما يعزم الإنسان على شيء يتجه بعد العزيمة على هذا الشيء وفي لحظة ما يجد نفسه منصرفًا عنه، أو يجد نفسه مصروفًا عنه؛ لأن الله لم يشأه، كثيرًا ما نريد أن نذهب مثلًا إلى المسجد لنستمع إلى محاضرة، وإذا بنا ننصرف بسبب أو بغير سبب، أحيانًا بسبب بحيث نتذكر أن لنا شغلًا فنرجع، وأحيانًا نرجع بدون سبب لا ندري إلا وقد صرف الله تعالى همتنا عن ذلك فرجعنا‏.‏ ولهذا قيل لأعرابي بم عرفت ربك‏؟‏ قال‏:‏ بنقض العزائم وصرف الهمم‏.‏ ‏(‏بنقض العزائم‏)‏ يعني الإنسان يعزم على الشيء عزمًا مؤكدًا وإذا به ينتقض‏!‏‏!‏ من نقض عزيمته، لا يشعر، ما يشعر أن هناك مرجحًا أوجب أن يعدل عن العزيمة الأولى بل بمحض إرادة الله ‏(‏صرف الهمم‏)‏ يهم الإنسان بالشيء ويتجه إليه تمامًا وإذا به يجد نفسه منصرفًا عنه سواء كان الصارف مانعًا حسيًّا أو كان الصارف مجرد اختيار‏.‏‏.‏ اختار الإنسان أن ينصرف، كل هذا من الله عز وجل‏.‏ فالحاصل أن الله يقول‏:‏ ‏{‏لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ‏}‏ والاستقامة هي الاعتدال، ولا عدل أقوم من عدل الله عز وجل في شريعته، في الشرائع السابقة كانت الشرائع تناسب حال الأمم زمانًا ومكانًا وحالًا، وبعد بعثة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كانت شريعته تناسب الأمة التي بُعث النبي - صلى الله عليه وسلّم - إليها من أول بعثته إلى نهاية الدنيا‏.‏ ولهذا كان من العبارات المعروفة ‏"‏أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان وحال‏"‏‏.‏ لو تمسك الناس به لأصلح الله الخلق‏.‏ انظر مثلًا الإنسان يصلي أولًا قائمًا، فإن عجز فقاعدًا، فإن عجز فعلى جنب، إذن الشريعة تتطور بحسب حال الشخص؛ لأن الدين صالح لكل زمان ومكان‏.‏ يجب على المحدث أن يتطهر بالماء، فإن تعذر استعمال الماء لعجز أو عدم‏.‏ عدل إلى التيمم، فإن لم يوجد ولا تراب، أو كان عاجزًا عن استعمال التراب فإنه يصلي بلا شيء، لا بطهارة ماء ولا بطهارة تيمم، كل هذا لأن شريعة الله عز وجل كلها مبنية على العدل، ليس فيها جور، ليس فيها ظلم، ليس فيها حرج، ليس فيها مشقة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَن يَسْتَقِيمَ‏}‏ وضد الاستقامة انحرافان‏:‏ انحراف إلى جانب الإفراط والغلو، وانحراف إلى جانب التفريط والتقصير، ولهذا كان الناس في دين الله عز وجل ثلاثة أشكال‏:‏ طرفان ووسط، طرف غالٍ مبالغ متنطع متعنت، وطرف آخر مفرّط مقصّر مهمل‏.‏ الثالث‏:‏ وسط بين الإفراط والتفريط، مستقيم على دين الله هذا هو الذي يُحمَد‏.‏ أما الأول الغالي، والثاني الجافي فكلاهما هالك‏.‏‏.‏ هالك بحسب ما عنده من الغلو، أو من التقصير، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الغلو والإفراط والتعنت والتنطع حتى إنه قال‏:‏ ‏(‏هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون‏)‏، لأن التنطع فيه إشقاق على النفس وفيه خروج عن دين الله عز وجل، كما أنه ذمّ المفرطين المهملين وقال في وصف المنافقين‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏‏.‏ فدين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، ولهذا قال هنا‏:‏ ‏{‏لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ‏}‏ ‏.‏ لا يميل يمينًا ولا شمالًا، يكون سيره سير استقامة على دين الله عز وجل والاستقامة كما تكون في معاملة الخالق عز وجل وهي العبادة تكون أيضًا في معاملة المخلوق، فكن مع الناس بين طرفين، بين طرفي الشدة والغلظة والعبوس، وطرف التراخي والتهاون وبذل النفس وانحطاط الرتبة، كن حازمًا من وجه، ولين من وجه، ولهذا قال الفقهاء - رحمهم الله - في القاضي‏:‏ ‏"‏ينبغي أن يكون لينًا من غير ضعف، قويًّا من غير عنف‏"‏‏.‏ فلا يكون لينه يشطح به إلى الضعف، ولا قوته إلى العنف، يكون بين ذلك، لينًا من غير ضعف، قويًّا من غير عنف حتى تستقيم الأمور، فبعض الناس مثلًا يعامل الناس دائمًا بالعبوس والشدة وإشعار نفسه بأنه فوق الناس وأن الناس تحته، وهذا خطأ، ومن الناس من يحط قدر نفسه ويتواضع إلى حد التهاون وعدم المبالاة بحيث يبقى بين الناس ولا حرمة له، وهذا أيضًا خطأ، فالواجب أن يكون الإنسان بين هذا وبين هذا كما هو هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه - صلى الله عليه وآله وسلم - يشتدّ في موضع الشدة، ويلين في موضع اللين‏.‏ فيجمع الإنسان هنا بين الحزم والعزم، واللين والعطف والرحمة ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ‏}‏ يعني لا يمكن أن تشاؤا شيئًا إلا وقد شاءه الله من قبل، فمشيئة الإنسان ما كانت إلا بعد مشيئة الله عز جل، لو شاء الله لم يشأ، ولو شاء الله أن لا يكون الشيء ما كان ولو شئته‏.‏ حتى لو شئت والله تعالى لم يشأ فإنه لن يكون، بل يقيض الله تعالى أسبابًا تحول بينك وبينه حتى لا يقع، وهذه مسألة يجب على الإنسان أن ينتبه لها، أن يعلم أن فعله بمشيئته مشيئة تامة بلا إكراه، لكن هذه المشيئة مقترنة بمشيئة الله‏.‏ يعلم أنه ما شاء الشيء إلا بعد أن شاء الله، وأن الله لو شاء ألا يكون لم يشأه الإنسان، أو شاءه الإنسان ولكن يحول الله بينه وبينه بأسباب وموانع، ‏{‏رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ قال‏:‏ ‏{‏رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ إشارة إلى عموم ربوبية الله، وأن ربوبية الله تعالى عامة ولكن يجب أن نعلم أن العالمين هنا ليست كالعالمين في قوله ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ‏}‏ فالعالمين الأولى ‏{‏ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ‏}‏ من أُرسل إليهم الرسول، أما هنا ‏{‏رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ فالمراد بالعالمين كل من سوى الله، فكل من سوى الله فهو عالم؛ لأنه ما ثمّ إلا رب ومربوب، فإذا قيل رب العالمين تعيّن أن يكون المراد بالعالمين كل من سوى الله، كما قال الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - ‏:‏ ‏"‏وكل ما سوى الله فهو عالم، وأنا واحد من ذلك العالم‏"‏‏.‏ والحاصل أن هذه السورة سورة عظيمة، فيها تذكرة وموعظة ينبغي للمؤمن أن يقرأها بتدبر وتمهل، وأن يتعظ بما فيها، كما أن الواجب عليه في جميع سور القرآن وآياته أن يكون كذلك حتى يكون ممن اتعظ بكتاب الله وانتفع به، نسأل الله تعالى أن يعظنا وإياكم بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وآياته الكونية إنه على كل شيء قدير‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:22 PM   المشاركة رقم: 10
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة الانفطار


‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏‏.‏

البسملة سبق الكلام عليها‏.‏ ‏{‏إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ‏}‏ يعني انشقت كما قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏1، 2‏]‏‏.‏ ‏{‏وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ‏}‏ يعني النجوم صغيرها وكبيرها تنتثر وتتفرق وتتساقط لأن العالم انتهى، ‏{‏وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ‏}‏ أي فُجر بعضها على بعض وملئت الأرض ‏{‏وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ‏}‏ أي أخرج ما فيها من الأموات حتى قاموا لله عز وجل، فهذه الأمور الأربعة إذا حصلت ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ‏}‏ ‏{‏نَفْسٌ‏}‏ هنا نكرة لكنها بمعنى العموم إذ أن المعنى‏:‏ علمت كل نفس ما قدمت وأخرت، وذلك بما يُعرض عليها من الكتاب، فكل إنسان ألزمه الله طائره في عنقه ويخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا‏.‏ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا‏.‏ وفي ذلك اليوم يقول المجرمون‏:‏ مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فيعلم الإنسان ما قدم وأخر، بينما هو في الدنيا قد نسي، لكن يوم القيامة يعرض العمل فتعلم كل نفس ما قدمت وأخرت، والغرض من هذا التحذير تحذير العبد من أن يعمل مخالفة لله ورسوله؛ لأنه سوف يعلم بذلك ويحاسب عليه، ‏{‏يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ‏}‏ المراد بالإنسان هنا قيل‏:‏ هو الكافر، وقيل‏:‏ الإنسان من حيث هو إنسان؛ لأن الإنسان من حيث هو إنسان ظلوم جهول، ظلوم كفار ‏{‏إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏‏.‏ فيقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ‏}‏ ويخاطب الإنسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن ديانته ‏{‏مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ‏}‏ يعني أي شيء غرك بالله حيث تكذبه في البعث، تعصيه في الأمر والنهي، بل ربما يوجد من ينكر الله عز وجل فما الذي غرك‏؟‏‏!‏ قال بعض العلماء‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ‏}‏ إشارة إلى الجواب، وهو أن الذي غر الإنسان كرم الله عز وجل وإمهاله وحلمه، لكنه لا يجوز أن يغتر الإنسان بذلك فإن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، إذًا ما غرك بربك الكريم‏؟‏ الجواب‏:‏ كرمه وحلمه هذا هو الذي غر الإنسان وصار يتمادى في المعصية في التكذيب، يتمادى في المخالفة ‏{‏الَّذِي خَلَقَكَ‏}‏ خلقك من العدم، وأوجدك من العدم، ‏{‏فَسَوَّاكَ‏}‏ أي جعلك مستوي الخلقة ليست يد أطول من يد، ولا رجل أطول من رجل، ولا أصبع أطول من أصبع، بحسب اليدين والرجلين، فتجد الطويل في يد هو الطويل في اليد الأخرى، والقصير هو القصير، وهلم جرى، سوّى الله عز وجل الإنسان من كل ناحية من ناحية الخلقة ‏{‏فَعَدَلَكَ‏}‏ وفي قراءة سبعية ‏{‏فَعَدَلَكَ‏}‏ أي جعلك معتدل القامة، مستوي الخلقة لست كالبهائم التي لم تكن معدّلة بل تسير على يديها ورجليها، أما الإنسان فإنه خصّه الله بهذه الخصيصة ‏{‏فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ‏}‏ يعني الله ركبك في أي صورة شاء، من الناس من هو جميل، ومنهم من هو قبيح، ومنهم المتوسط، ومنهم الأبيض، ومنهم الأحمر، ومنهم الأسود، ومنهم ما بين ذلك، أي صورة يركبك الله عز وجل على حسب مشيئته، ولكنه عز وجل شاء للإنسان أن تكون صورته أحسن الصور ثم قال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ‏}‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ للاضراب يعني مع هذا الخلق والإمداد والإعداد تكذبون بالدين أي بالجزاء، وتقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين، فتكذبون بالدين أي بالجزاء، وربما نقول‏:‏ وتكذبون أيضًا بالدين نفسه، فلا تقرّون بالدين الذي جاءت به الرسل والآية شاملة لهذا وهذا؛ لأن القاعدة في علم التفسير وعلم شرح الحديث‏:‏ ‏"‏أنه إذا كان النص يحتمل معنيين لا ينافي أحدهما الآخر فإنه يُحمل عليهما‏"‏‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ تأكيد بمؤكدين ‏"‏إن‏"‏ و‏"‏اللام‏"‏ ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ‏}‏ الإنسان عليه حافظ يحفظه ويكتب كل ما عمل، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 18‏]‏‏.‏ فعلى كل إنسان حفظة يكتبون كل ما قال وكل ما فعل، وهؤلاء الحفظة كرام ليسوا لئامًا، بل عندهم من الكرم ما ينافي أن يظلموا أحدًا، فيكتبوا عليه ما لم يعمل، أو يهدروا ما عمل؛ لأنهم موصوفون بالكرم ‏{‏يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ إما بالمشاهدة إن كان فعلًا، وإما بالسماع إن كان قولًا، بل إن عمل القلب يطلعهم الله عليه فيكتبونه كما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏من هم بالحسنة فلم يعملها كتبت حسنة، ومن همّ بالسيئة ولم يعملها كتبت حسنة كاملة‏)‏، لأنه تركها لله عز وجل والأول يثاب على مجرد الهم بالحسنة‏.‏

‏{‏إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏}‏‏.‏ ‏{‏إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ‏}‏ هذا بيان للنهاية والجزاء ‏{‏إِنَّ الأَبْرَارَ‏}‏ جمع بر وهم كثيروا فعل الخير، المتباعدون عن الشر ‏{‏لَفِي نَعِيمٍ‏}‏ أي نعيم في القلب، ونعيم في البدن ولهذا لا تجد أحدًا أطيب قلبًا، ولا أنعم بالًا من الأبرار أهل البر، حتى قال بعض السلف‏:‏ ‏"‏لو يعلم الملوك، وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف‏"‏، وهذا النعيم الحاصل يكون في الدنيا وفي الاخرة، أما في الاخرة فالجنة، وأما في الدنيا فنعيم القلب وطمأنينته ورضاه بقضاء الله وقدره، فإن هذا هو النعيم الحقيقي، ليس النعيم في الدنيا أن تترف بدنيًّا، النعيم نعيم القلب ‏{‏وَإِنَّ الْفُجَّارَ‏}‏ الفجار هم الكفار ضد الأبرار ‏{‏لَفِي جَحِيمٍ‏}‏ أي في نار حامية ‏{‏يَصْلَوْنَهَا‏}‏ يعني يحترقون بها ‏{‏يَوْمَ الدِّينِ‏}‏ أي يوم الجزاء وذلك يوم القيامة ‏{‏وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ‏}‏ أي لن يغيبوا عنها فيخرجوا منها كما قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 37‏]‏‏.‏ لأنهم مخلدون بها أبدًا - والعياذ بالله - ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ‏}‏ هذا الاستهفام للتفخيم والتعظيم يعني أي شيء أعلمك بيوم الدين‏؟‏ والمعنى أعلم هذا اليوم، وأقدره قدره ‏{‏يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا‏}‏ في يوم القيامة لا أحد يملك لأحد شيئًا لا بجلب خير ولا بدفع ضرر إلا بإذن الله عز وجل لقوله‏:‏ ‏{‏وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏}‏ في الدنيا هناك أناس يأمرون من الأمراء، والوزراء، والرؤساء، والاباء، والأمهات، لكن في الاخرة الأمر لله عز وجل، ولا تملك نفس لنفس شيئًا إلا بإذن الله، ولهذا كان الناس في ذلك اليوم يلحقهم من الغم والكرب ما لا يطيقون، ثم يطلبون الشفاعة من آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليهم الصلاة والسلام حتى تنتهي إلى نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيشفع بإذن الله فيريح الله العالم من الموقف، ‏{‏وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏}‏‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ أليس الأمر لله في ذلك اليوم وفي غيره‏؟‏ قلنا‏:‏ بلى الأمر لله تعالى في يوم الدين وفيما قبله، لكن ظهور أمره في ذلك اليوم أكثر بكثير من ظهور أمره في الدنيا؛ لأن في الدنيا يخالف الإنسان أوامر الله عز وجل ويطيع أمر سيده، فلا يكون الأمر لله بالنسبة لهذا، لكن في الاخرة ليس فيه إلا أمر لله عز وجل‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏‏.‏ والملك لله في الدنيا وفي الاخرة، لكن في ذلك اليوم يظهر ملكوت الله عز وجل وأمره، ويتبين أنه ليس هناك آمر في ذلك اليوم إلا الله عز وجل، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:24 PM   المشاركة رقم: 11
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة المطففين



‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَيْلٌ‏}‏ كلمة ويل تكررت في القرآن كثيرًا، وهي على الأصح كلمة وعيد يتوعد الله سبحانه وتعالى بها من خالف أمره، أو ارتكب نهيه على الوجه المفيد في الجملة التي بعدها فهنا يقول عز وجل ‏{‏وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ‏}‏ فمن هؤلاء المطففون‏؟‏ هؤلاء المطففون فسرتهم الآيات التي بعدها فقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ‏}‏ يعني اشتروا منهم ما يكال استوفوا منهم الحق كاملًا بدون نقص ‏{‏وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ‏}‏ يعني إذا كالوا لهم أي هم الذين باعوا الطعام كيلًا، فإنهم إذا كالوا للناس أو باعوا عليهم شيئًا وزنًا إذا وزنوا نقصوا ‏{‏يُخْسِرُونَ‏}‏ فهؤلاء يستوفون حقهم كاملًا، وينقصون حق غيرهم، فجمعوا بين الأمرين، بين الشح والبخل، الشح‏:‏ في طلب حقهم كاملًا بدون مراعاة أو مسامحة، والبخل‏:‏ بمنع ما يجب عليهم من إتمام الكيل والوزن، وهذا المثال الذي ذكره الله عز وجل في الكيل والوزن هو مثال، فيقاس عليه كل ما أشبه، كل من طلب حقه كاملًا ممن هو عليه ومنع الحق الذي عليه فإنه داخل في الآية الكريمة، فمثلًا الزوج يريد من زوجته أن تعطيه حقه كاملًا ولا يتهاون في شيء من حقه، لكنه عند أداء حقها يتهاون ولا يعطيها الذي لها، وما أكثر ما تشكي النساء من هذا الطراز من الأزواج - والعياذ بالله - حيث إن كثيرًا من النساء يريد منها الزوج أن تقوم بحقه كاملًا، لكنه هو لا يعطيها حقها كاملًا، ربما ينقص أكثر حقها من النفقة والعشرة بالمعروف وغير ذلك، إن ظلم الناس أشد من ظلم الإنسان نفسه في حق الله؛ لأن ظلم الإنسان نفسه في حق الله تحت المشيئة إذا كان دون الشرك، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عاقبه عليه، لكن حق الادميين ليس داخلًا تحت المشيئة لابد أن يوفى، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏من تعدون المفلس فيكم‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ المفلس فينا من لا درهم عنده ولا متاع، فقال‏:‏ ‏"‏إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال - كثيرة - فيأتي وقد ظلم هذا، وشتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار‏)‏، فنصيحتي لهؤلاء الذين يفرطون في حق أزواجهم أن يتقوا الله عز وجل فإن النبي - صلى الله عليه وسلّم - أوصى بذلك في أكبر مجمع شهده العالم الإسلامي في حياة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في يوم عرفة في حجة الوداع، قال‏:‏ ‏(‏اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله‏)‏، فأمرنا أن نتقي الله تعالى في النساء وقال‏:‏ ‏(‏اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم‏)‏ أي بمنزلة الأسرى لأن الأسير إن شاء فكه الذي أسره وإن شاء أبقاه، والمرأة عند زوجها كذلك إن شاء طلقها وإن شاء أبقاها، فهي بمنزلة الأسير عنده فليتق الله فيها، كذلك أيضًا نجد بعض الناس يريد من أولاده أن يقوموا بحقه على التمام لكنه مفرط في حقهم، فيريد من أولاده أن يبروه ويقوموا بحقه، أن يبروه في المال، وفي البدن، وفي كل شيء يكون به البر، لكنه هو مضيع لهؤلاء الأولاد، غير قائم بما يجب عليه نحوهم، نقول هذا مطفف، كما نقول في المسألة الأولى في مسألة الزوج مع زوجته إنه إذا أراد منها أن تقوم بحقه كاملًا وهو يبخس حقها نقول إنه ‏"‏مطفف‏"‏ هذا الأب الذي أراد من أولاده أن يبروه تمام البر وهو مقصر في حقهم نقول إنك ‏"‏مطفف‏"‏ ونقول له تذكر قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ‏}‏ يعني ألا يتيقن هؤلاء ويعلموا علم اليقين؛ لأن الظن هنا بمعنى اليقين، والظن بمعنى اليقين يأتي كثيرًا في القرآن مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏‏:‏ 46‏]‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ‏}‏ وهم يتيقنون أنهم ملاقوا الله، لكن الظن يستعمل بمعنى اليقين كثيرًا في اللغة العربية، وهنا يقول عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ‏}‏ ألا يتيقن هؤلاء أنهم مبعوثون أي مخرجون من قبورهم لله رب العالمين ‏{‏لِيَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ هذا اليوم عظيم ولا شك أنه عظيم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 1‏]‏‏.‏ عظيم في طوله، في أهواله، فيما يحدث فيه، في كل معنى تحمله كلمة عظيم، لكن هذا العظيم هو على قوم عسير، وعلى قوم يسير، قال تعالى‏:‏ ‏{‏عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 8‏]‏‏.‏ لكنه بالنسبة للمؤمنين - جعلنا الله منهم - يسير كأنما يؤدي به صلاة فريضة من سهولته عليه ويسره عليه، لاسيما إذا كان ممن استحق هذه الوقاية العظيمة، وكان من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فهذا اليوم عظيم لكنه بالنسبة للناس يكون يسيرًا ويكون عسيرًا ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ يعني هذا اليوم العظيم هو ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ يقومون من قبورهم حفاة ليس لهم نعال ولا خفاف، عراة ليس عليهم ثياب لا قُمص ولا سراويل ولا أزر ولا أردية، غرلًا أي غير مختونين بمعنى أن القلفة التي تقطع في الختان تعود يوم القيامة مع صاحبها كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏ ويعيده الله عز وجل لبيان كمال قدرته تعالى، وأنه يعيد الخلق كما بدأهم، والقلفة إنما قطعت في الدنيا من أجل النزاهة عن الأقذار؛ لأنها إن بقيت فإنه ينحبس فيها شيء من البول وتكون عرضة للتلويث، لكن هذا في الاخرة لا حاجة إليه؛ لأن الاخرة ليست دار تكليف بل هي دار جزاء إلا أن الله سبحانه وتعالى قد يكلف فيها امتحانًا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 43‏]‏‏.‏ فالناس يقومون على هذا الوصف حفاة، عراة، غرلًا، وفي بعض الأحاديث بُهمًا قال العلماء‏:‏ البهم يعني الذين لا مال معهم، ففي يوم القيامة لا مال يفدي به الإنسان نفسه من العذاب في يوم القيامة، ليس هناك ابن يجزي عن أبيه شيئًا، ولا أب يجزي عن ابنه شيئًا، ولا صاحبة ولا قبيلة كلٌّ يقول نفسي نفسي‏.‏ ‏{‏لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 37‏]‏‏.‏ نسأل الله تعالى أن يعيننا على أهواله وأن ييسره علينا‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ وهو الله جل وعلا، وفي هذا اليوم تتلاشى جميع الأملاك إلا ملك رب العالمين جل وعلا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16 - 17‏]‏‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ‏}‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ إذا وردت في القرآن لها معانٍ حسب السياق، قد تكون حرف ردع وزجر، وقد تكون بمعنى حقًّا، وقد يكون لها معانٍ أخرى يعينها السياق؛ لأن الكلمات في اللغة العربية ليس لها معنى ذاتي لا تتجاوزه، بل كثير من الكلمات العربية لها معانٍ تختلف بحسب سياق الكلام، في هذه الآية يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ‏}‏ فتحتمل أن تكون بمعنى حقًّا إن كتاب الفجار لفي سجين، أو تكون بمعنى‏:‏ الردع عن التكذيب بيوم الدين، وعلى كل حال فبين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن كتاب الفجار في سجين، والسجين قال العلماء‏:‏ إنه مأخوذ من السجن وهو الضيق، أي في مكان ضيق، وهذا المكان الضيق هو نار جهنم - والعياذ بالله - كما قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان 13، 14‏]‏‏.‏ وجاء في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور في قصة المحتضر وما يكون بعد الموت أن الله سبحانه وتعالى يقول‏:‏ ‏(‏اكتبوا كتاب عبدي في السجين يعني - الكافر - في الأرض السابعة السفلى‏)‏ فسجين هو أسفل ما يكون من الأرض الذي هو مقر النار نعوذ بالله منها فهذا الكتاب في سجين ثم عظم الله عز وجل هذا السجين بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ‏}‏ فالاستفهام هنا للتعظيم أي ما الذي أعلمك بسجين‏؟‏ وهل بحثت عنه‏؟‏ وهل سألت عنه حتى يبين لك، والتعظيم قد يكون لعظمة الشيء رفعة، وقد يكون لعظمة الشيء نزولًا، وهذا التعظيم في سجين ليس لرفعته وعلوه ولكنه لسفوله ونزوله، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ مَّرْقُومٌ‏}‏ كتاب هذه لا تعود على سجين وإنما تعود على كتاب في قوله‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ‏}‏ فما هذا الكتاب فقال‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ مَّرْقُومٌ‏}‏ يعني مكتوب لا يزاد فيه ولا ينقص ولا يبدل ولا يغيّر، بل هذا مآلهم ومقرهم - والعياذ بالله - أبد الابدين ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ ويل سبق الكلام عليها في أول هذه السورة ‏{‏الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ‏}‏ الكلام من أول السورة إلى آخرها كله في يوم الدين والجزاء، هؤلاء الذين يكذبون بيوم الدين توعدهم الله بالويل؛ لأن هؤلاء المكذبين بيوم الدين لا يمكن أن يستقيموا على شريعة الله‏.‏ لا يستقيم على شريعة الله إلا من آمن بيوم الدين؛ لأن من لم يؤمن به وإنما آمن بالحياة فقط، فهو لا يهتم بما ورائها، ولا يعمل لذلك، وإنما يبقى كالأنعام يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم‏.‏ والله يقرن الإيمان به بالإيمان باليوم الاخر دائمًا؛ لأن الإيمان بالله ابتداء والإيمان باليوم الاخر انتهاء‏.‏ فتؤمن بالله ثم تعمل لليوم الاخر الذي هو المقر، فهؤلاء - والعياذ بالله - كذبوا بيوم الدين، ومن كذب به لا يمكن أن يعمل له أبدًا؛ لأن العمل مبني على عقيدة، فإذا لم يكن هناك عقيدة فكيف يعمل، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ‏}‏ أي ما يكذب بيوم الدين وينكره ‏{‏إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ‏}‏‏:‏ ‏{‏مُعْتَدٍ‏}‏ في أفعاله ‏{‏أَثِيمٍ‏}‏ في أقواله، وقيل‏:‏ ‏{‏مُعْتَدٍ‏}‏ في أفعاله ‏{‏أَثِيمٍ‏}‏ في كسبه أي أن مآله إلى الإثم، والمعنيان متقاربان فلا يمكن أن يكذب بيوم الدين إلا رجل معتد أثيم، آثم كاسب للاثام التي تؤدي به إلى نار جهنم نعوذ بالله ‏{‏إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا‏}‏ يعني إذا تلاها عليه أحد، وهو يدل على أن هذا الرجل لا يفكر أن يتلو آيات الله ولكنها تتلى عليه فإذا تليت عليه ‏{‏قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ‏}‏ أي هذه أساطير الأولين وأساطير‏:‏ جمع أسطورة وهي الكلام الذي يذكر للتسلي ولا حقيقة له ولا أصل له، فيقول‏:‏ هذا القرآن أساطير الأولين، ولم ينتفع بالقرآن وهو أبلغ الكلام وأشده تأثيرًا على القلب حتى قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 37‏]‏‏.‏ لأنه يكذب بيوم الدين، وما يكذب به إلا كل معتدٍ أثيم، فلم يكن مؤمنًا فلم يصل نور آيات الله عز وجل إلى قلبه، بل يراها مثل أساطير الأولين التي يتكلم بها العجائز وليس لها أي حقيقة وليس فيها أي جد‏.‏ قال الله عز وجل ‏{‏كَلاَّ بَلْ‏}‏ أي ليست أساطير الأولين ولكن هؤلاء ‏{‏رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ أي اجتمع عليها وحجبها عن الحق ‏{‏مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ أي من الأعمال السيئات؛ لأن الأعمال السيئات تحول بين المرء وبين الهدى كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 17‏]‏‏.‏ فمن اهتدى بهدي الله واتبع ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، وصدق بما أخبر الله به، وفعل مثل ذلك فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا شك أن قلبه يستنير وأنه يرى الحق حقًّا، ويرى الباطل باطلًا، ويعظم آيات الله عز وجل، ويرى أنها فوق كل كلام، وأن هدي محمد - صلى الله عليه وسلّم - فوق كل هدي، هذا من أنار الله قلبه بالإيمان، أما من تلطخ قلبه بأرجاس المعاصي وأنجاسها فإنه لا يرى هذه الآيات حقًّا بل لا يراها إلا أساطير الأولين كما في هذه الآية‏.‏ ‏{‏كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ وفي ‏{‏بَلْ‏}‏ سكتة لطيفة عند بعض القراء وعند آخرين لا سكتة فيجوز على هذا أن تقول ‏{‏كَلاَّ بَلْ ‏.‏ رَانَ‏}‏ ويجوز أن تقول‏:‏ ‏{‏كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ وهذه لا تغير المعنى سواء سكتّ أم لم تسكت فالمعنى لا يتغير‏.‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ‏}‏ أي حقًّا إنهم عن ربهم لمحجوبون، وذلك في يوم القيامة فإنهم يحجبون عن رؤية الله عز وجل كما حُجبوا عن رؤية شريعته وآياته فرأوا أنها أساطير الأولين‏.‏ وبهذه الآية استدل أهل السنة والجماعة على ثبوت رؤية الله عز وجل، ووجه الدلالة ظاهر فإنه ما حجب هؤلاء في حال السخط إلا وقد مكن للأبرار من رؤيته تعالى في حال الرضا، فإذا كان هؤلاء محجوبون فإن الأبرار غير محجوبين، ولو كان الحجب لكل منهم لم يكن لتخصيصه بالفجار فائدة إطلاقًا‏.‏ ورؤية الله عز وجل ثابتة بالكتاب، ومتواتر السنة، وإجماع الصحابة والأئمة، لا إشكال في هذا أنه تعالى يُرى حقًّا بالعين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وقد فسر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله تعالى، وكما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 35‏]‏‏.‏ والمزيد هنا هو بمعنى الزيادة في قوله ‏{‏لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏ وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏‏.‏ فإن نفي الإدراك يدل على ثبوت أصل الرؤية، ولهذا كانت هذه الآية مما اسjدل به السلف على رؤية الله، واستدل به الخلف على عدم رؤية الله، ولا شك أن الآية دليل عليهم، لأن الله لم ينف بها الرؤية وإنما نفى الإدراك، ونفي الإدارك يدل على ثبوت أصل الرؤية‏.‏ فالحاصل أن القرآن دل على ثبوت رؤية الله عز وجل حقًّا بالعين، وكذلك جاءت السنة الصحيحة بذلك حيث قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏(‏إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب‏)‏، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته‏)‏، وقد آمن بذلك الصحابة نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة والتابعون لهم بإحسان من سلف هذه الأمة وأئمتها، وأنكر ذلك من حُجبت عقولهم وقلوبهم عن الحق فقالوا‏:‏ إن الله لا يمكن أن يُرى بالعين، وإنما المراد بالرؤية في الآيات هي رؤية القلب أي اليقين، ولا شك أن هذا قول باطل مخالف للقرآن والسنة وإجماع السلف، ثم إن اليقين ثابت لغيرهم أيضًا حتى الفجار يوم القيامة سوف يرون ما وُعدوا به حقًّا ويقينًا، وليس هذا موضع الإطالة في إثبات رؤية الله عز وجل والمناقشة في أدلة الفريقين؛ لأن الأمر ولله الحمد من الوضوح أوضح من أن يطال الكلام فيه، ‏{‏ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ‏}‏ أي هؤلاء الفجار ‏{‏ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ‏}‏ أي يصلونها يصلون حرارتها أو عذابها نسأل الله العافية، ثم يقال تقريعًا لهم وتوبيخًا ‏{‏هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ‏}‏ فيجتمع عليهم العذاب البدني والألم البدني بصلي النار وكذلك العذاب القلبي بالتوبيخ والتنديم حيث يقال‏:‏ ‏{‏هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ‏}‏ ولهذا يقولون يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏‏.‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 28‏]‏‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ‏}‏ هذه الآية يذكر الله عز وجل خبرًا مؤكدا ‏"‏بإن‏"‏ لأن ‏{‏إِنَّ‏}‏ في اللغة العربية من أدوات التوكيد‏.‏ فإنك إذا قلت‏:‏ الرجل قائم، هذا خبر غير مؤكد، فإذا قلت‏:‏ إن الرجل قائم‏.‏ صار خبرًا مؤكدًا فيقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ‏}‏ وهذا مقابل ‏{‏إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ‏}‏ فكتاب الفجار في سجين في أسفل الأرض، وكتاب الأبرار في عليين في أعلى الجنة، أي أنهم في هذا المكان العالي قد كُتب ذلك عند الله عز وجل قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ‏}‏ أي ما الذي أعلمك ما عليون‏؟‏ وهذا الاستفهام يراد به التفخيم والتعظيم‏.‏ يعني أي شيء أدراك به فإنه عظيم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ مَّرْقُومٌ‏}‏ هذا بيان لقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ‏}‏ أي أن كتاب الأبرار كتاب مرقوم مكتوب لا يتغير ولا يتبدل ‏{‏يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ يشهده أي يحضره، أو يشهد به المقربون، و‏{‏الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ عند الله هم الذين تقربوا إلى الله سبحانه وتعالى بطاعته‏.‏ وكلما كان الإنسان أكثر طاعة لله كان أقرب إلى الله‏.‏ وكلما كان الإنسان أشد تواضعًا لله كان أعز عند الله، وكان أرفع عند الله، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فالمقربون هم الذين تقربوا إلى الله تعالى بصالح الأعمال، فقربهم الله من عنده ‏{‏إِنَّ الأَبْرَارَ‏}‏ الأبرار‏:‏ جمع بر، والبر كثير الخير، كثير الطاعة، كثير الإحسـان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله، فهؤلاء الأبرار الذين منّ الله عليهم بفعل الخـيرات، وترك المنكرات ‏{‏لَفِي نَعِيمٍ‏}‏ والنعيم هنا يشمـل نعيم البدن ونعيم القلـب، أمـا نعيم البدن فلا تسأل عنه فإن الله سبحانه وتعالى قال في الجنة‏:‏ ‏{‏وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 71‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وأمـا نعيم القلـب فـلا تسأل عنه أيضًا فإنهم يقال لهم وقد شاهدوا الموت قد ذبح يقال لهم‏:‏ يا أهل الجنة خلود ولا موت ويقال لهم‏:‏ ادخلوها بسلام، ويقال لهم‏:‏ إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا، وأن تصحوا فلا تمرضوا أبدًا، وأن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وكل هذا مما يدخل السرور على القلب فيحصل لهم بذلك نعيم القلب ونعيم البدن، والملائكة يدخون عليهم من كل باب يقولون لهم ‏{‏سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 24‏]‏‏.‏ جعلنا الله منهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلَى الأَرَائِكِ‏}‏ الأرائك جمع أريكة وهي السرير المزخرف المزيّن الذي وَضع عليه مثل الظل، وهو من أفخر أنواع الأسرة فهم على الأرائك على هذه الأسرة الناعمة الحسنة البهية ‏{‏يَنظُرُونَ‏}‏ يعني ينظرون ما أنعم الله به عليهم من النعيم الذي لا تدركه الأنفس الان ‏{‏فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ إن هذا النظر يشمل حتى النظر إلى وجه الله، وجعلوا هذه الآية من الأدلة على ثبوت رؤية الله عز وجل في الجنة ‏{‏تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ‏}‏ أي تعرف أيها الناظر إليهم ‏{‏فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ‏}‏ أي حسن النعيم وبهاءه، أي التنعم، وأنتم تشاهدون الآن في الدنيا أن المنعمين المترفين وجوههم غير وجوه الكادحين العاملين‏.‏ تجدها نضرة، تجدها حسنة، تجدها منعمة، فأهل الجنة تعرف في وجوههم نضرة النعيم أي التنعم والسرور؛ لأنهم أسّر ما يكون، وأنعم ما يكون، ثم قال الله تعالى في بيان ما لهم من النعيم ‏{‏يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ‏}‏ الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏يُسْقَوْنَ‏}‏ يعني الأبرار، يسقيهم الله عز وجل بأيدي الخدم الذين وصفهم الله بقوله‏:‏ ‏{‏يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 17، 19‏]‏‏.‏ ‏{‏يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ‏}‏ أي من شراب خالص لا شوب فيه ولا ضرر فيه على العقل، ولا ألم فيه في الرأس، بخلاف شراب الدنيا فإنه يغتال العقل ويصدع الرأس‏.‏ أما هذا فإنه رحيق خالص ليس فيه أي أذى ‏{‏مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ‏}‏ أي بقيته وآخره مسك أي طيّب الريح‏.‏ بخلاف خمر الدنيا فإنه خبيث الرائحة‏.‏ فهؤلاء القوم الأبرار لما حبسوا أنفسهم عن الملاذ التي حرمها الله عليهم في الدنيا أعطوها يوم القيامة‏.‏ ‏{‏وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ‏}‏ أي وفي هذا الثواب والجزاء ‏{‏فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ‏}‏ أي فليتسابق المتسابقون سباقًا يصل بهم إلى حد النفس، وهو كناية عن السرعة في المسابقة‏.‏ يقال‏:‏ نافسته أي سابقته سباقًا بلغ بي النفس، والمنافسة في الخير هي المسابقة إلى طاعة الله عز وجل وإلى ما يرضي الله سبحانه وتعالى، والبعد عما يسخط الله ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ أي مزاج هذا الشراب الذي يُسقاه هؤلاء الأبرار ‏{‏مِن تَسْنِيمٍ‏}‏‏:‏ أي من عين رفيعة معنى وحسًّا، وذلك لأن أنهار الجنة تفجّر من الفردوس، والفردوس هو أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرب عز وجل كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا الشراب يمزج بهذا الطيب الذي يأتي من التسنيم أي‏:‏ من المكان المسنَّم الرفيع العالي، وهو جنة عدن ‏{‏عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ أي أن هذه العين والمياه النابعة، والأنهار الجارية يشرب بها المقربون‏.‏ وهنا سيقول قائل‏:‏ لماذا قال‏:‏ ‏{‏يَشْرَبُ بِهَا‏}‏‏؟‏ هل هي إناء يُحمل حتى يقال شرب بالإناء‏؟‏ فالجواب‏:‏ لا‏.‏ لأن العين والنهر لا يُحمل‏.‏ إذن لماذا لم يقل يشرب منها المقربون‏؟‏ والجواب عن هذا الإشكال من أحد وجهين‏:‏ فمن العلماء من قال‏:‏ ‏(‏الباء‏)‏ بمعنى ‏(‏من‏)‏ فمعنى ‏{‏يَشْرَبُ بِهَا‏}‏ أي يشرب منها‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ إن يشرب بمعنى يروى ضمّنت معنى يروى فمعنى ‏{‏يَشْرَبُ بِهَا‏}‏ أي يروى بها المقربون‏.‏ وهذا المعنى أو هذا الوجه أحسن من الوجه الذي قبله؛ لأن هذا الوجه يتضمن شيئين يرجحانه وهما‏:‏ أولًا‏:‏ إبقاء حرف الجر على معناه الأصلي‏.‏ والثاني‏:‏ أن الفعل ‏{‏يَشْرَبُ‏}‏ ضمَّن معنى أعلى من الشرب وهو الري، فكم من إنسان يشرب ولا يروى، لكن إذا روي فقد شرب، وعلى هذا فالوجه الثاني أحسن وهو أن يضمّن الفعل ‏{‏يَشْرَبُ بِهَا‏}‏ بمعنى يروى‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا‏}‏ أي قاموا بالجرم وهو المعصية والمخالفة ‏{‏كَانُواْ‏}‏ أي في الدنيا ‏{‏مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ‏}‏ استهزاءًا وسخرية واستصغارًا لهم، ‏{‏وَإِذَا مَرُّواْ‏}‏ الفاعل يصح أن يكون إذا مر المؤمنون بالمجرمين، أو إذا مر المجرمون بالمؤمنين، والقاعدة التي ينبغي أن تفهم في التفسير‏:‏ أن الآية إذا احتملت معنيين لا ينافي أحدهما الاخر وجب حملها على المعنيين؛ لأن ذلك أعم، فإذا جعلناها للأمرين صار المعنى‏:‏ أن المجرمين إذا مروا بالمؤمنين وهم جلوس تغامزوا، وإذا مر المؤمنون بالمجرمين وهم جلوس تغامزوا أيضًا فتكون شاملة للحالين‏:‏ حال مرور المجرمين بالمؤمنين، وحال مرور المؤمنين بالمجرمين‏.‏ ‏{‏يَتَغَامَزُونَ‏}‏ يعني يغمز بعضهم بعضًا، انظر إلى هؤلاء سخرة واستهزاء واستصغارًا‏.‏ ‏{‏وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ‏}‏ إذا انقلب المجرمون إلى أهلهم ‏{‏انقَلَبُواْ فَكِهِينَ‏}‏ يعني متفكهين بما نالوه من السخرية بهؤلاء المؤمنين، فهم يستهزؤن ويسخرون ويتفكهون بهذا، ظنًّا منهم أنهم نجحوا وأنهم غلبوا المؤمنين، ولكن الأمر بالعكس‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ‏}‏ ‏{‏إِذَا رَأَوْهُمْ‏}‏ أي رأى المجرمون المؤمنين ‏{‏قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ‏}‏، ضالون عن الصواب، متأخرون، متزمتون متشددون إلى غير ذلك من الألقاب، ولقد كان لهؤلاء السلف خلف في زماننا اليوم وما قبله وما بعده، من الناس من يقول عن أهل الخير‏:‏ إنهم رجعيون، إنهم متخلفون ويقولون عن المستقيم‏:‏ إنه متشدد متزمت، وفوق هذا كله من قالوا للرسل عليهم الصلاة والسلام إنهم سحرة أو مجانين، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ‏}‏‏.‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 52‏]‏‏.‏ فورثة الرسل من أهل العلم والدين سينالهم من أعداء الرسل ما نال الرسل من ألقاب السوء والسخرية وما أشبه ذلك، ومن هذا تلقيب أهل البدع أهل التعطيل للسلف أهل الإثبات بأنهم حشوية مجسمة مشبهة وما أشبه ذلك من ألقاب السوء التي ينفرون بها الناس عن الطريق السوي ‏{‏وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ‏}‏ أي أن هؤلاء المجرمين ما بعثوا حافظين لهؤلاء يرقبونهم ويحكمون عليهم، بل الحكم لله عز وجل ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ‏}‏ اليوم يعني يوم القيامة، الذين آمنوا يضحكون من الكفار فـ‏{‏الَّذِينَ‏}‏ مبتدأ و‏{‏يَضْحَكُونَ‏}‏ خبره و‏{‏مِنَ الْكُفَّارِ‏}‏ متعلق بيضحكون، والمعنى‏:‏ فالذين آمنوا يضحكون اليوم من الكفار، وهذا والله هو الضحك الذي لا بكاء بعده، أما ضحك المجرمين بالمؤمنين في الدنيا فسيعقبه البكاء والحزن والويل والثبور ‏{‏عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ‏}‏ أي أن المؤمنين على الأرائك في الجنة، والأرائك هي السرر الفخمة الحسنة النضيرة ‏{‏يَنظُرُونَ‏}‏ أي ينظرون ما أعد الله لهم من الثواب، وينظرون أولئك الذين يسخرون بهم في الدنيا، ينظرون إليهم وهم في عذاب الله كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 51 - 54‏]‏‏.‏ يقول لأصحابه في الجنة يعرض عليهم أن يطلعوا إلى قرينه الذي كان في الدنيا ينكر البعث ويكذب به ‏{‏فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ‏}‏ في قعره وأصله قال له‏:‏ ‏{‏تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ‏}‏ فأنت ترى أن المؤمنين يرون الكفار وهم يعذبون في قعر النار والمؤمنون في الجنة‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏{‏ثُوِّبَ‏}‏ أي جوزي، و‏{‏هَلْ‏}‏ هنا للتقرير أي أن الله تعالى قد ثوب الكفار وجازاهم جزاء فعلهم في الدنيا، وهو سبحانه وتعالى حكم عدل‏.‏ فحكمه دائر بين العدل والفضل، بالنسبة للذين آمنوا حكمه وجزاؤه فضل، وبالنسبة للكافرين حكمه وجزاؤه عدل، فالحمد لله رب العالمين، وبهذا تم الكلام الذي يسره الله عز وجل على سورة المطففين نسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم به، وأن يجعلنا من المتعظين الواعظين‏.‏ إنه جواد كريم‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:25 PM   المشاركة رقم: 12
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة الانشقاق



‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ‏}‏ انشقت‏:‏ انفتحت وانفرجت كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 39‏]‏‏.‏ إذًا فانشقاقها يوم القيامة‏.‏ ‏{‏وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا‏}‏ أذنت‏:‏ بمعنى استمعت وأطاعت أمر ربها عز وجل أن تنشق فانشقت بينما هي كانت كما وصفها الله تعالى ‏{‏سَبْعًا شِدَادًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 12‏]‏‏.‏ قوية كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏‏.‏ أي بقوة فهذه السماء القوية العظيمة تنشق يوم القيامة تتشقق تتفرج بإذن الله سبحانه وتعالى ‏{‏وَحُقَّتْ‏}‏ أي حق لها أن تأذن، أي تسمع وتطيع؛ لأن الذي أمرها الله ربها خالقها عز وجل، فتسمع وتطيع، كما أنها سمعت وأطاعت في ابتداء خلقها، ففي ابتداء خلقها قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فتأمل أيها الادمي البشر الضعيف كيف كانت هذه المخلوقات العظيمة تسمع وتطيع لله عز وجل، هذه الطاعة العظيمة في ابتداء الخلق وفي انتهاء الخلق‏.‏ في ابتداء الخلق قال‏:‏ ‏{‏اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ في انتهاء الخلق ‏{‏إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ‏}‏ حُق لها أن تأذن تسمع وتطيع‏.‏ ثم أعاد قال‏:‏ ‏{‏وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ‏}‏ تأكيدًا لاستماعها لربها وطاعتها لربها‏.‏ ‏{‏وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ‏}‏ هذه الأرض التي نحن عليها الان هي غير ممدودة، أولًا‏:‏ أنها كرة مدورة، وإن كانت جوانبها الشمالية والجنوبية منفتحة قليلًا - أي ممتدة قليلًا - فهي مدورة الان، ثانيًا‏:‏ ثم هي أيضًا معرجة فيها المرتفع جدًا، وفيها المنخفض، فيها الأودية، فيها السهول، فيها الرمال، فهي غير مستوية لكن يوم القيامة ‏{‏وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ‏}‏ أي تمد مدًّا واحدًا كمد الأديم يعني كمد الجلد، كأنما تفرش جلدًا أو سماطًا، تُمد حتى إن الذين عليها - وهم الخلائق - يُسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، لكن الان لا ينفذهم البصر، لو امتد الناس على الأرض لوجدت البعيدين منخفضين لا تراهم لكن يوم القيامة إذا مُدت صار أقصاهم مثل أدناهم كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏يجمع الله تعالى يوم القيامة الأولين والاخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، وينفُذُهُم البصر‏)‏‏.‏ ‏{‏وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ‏}‏ أي جثث بني آدم تلقيها يوم القيامة، تلقي هذه الجثث فيخرجون من قبورهم لله عز وجل، كما بدأهم أول خلق، أي كما خرجوا من بطون أمهاتهم يخرجون من بطون الأرض، وأنت خرجت من بطن أمك حافيًا، عاريًا، أغرل إلا أن بعض الناس قد يخلق مختونًا لكن عامة الناس يخرجون من بطون أمهاتهم غرلًا كذلك تخرج من بطن الأرض يوم القيامة حافيًا ليس عليك نعال، عاريًا ليس عليك كساء، أغرل لست مختونًا، ولما حدّث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك قالت عائشة‏:‏ ‏(‏يا رسول الله‏:‏ الرجال والنساء جميعًا، ينظر بعضهم إلى بعض‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض‏)‏، الأمر شديد، كل إنسان لاهٍ عن نفسه ‏{‏لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 37‏]‏‏.‏ والإنسان إذا تصور الناس في ذلك الوقت مجرد تصور فإنه يرتعب ويخاف، وإذا كان عاقلًا مؤمنًا عمل لهذا اليوم، ‏{‏وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ‏}‏ أذنت يعني استمعت وأطاعت لربها وحقت فبعد أن كانت مدورة فيها المرتفع والنازل صارت كأنها جلد ممتدة امتدادًا واحدًا‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا‏}‏ الكادح‏:‏ هو الساعي بجد ونوع مشقة وقوله‏:‏ ‏{‏إِلَى رَبِّكَ‏}‏ يعني أنك تكدح كدحًا يوصلك إلى ربك، كدحًا يوصل إلى الله، يعني أن منتهى كدحك مهما كنت ينتهي إلى الله، لأننا سنموت وإذا متنا رجعنا إلى الله عز وجل، فمهما عملت فإن المنتهى هو الله عز وجل ‏{‏وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 42‏]‏‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا‏}‏ حتى العاصي كادح كادحًا غايته الله عز وجل ‏{‏إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 25، 26‏]‏‏.‏ لكن الفرق بين المطيع والعاصي‏:‏ أن المطيع يعمل عملًا يرضاه الله، يصل به إلى مرضاة الله يوم القيامة، والعاصي يعمل عملًا يغضب الله، لكن مع ذلك ينتهي إلى الله عز وجل إذًا قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ‏}‏ يعم كل إنسان مؤمن وكافر ‏{‏إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ‏}‏ الفاء يقول النحويون‏:‏ إنها تدل على الترتيب والتعقيب، يعني، فأنت ملاقيه عن قرب ‏{‏إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 134‏]‏‏.‏ وكل آت قريب ‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وإذا شئت أن يتبين لك أن ملاقاة الرب عز وجل قريبة فانظر ما مضى من عمرك الان، لو مضى لك مئة سنة كأنما هذه السنوات ساعة واحدة‏.‏ كل الذي مضى من أعمارنا كأنه ساعة واحدة‏.‏ إذًا هو قريب، ثم إذا مات الإنسان، فالبرزخ الذي بين الحياة الدنيا والاخرة قريب قريب كاللحظة، والإنسان إذا نام نومًا هادئًا ولنقل نام أربعًا وعشرين ساعة، وقام فإنه يقدر النوم بدقيقة واحدة مع أنه نام أربعًا وعشرين ساعة، فإذا كان هذا في مفارقة الروح في الحياة يمضي الوقت بهذه السرعـة، فما بالك إذا كانت الروح بعد خروجها من البدن مشغولـة إما بنعيم أو جحيم، ستمر السنوات على الإنسان كأنها لا شيء، لأن امتداد الزمن في حال يقظتنا ليس كامتداد الزمن في حال نومنا، فالإنسان المستيقظ من طلوع الشمس إلى زوال الشمس مسافة يحس بأن الوقت طويل، لكن لو كان نائمًا ما كأنها شيء، والذي أماته الله مئة عام ثم بعثه ‏{‏قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏‏.‏ وأصحاب الكهف لبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وتسع سنين، فلما بُعثوا قال بعضهم لبعض‏:‏ كم لبثتم‏؟‏ قالوا‏:‏ لبثنا يومًا أو بعض يوم، وهذا يدل على أن الإنسان يتعجب كيف تذهب السنوات على هؤلاء الأموات‏؟‏ نقول نعم، السنوات ما كأنها إلا دقيقة واحدة، لأن حال الإنسان بعد أن تفارق الروح بدنه سواء كانت مفارقة كلية أو جزئية غير حاله إذا كانت الروح في البدن، فإذا كانت الروح في البدن يعاني من المشقة والمشاكل والهواجيس والوساوس أشياء تطيل عليه الزمن، لكن في النوم يتقلص الزمن كثيرًا، في الموت يتقلص أكثر وأكثر، فهؤلاء الذين ماتوا منذ سنين طويلة كأنهم لم يموتوا إلا اليوم لو بعثوا لقيل لهم كم لبثتم‏؟‏ قالوا‏:‏ لبثنا يومًا أو بعض يوم، وهذه مسألة قد يرد على الإنسان فيها إشكال، ولكن لا إشكال في الموضوع مهما طالت المدة بأهل القبور فإنها قصيرة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَمُلاقِيهِ‏}‏ أي ‏(‏بالفاء‏)‏ الدالة على الترتيب والتعقيب، وما أسرع أن تلاقي الله عز وجل‏.‏ ثم قسم الله عز وجل الناس عند ملاقاته تعالى إلى قسمين‏:‏ منهم من يأخذ كتابه بيمينه، ومنهم من يأخذ كتابه من وراء ظهره، ‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا‏}‏ لما ذكر أن الإنسان كادح إلى ربه ‏{‏كَدْحًا‏}‏ أي عامل بجد ونشاط وأن عمله هذا ينتهي إلى الله عز وجل كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏‏.‏ لما ذكر هذا قال‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ‏}‏، إشارة إلى أن هؤلاء العاملين منهم من يؤتى كتابه بيمينه، ومنهم من يؤتى كتابه من وراء ظهره ‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ‏}‏ و‏{‏أُوتِيَ‏}‏ هنا فعل مبني لما لم يسم فاعله، فمن الذي يؤتيه‏؟‏ يحتمل أنه الملائكة، أو غير ذلك لا ندري، المهم أنه يعطى كتابه بيمينه أي يستلمه باليمنى‏.‏ ‏{‏فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا‏}‏ أي يحاسبه الله تعالى بإحصاء عمله عليه، لكنه حساب يسير، ليس فيه أي عسر كما جاءت بذلك السنة‏:‏ أن الله عز وجل يخلو بعبده المؤمن، ويقرره بذنوبه، فيقول‏:‏ عملت كذا، عملت كذا، عملت كذا، ويقر بذلك ولا ينكر فيقول الله تعالى‏:‏ ‏(‏قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم‏)‏، ولا شك أن هذا حساب يسير يظهر فيه منّة الله على العبد، وفرحه بذلك واستبشاره‏.‏ والمحاسب له هو الله عز وجل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 25، 26‏]‏‏.‏ ‏{‏وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا‏}‏ ينقلب من الحساب إلى أهله في الجنة مسرورًا، أي مسرور القلب، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم هم بعد ذلك درجات، وهذا يدل على سرور القلب؛ لأن القلب إذا سُر استنار الوجه ‏{‏وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا‏}‏ هؤلاء هم الأشقياء والعياذ بالله، يؤتى كتابه وراء ظهره وليس عن يمينه، وفي الآية الأخرى في سورة الحاقة ‏{‏وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 25‏]‏‏.‏ فقيل‏:‏ إن من لا يؤتى كتابه بيمينه ينقسم إلى قسمين‏:‏ منهم من يؤتى كتابه بالشمال، ومنهم من يؤتى كتابه وراء ظهره، والأقرب والله أعلم أنه يؤتى كتابه بالشمال، ولكن تلوى يده حتى تكون من وراء ظهره، إشارة إلى أنه نبذ كتاب الله وراء ظهره، فيكون الأخذ بالشمال ثم تلوى يده إلى الخلف إشارة إلى أنه قد ولى ظهره كتاب الله عز وجل ولم يبال به، ولم يرفع به رأسًا، ولم ير بمخالفته بأسًا‏.‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا‏}‏ أي يدعو على نفسه بالثبور، يقول‏:‏ واثبوراه يا ويلاه، وما أشبه ذلك من كلمات الندم والحسرة، ولكن هذا لا ينفع في ذلك اليوم؛ لأنه انتهى وقت العمل فوقت العمل، هو في الدنيا، أما في الاخرة فلا عمل وإنما هو الجزاء ‏{‏وَيَصْلَى سَعِيرًا‏}‏ أي يصلى النار التي تسعر به ويكون مخلدًا فيها أبدًا، لأنه كافر ‏{‏إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا‏}‏ إنه كان في الدينا في أهله مسرورًا، ولكن هذا السرور أعقبه الندم والحزن الدائم المستمر، واربط بين قوله تعالى فيمن أوتي كتابه بيمينه ‏{‏وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا‏}‏، وهذا ‏{‏كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا‏}‏ تجد فرقًا بين السرورين، فسرور الأول سرور دائم - نسأل الله أن يجعلنا منهم - وسرور الثاني سرور زائل، ذهب ‏{‏كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا‏}‏ أما الان فلا سرور عنده ‏{‏إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ‏}‏ أي‏:‏ ألا يرجع بعد الموت، ولهذا كانوا ينكرون البعث ويقولون لا بعث، ويقولون‏:‏ من يحيي العظام وهي رميم ‏{‏إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ‏}‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَلَى‏}‏ أي سيحور ويرجع ‏{‏إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا‏}‏ يعني أنه سيرجع إلى الله عز وجل الذي هو بصير بأعماله، وسوف يحاسبه عليها على ما تقتضيه حكمته وعدله‏.‏

‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏‏.‏

‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ‏}‏‏.‏ هذه الجملة مكونة من قسم، ومُقسم به، ومقسم عليه، ومُقسِم، فالقسم في قوله‏:‏ ‏{‏لا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ‏}‏ قد يظن الظان أن معنى ‏{‏لا أُقْسِمُ‏}‏ نفي، وليس كذلك بل هو إثبات و‏{‏لا‏}‏ هنا جيء بها للتنبيه، ولو حذفت في غير القرآن لاستقام الكلام ولها نظائر مثل ‏{‏لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ‏}‏‏.‏ ‏{‏لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏‏.‏ ‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ‏}‏‏.‏ ‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ‏}‏‏.‏ وكلها يقول العلماء‏:‏ إن ‏(‏لا‏)‏ فيها للتنبيه، وأن القسم مثبت، أما المقسِم فهو الله عز وجل فهو مُقْسِم ومُقْسَم به، فهو سبحانه مقسم، أما المقسَم به في هذه الآية فهو الشفق وما عطف عليه‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ لماذا يقسم الله على خبره وهو سبحانه الصادق بلا قسم‏؟‏ وكذلك يقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خبره وهو صادق بلا قسم‏؟‏ قلنا‏:‏ إن القسم يؤكد الكلام، والقرآن الكريم نزل باللسان العربي وإذا كان من عادتهم أنهم يؤكدون الكلام بالقسم صار هذا الأسلوب جاريًا على اللسان العربي الذي نزل به القرآن‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بِالشَّفَقِ‏}‏ الشفق هو الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس‏.‏ وإذا غابت هذه الحمرة خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء، هذا قول أكثر العلماء وبعضهم قال إذا غاب البياض وهو يغيب بعد الحمرة بنحو نصف ساعة، لكن الذي عليه الجمهور، ويقال‏:‏ إن أبا حنيفة رحمه الله رجع إليه‏:‏ هو أن الشفق هو الحمرة وإذا غاب هذا الشفق فإنه يدخل وقت العشاء ويخرج وقت المغرب ‏{‏وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ‏}‏ هذا أيضًا مقسم به معطوف على الشفق، يعني وأقسم بالليل وما وسق وهذان قسمان ‏{‏وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ‏}‏ الليل معروف ‏{‏وَمَا وَسَقَ‏}‏ أي ما جمع، لأن الليل يجمع الوحوش والهوام وما أشبه ذلك، تجتمع وتخرج وتبرز من جحورها وبيوتها، وكذلك ربما يشير إلى اجتماع الناس بعضهم إلى بعض‏.‏ ‏{‏وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ‏}‏ القمر معروف‏.‏ ومعنى ‏{‏إِذَا اتَّسَقَ‏}‏ يعني إذا جتمع نوره وتم وكمل، وذلك في ليالي الإبدار‏.‏ فأقسم الله عز وجل بـ ‏{‏اللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ‏}‏ أي ما جمع‏.‏ وبالقمر لأنه آية الليل، ثم قال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ‏}‏ والخطاب هنا لجميع الناس، أي لتركبن حالًا عن حال، وهو يعني أن الأحوال تتغير فيشمل أحوال الزمان، وأحوال المكان، وأحوال الأبدان، وأحوال القلوب‏:‏ الأول‏:‏ أحوال الزمان تتنقل ‏{‏وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 140‏]‏‏.‏ فيوم يكون فيه السرور والانشراح وانبساط النفس، ويوم آخر يكون بالعكس، حتى إن الإنسان ليشعر بهذا من غير أن يكون هناك سبب معلوم، وفي هذا يقول الشاعر‏:‏ ويوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر وهذا شيء يعرفه كل واحد بنفسه تصبح اليوم فرحًا مسرورًا وفي اليوم الثاني بالعكس بدون سبب لكن هكذا لابد أن الإنسان يركب طبقًا عن طبق‏.‏ الثاني‏:‏ الأمكنة ينزل الإنسان هذا اليوم منزلًا، وفي اليوم التالي منزلًا آخر، وثالثًا ورابعًا إلى أن تنتهي به المنازل في الاخرة، وما قبل الاخرة وهي القبور هي منازل مؤقتة‏.‏ القبور ليست هي آخر المنازل بل هي مرحلة‏.‏ وسمع أعرابي رجلًا يقرأ قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ‏}‏ فقال الأعرابي‏:‏ ‏"‏والله ما الزائر بمقيم‏"‏ فالأعرابي بفطرته عرف أن وراء هذه القبور شيئًا يكون المصير إليه، لأنه كما هو معلوم الزائر يزور ويمشي، وبه نعرف أن ما نقرؤه في الجرائد ‏"‏فلان توفي ثم نقلوه إلى مثواه الأخير‏"‏ أن هذه الكلمة غلط كبير ومدلولها كفر بالله عز وجل كفر باليوم الآخر، لأنك إذا جعلت القبر هو المثوى الأخير فهذا يعني أنه ليس بعده شيء، والذي يرى أن القبر هو المثوى الأخير وليس بعده مثوى، كافر، فالمثوى الأخير إما جنة وإما نار‏.‏ الثالث‏:‏ الأبدان يركب الإنسان فيها طبقًا عن طبق واستمع إلى قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 54‏]‏‏.‏ أول ما يخلق الإنسان طفلًا صغيرًا يمكن أن تجمع يديه ورجليه بيد واحدة منك وتحمله بهذه اليد ضعيفًا، ثم لايزال يقوى رويدًا رويدًا حتى يكون شابًا جلدًا قويًا، ثم إذا استكمل القوة عاد فرجع إلى الضعف، وقد شبه بعض العلماء حال البدن بحال القمر يبدو هلالًا ضعيفًا، ثم يكبر شيئًا فشيئًا حتى يمتلىء نورًا، ثم يعود ينقـص شيئـًا فشيئًا حتى يضمحل، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة‏.‏ الرابع‏:‏ حال القلوب وما أدراك ما أحوال القلوب‏؟‏‏!‏ أحوال القلوب هي النعمة وهي النقمة، القلوب كل قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، فإن شاء أزاغه وإن شاء هداه، ولما حدّث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا الحديث قال‏:‏ ‏(‏اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك‏)‏، فالقلوب لها أحوال عجيبة، تارة يتعلق القلب بالدنيا، وتارة يتعلق بشيء من الدنيا، تارة يتعلق بالمال ويكون المال أكبر همه، تارة يتعلق بالنساء وتكون النساء أكبر همه، تارة يتعلق بالقصور والمنازل ويكون ذلك أكبر همه، تارة يتعلق بالمركوبات والسيارات ويكون ذلك أكبر همه، تارة يكون مع الله عز وجل دائمًا مع الله يتعلق بالله سبحانه وتعالى، ويرى أن الدنيا كلها وسيلة إلى عبادة الله، وإلى طاعة الله، فيستخدم الدنيا؛ لأنها خلقت له ولا تستخدمه الدنيا‏.‏ وأصحاب الدنيا هم الذين يخدمونها، هم الذين أتعبوا أنفسهم في تحصيلها‏.‏ لكن أصحاب الاخرة هم الذين استخدموا الدنيا وخدمتهم الدنيا، ولذلك لا يأخذونها إلا عن طريق رضى الله، ولا يصرفونها إلا في رضى الله عز وجل، فاستخدموها أخذًا وصرفًا، لكن أصحاب الدنيا الذين تعبوا بها سهروا الليالي يراجعون الدفاتر، يراجعون الشيكات، يراجعون المصروفات، يراجعون المدفوعات، يراجعون ما أخذوا وما صرفوا، هؤلاء في الحقيقة استخدمتهم الدنيا ولم يستخدموها، لكن الرجل المطمئن الذي جعل الله رزقه كفافًا يستغني به عن الناس، ولا يشقى به عن طاعة الله، هذا هو الذي خدمته الدنيا، هذه أحوال القلوب، وأحوال القلوب هي أعظم الأحوال الأربع، ولهذا يجب علينا جميعًا أن نراجع قلوبنا كل ساعة كل لحظة أين صرفت أيها القلب‏؟‏ أين ذهبت‏؟‏ لماذا تنصرف عن الله‏؟‏ لماذا تلتفت يمينًا وشمالًا‏؟‏ ولكن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وغلب على كثير من الناس، حتى إنه ليصرف الإنسان عن صلاته التي هي رأس ماله بعـد الشهادتين فتجده إذا دخل في صلاته ذهب قلبه يمينًا وشمالًا، حتى يخرج من صلاته ولم يعقل منها شيئًا، والناس يصيحون يقولون صلاتنا لا تنهانا عن الفحشاء والمنكر أين وعد الله‏؟‏ فيقال‏:‏ يا أخي هل صلاتك صلاة إذا كنت من حين تكبر تفتح لك باب الهواجيس التي لا نهاية لها، فهل أنت مصل‏؟‏ صليت بجسمك لكن لم تصل بقلبك، وقد جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏)‏إنه ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها نصفها، ربعها، ثلثها، عشرها، خمسها‏)‏ حسب ما تعقل منها، إذًا فالقلوب تركب طبقًا عن طبق ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ‏}‏ ‏{‏مَا لَهُمْ‏}‏ أي شيء يمنعهم من الإيمان، وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الاخر وأنفقوا مما رزقهم الله، أي شيء يمنعهم من الإيمان، وأي شيء يضرهم إذا آمنوا، قال مؤمن آل فرعون‏:‏ ‏{‏أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 28‏]‏‏.‏ فأي شيء على الإنسان إذا آمن‏؟‏ ولهذا قال موبخًا لهم‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ‏}‏ أي لا يخضعون لله عز وجل فالسجود هنا بمعنى الخضوع لله، وإن لم تسجد على الأرض لكن يسجد القلب ويلين ويذل إن كان الأمر كذلك فأنت من المؤمنين ‏{‏وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وإن لم يكن قلبك كذلك ففيك شبهٌ من المشركين الذين إذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون، ومن علامات الخضوع لله عز وجل عند قراءة القرآن أن الإنسان إذا قرأ آية سجدة سجد لله ذلًا له وخضوعًا، وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب سجود التلاوة‏.‏ وقال‏:‏ إن الإنسان إذا مر بآية سجدة ولم يسجد كان آثمًا‏.‏ والصحيح‏:‏ أنها ليست بواجبة وإن كان هذا القول أعني القول بالوجوب هو مذهب أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لكن هذا قول مرجوح، وذلك أنه ثبت في الصحيح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة - أنه خطب الناس يومًا فقرأ سورة النحل فلما وصل آية السجدة نزل من المنبر فسجد، ثم قرأها من الجمعة الثانية فمر بها ولم يسجد فقال نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة‏:‏ إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء، وكان ذلك بمحضر من الصحابة - نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة - ولم يُنكر عليه أحد‏.‏ وسنته نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة من السنن التي أُمرنا باتباعها، وعلى هذا فالقول الراجح أن سجود التلاوة ليس بواجب، لكنه سنة مؤكدة، فإذا مررت بآية سجدة فاسجد في أي وقت كنت في الصباح، أو في المساء، في الليل، أو في النهار، تكبر عند السجود، وإذا رفعت فلا تكبر ولا تسلم هذا إذا سجدت خارج الصلاة، أما إن سجدت في الصلاة فلابد أن تكبر إذا سجدت، وأن تكبر إذا نهضت؛ لأنها لما كانت في الصلاة كان لها حكم السجود في الصلاة‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ‏}‏ لما ذكر سبحانه وتعالى أنهم إذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون بيّـن سبحانه وتعالى أن سبب تركهم السجود هو تكذيبهم بما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، لأن كل من كان إيمانه صادقًا فلا بد أن يمتثل الأمر، وأن يجتنب النهي، لأن الإيمان الصادق يحمل صاحبه على ذلك، ولا تجد شخصًا ينتهك المحارم أو يترك الواجبات إلا بسبب ضعف إيمانه، ولهذا كان الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان، فمتى رأيت الرجل يترك الواجبات، أو بعضًا منها، أو يفعل المحرمات فاعلم أن إيمانه ضعيف إذ لو كان إيمانه قويًا ما أضاع الواجبات ولا انتهك المحظورات، ولهذا قال تعالى هنا‏:‏ ‏{‏بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ‏}‏ أي في تركهم السجود كان ذلك بسبب تكذيبهم لما جاءت به الرسل ‏{‏وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ‏}‏ أي أنه سبحانه وتعالى أعلم بما يوعونه أي بما يجمعونه في صدورهم، وما يجمعونه من أموالهم، وما يجتمعون عليه من منابذة الرسل ومخالفة الرسل، بل محاربة الرسل وقتالهم، والكفار أعداء للرسل من حين بعث الله الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنهم يجمعون لهم ويكيدون لهم فتوعدهم الله تعالى في هذه الآية ‏{‏وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ‏}‏ أي بما يجمعون من أقوال، وأفعال، وضغائن، وعداوات، وأموال ضد الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم قال‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ أخبرهم بالعذاب الأليم الذي لابد أن يكون، والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْهُم‏}‏ عام للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكل من يصح خطابه فإنه داخل في هذا، وأن نبشر كل كافر بعذاب أليم، فنحن نبشر كل كافر بعذاب أليم ينتظره، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 30‏]‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ ‏{‏إِلاَّ‏}‏ هذه بمعنى لكن ولا تصح أن تكون استثناء متصلًا، لأن الذين آمنوا ليسوا من المكذبين في شيء، بل هم مؤمنون مصدقون، وهذا هو الاستثناء المنقطع، أي إذا كان المستثنى ليس من جنس المستنثى منه فهو استثناء منقطع وتقدر ‏{‏إِلاَّ‏}‏ بـ‏(‏لكن‏)‏ أي لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غير ممنون‏.‏ الذين آمنوا بقلوبهم، واستلزم إيمانهم قيامهم بالعمل الصالح، هؤلاء هم الذين ليس لهم عذاب ولا ينتظرون العذاب لهم أجر غير ممنون‏.‏ فإن قيل‏:‏ ما هو العمل الصالح‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن العمل الصالح ما جمع شيئين‏:‏ الأول‏:‏ الإخلاص لله تعالى بأن يكون الحامل على العمل هو الإخلاص لله عز وجل ابتغاء مرضاته، وابتغاء ثوابه، وابتغاء النجاة من النار لا يريد الإنسان بعمله شيئًا من الدنيا‏.‏ الثاني‏:‏ أن يكون متبعًا فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أي أن يتبع الإنسان رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - في عمله فعلًا لما فعل، وتركًا لما ترك‏.‏ فما فعله النبي - صلى الله عليه وسلّم - مع وجود سببه فالسنة فعله إذا وجد سببه‏.‏ وما وجد سببه في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفعله فإن السنة تركه‏.‏ ‏{‏لَهُمْ أَجْرٌ‏}‏ أي ثواب ‏{‏غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ أي غير مقطوع، بل هو مستمر أبد الابدين، والآيات في تأبيد الجنة كثيرة معلومة في الكتاب والسنة، فأجر الاخرة لا ينقطع أبدًا، ليس كالدنيا فيه وقت تثمر الأشجار ووقت لا تثمر، أو وقت تنبت الأرض ووقت لا تنبت، والجنة الأجر فيها دائم، ‏{‏وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا‏}‏ نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المؤمنين العاملين بالصالحات، المجتنبين للسيئات، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:28 PM   المشاركة رقم: 13
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة البروج


‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ‏}‏ الواو هذه حرف قسم يعني يقسم تعالى بالسماء ‏{‏ذَاتِ الْبُرُوجِ‏}‏ أي صاحبة البروج، والبروج جمع برج، وهو المجموعة العظيمة من النجوم وسميت بروجًا لعلوها وارتفاعها وظهورها وبيانها، والبروج عند الفلكيين اثني عشر برجًا جمعت في قول الناظم‏:‏ حملٌ فثور فجوزاء فسرطان فأسدٌ سنبلة ميزانفعقربٌ قوسٌ فجدي وكـ ذا دلو وذي آخرها الحيتان فهي اثنا عشر برجًا، ثلاثة منها للربيع، وثلاثة للصيف، وثلاثة للخريف، وثلاثة للشتاء، فيقسم الله تعالى بالسماء ذات البروج وله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، أما نحن فلا نقسم إلا بالله بأسمائه وصفاته، ولا نقسم بشيء من المخلوقات لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏(‏من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت‏)‏ ولقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك‏)‏، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ‏}‏ اليوم الموعود هو يوم القيامة، وعد الله تعالى به وبينه في كتابه، ونصب عليه الأدلة العقلية التي تدل على أنه واقع حتمًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏ ‏{‏وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ‏}‏ ذكر علماء التفسير في الشاهد والمشهود عدة أقوال يجمعها أن الله أقسم بكل شاهد وبكل مشهود، والشهود كثيرون منهم محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهيدًا علينا، ومنهم هذه الأمة شهداء على الناس، وأعضاء الإنسان يوم القيامة تشهد عليه بما عمل من خير وشر، ومن الملائكة يشهدون يوم القيامة فكل من شهد بحق فهو داخل في قوله ‏{‏وَشَاهِدٍ‏}‏ وأما ‏"‏المشهود‏"‏ فهو يوم القيامة وما يعرض فيه من الأهوال العظيمة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 103‏]‏‏.‏ فأقسم الله بكل شاهد وبكل مشهود‏.‏ ‏{‏قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ‏}‏ ‏{‏قُتِلَ‏}‏ يعني أهلك، وقيل‏:‏ القتل هنا بمعنى اللعن، وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، و‏{‏أَصْحَابُ الأُخْدُودِ‏}‏ هم قوم كفار أحرقوا المؤمنين بالنار، وقد وردت قصص متعددة في هؤلاء القوم منها شيء في الشام، ومنها شيء في اليمن، والمقصود أن هؤلاء الكفار حاولوا بالمؤمنين أن يرتدوا عن دينهم، ولكنهم عجزوا فحفروا أخدودًا حُفرًا ممدودة في الأرض كالنهر وجمعوا الحطب الكثير وأحرقوا المؤمنين بها - والعياذ بالله - ولهذا قال‏:‏ ‏{‏النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ‏}‏ يعني أن الأخدود هي أخدود النار‏.‏ ‏{‏ذَاتِ الْوَقُودِ‏}‏ أي الحطب الكثير المتأجج‏.‏ ‏{‏إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ‏}‏ يعني أن هؤلاء الذين حفروا الأخاديد وألقوا فيها المؤمنين كانوا - والعياذ بالله - عندهم قوة وجبروت يرون النار تلتهم هؤلاء البشر وهم قعود عليها على الأسرة، فكهون كأن شيئًا لم يكن، وهذا من الجبروت أن يرى الإنسان البشر تلتهمه النار وهو جالس على سريره يتفكه بالحديث ولا يبالي‏.‏ ‏{‏وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ‏}‏ يعني هم شهود على ما يفعلون بالمؤمنين أي حضور لا يغيب عنهم ما فعلوه بالمؤمنين، ولذلك استحقوا هذا الوعيد، بل استحقوا هذه العقوبة أن الله أهلكهم ولعنهم وطردهم وأبعدهم عن رحمته‏.‏ ‏{‏وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ أي ما أنكر هؤلاء الذين سعروا النار بأجساد هؤلاء المؤمنين إلا هذا، أي‏:‏ إلا أنهم آمنوا بالله عز وجل ‏{‏إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ وهذا الإنكار أحق أن ينكر؛ لأن المؤمن بالله العزيز الحميد يجب أن يساعد ويعان، وأن تسهل له الطرق، أما أن يمنع ويردع حتى يصل الحد إلى أن يحرق بالنار فلا شك أن هذا عدوان كبير، وليس هذا بمنكر عليهم، بل هم يحمدون على ذلك؛ لأنهم عبدوا من هو أهل للعبادة، وهو الله جل وعلا، الذي خلق الخلق ليقوموا بعبادته، فمن قام بهذه العبادة فقد عرف الحكمة من الخلق وأعطاها حقها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ العزيز هو الغالب الذي لا يغلبه شيء، فهو سبحانه وتعالى له الغلبة والعزة على كل أحد، ولما قال المنافقون‏:‏ ‏{‏لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ‏}‏ قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الْحَمِيدِ‏}‏ بمعنى المحمود فالله سبحانه وتعالى محمود على كل حال وكان من هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه إذا جاءه ما يُسر به قال‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات‏)‏، وإذا جاءه خلاف ذلك قال‏:‏ ‏(‏الحمد لله على كل حال‏)‏، وهذا هو الذي ينبغي للإنسان أن يقول عند المكروه ‏(‏الحمد لله على كل حال‏)‏ أما ما يقوله بعض الناس ‏(‏الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه‏)‏ فهذا خلاف ما جاءت به السنة به، قل كما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏الحمد لله على كل حال‏)‏ أما أن تقول‏:‏ ‏(‏الذي لا يحمد على مكروه سواه‏)‏ فكأنك الان تعلن أنك كاره ما قدر الله عليك، وهذا لا ينبغي، بل الواجب أن يصبر الإنسان على ما قدر الله عليه مما يسوؤه أو يُسره، لأن الذي قدره الله عز وجل هو ربك وأنت عبده، هو مالكك وأنت مملوك له، فإذا كان الله هو الذي قدر عليك ما تكره فلا تجزع، يجب عليك الصبر وألا تتسخط لا بقلبك ولا بلسانك ولا بجوارحك، اصبر وتحمل والأمر سيزول ودوام الحال من المحال، قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا‏)‏، فالله عز وجل محمود على كل حال من السراء أو الضراء؛ لأنه إن قدر السراء فهو ابتلاء وامتحان، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏‏.‏ ولما رأى سليمان عرش بلقيس بين يديه قال‏:‏ ‏{‏هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 40‏]‏‏.‏ فإذا أصبت بالنعمة لا تأخذها على أنها نعمة فتمرح وتفرح، هي نعمة لا شك لكن اعلم أنك ممتحن بها هل تؤدي شكرها أو لا تؤدي، إن أصابتك ضراء فاصبر فإن ذلك أيضًا ابتلاء وامتحان من الله عز وجل ليبلوك هل تصبر أو لا تصبر، وإذا صبرت واحتسبت الأجر من الله فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون معنى قوله‏:‏ ‏{‏الْحَمِيدِ‏}‏ أنه هو الحامد، فإنه سبحانه وتعالى يحمد من يستحق الحمد، يثني على عباده من المرسلين والأنبياء والصالحين، والثناء عليهم حمدٌ لهم، فهو جل وعلا حامد، وهو كذلك محمود، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن الله يرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها، لأنه لولا أن الله يسر لك هذه الأكلة والشربة ما حصلت عليها، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 64‏]‏‏.‏ الله يسألنا، أنتم تزرعونه أم نحن الزارعون‏؟‏ الجواب‏:‏ بل أنت يا ربنا ‏{‏لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا‏}‏ بعد أن يخرج وتتعلق به النفوس يجعله الله حطامًا، ولم يأت التعبير ‏"‏لو نشاء لم ننبته‏"‏ لأن كونه ينبت وتتعلق به النفس ثم يكون حطامًا أشد وقعًا على النفس من كونه لا ينبت أصلًا ‏{‏لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ‏}‏ ثم ذكر الشرب فقال‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ‏}‏ الجواب‏:‏ بل أنت يا ربنا ‏{‏لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا‏}‏ أي مالحًا غير عذب لا يستطيع الإنسان أن يشربه ‏{‏فَلَوْلا تَشْكُرُونَ‏}‏ يعني فهلا تشكرون الله على ذلك، وهنا لم يأت التعبير ‏"‏لو نشاء لم ننزله من المزن‏"‏، لأن كونه ينزل ولكن لا يشرب لا يطاق أشد من كونه لم ينزل أصلًا فتأملوا القرآن الكريم تجدون فيه من الأسرار والحكم الشيء الكثير‏.‏ ‏{‏وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏{‏الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ له وحده ملك السماوات والأرض، لا يملكها إلا هو عز وجل، فهو يملك السماوات ومن فيها، والأراضين ومن فيها، وما بينهما، وما فيها كل شيء ملك لله ولا يشاركه أحد في ملكه، وما يضاف إلينا من الملك فيقال‏:‏ مثلًا هذا البيت ملك لفلان، هذه السيارة ملك لفلان فهو ملك قاصر وليس ملكًا حقيقيًا؛ لأنه لو أن إنسان أراد أن يهدم بيته بدون سبب فلا يملك ذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلّم - نهى عن إضاعة المال، لو أراد إنسان أن يحرق سيارته بدون سبب فلا يملك هذا‏.‏ ولو أنه فعل لحجر القاضي عليه بمنعه من التصرف في ماله، مع أن الله منعه قبل، إذن ملكنا قاصر، والملك التام لله، ‏{‏وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ مطلع عز وجل على كل شيء، ومن جملته ما يفعله هؤلاء الكفار بالمؤمنين من الإحراق بالنار، وسوف يجازيهم، ولكن مع ذلك ومع فعلهم هذه الفعلة الشنيعة قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ‏}‏ قال بعض السلف‏:‏ انظر إلى حلم الله عز وجل يحرقون أولياءه، ثم يعرض عليهم التوبة يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا‏}‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ ‏{‏فَتَنُوا‏}‏ بمعنى أحرقوا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏ فهؤلاء أحرقوا المؤمنين وأحرقوا المؤمنات في النار‏.‏ وقيل‏:‏ فتنوهم أي صدوهم عن دينهم‏.‏ والصحيح‏:‏ أن الآية شاملة للمعنيين جميعًا، لأنه ينبغي أن نعلم أن القرآن الكريم معانيه أوسع من أفهامنا، وأنه مهما بلغنا من الذكاء والفطنة فلن نحيط به علمًا، والقاعدة في علم التفسير أنه إذا كانت الآية تحتمل معنيين لا يتضادان فإنها تحمل عليهما جميعًا، فنقول‏:‏ هم فتوا المؤمنين بصدهم عن سبيل الله، وفتنوهم بالإحراق أيضًا‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا‏}‏ أي يرجعوا إلى الله ‏{‏فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ‏}‏ لأنهم أحرقوا أولياء الله فكان جزاؤهم مثل عملهم جزاء وفاقًا‏.‏ في هذه الآيات من العبر‏:‏ أن الله سبحانه وتعالى قد يسلط أعداءه على أوليائه، فلا تستغرب إذا سلط الله عز وجل الكفار على المؤمنين وقتلوهم وحرقوهم، وانتهكوا أعراضهم، لا تستغرب فلله تعالى في هذا حكمة، المصابون من المؤمنين أجرهم عند الله عظيم، وهؤلاء الكفار المعتدون أملى لهم الله سبحانه وتعالى ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، والمسلمون الباقون لهم عبرة وعظة فيما حصل لإخوانهم، فمثلًا نحن نسمع ما يحصل من الانتهاكات العظيمة، انتهاك الأعراض، وإتلاف الأموال، وتجويع الصغار والعجائز، نسمع أشياء تبكي، فنقول‏:‏ سبحان الله ما هذا التسليط الذي سلطه الله على هؤلاء المؤمنين‏؟‏ نقول يا أخي لا تستغرب فالله سبحانه وتعالى ضرب لنا أمثالًا فيمن سبق يحرقون المؤمنين بالنار، فهؤلاء الذين سلطوا على إخواننا في بلاد المسلمين هذا رفعة درجات للمصابين، وتكفير السيئات، وهو عبرة للباقين، وهو أيضًا إغراء لهؤلاء الكافرين حتى يتسلطوا فيأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر‏.‏ وفي هذه الآيات من العبر‏:‏ أن هؤلاء الكفار لم يأخذوا على المسلمين بذنب إلا شيئًا واحدًا وهو‏:‏ أنهم يؤمنون بالله العزيز الحميد، وهذا ليس بذنب، بل هذا هو الحق، ومن أنكره فهو الذي ينكر عليه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر المسلمين في كل مكان، وأن يقينا شر أعدائنا، وأن يجعل كيدهم في نحورهم إنه على كل شيء قدير‏.‏ وفي الآية إشارة إلى أن التوبة تهدم ما قبلها، ولكن التوبة لا تكون توبة نصوحًا مقبولة عند الله إلا إذا اشتملت على شروط خمسة‏:‏ الأول‏:‏ الإخلاص لله عز وجل بأن يكون الحامل للإنسان على التوبة خوف الله عز وجل ورجاء ثوابه؛ لأن الإنسان قد يتوب من الذنب من أجل أن يمدحه الناس، أو من أجل دفع مذمة الناس له، أو من أجل مرتبة يصل إليها، أو من أجل مال يحصل عليه، كل هؤلاء لا تقبل توبتهم، لأن التوبة يجب أن تكون خالصة، وأما من أراد بعمله الدنيا فإن الله تعالى يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ‏}‏‏.‏ ‏[‏هود‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏ الثاني‏:‏ من شروط كون التوبة نصوحًا‏:‏ الندم على ما حصل من الذنب بمعنى ألا يكون الإنسان كأنه لم يذنب، لا يتحسر ولا يحزن، لابد أن يندم، إذا ذكر عظمة الله ندم، كيف أعصي ربي وهو الذي خلقني ورزقني وهداني، فيندم‏.‏ الثالث‏:‏ أن يقلع عن الذنب فلا تصح التوبة مع الإصرار على الذنب، لأن التائب هو الراجع، فإذا كان الإنسان يقول‏:‏ أستغفر الله وأتوب إليه من أكل الربا، ولكنه لايزال يرابي فلا تصح توبته، لو قال‏:‏ أستغفر الله من الغيبة، والغيبة ذكرك أخاك بما يكره ولكنه في كل مجلس يغتاب الناس فلا تصح توبته، كيف تصح وهو مصر على المعصية، فلابد أن يقلع، إذا تاب من أكل أموال الناس وقد سرق من هذا، وأخذ مال هذا بخداع وغش فلا تصح توبته، حتى يرد ما أخذ من أموال الناس إلى الناس، لو فرضنا أن شخصًا أدخل مراسيمه في ملك جاره واقتطع جزءًا من أرضه وقال إني تائب، فنقول له‏:‏ رد المراسيم إلى حدودها الأولى وإلا فإن توبتك لا تقبل، لأنه لابد من الإقلاع عن الذنب الذي تاب منه‏.‏ الشرط الرابع‏:‏ أن يعزم عزمًا تامًا ألا يعود إلى الذنب، فإن تاب وهو في نفسه لو حصل له فرصة لعاد إلى الذنب فإن توبته لا تقبل، بل لابد أن يعزم عزمًا أكيدًا على ألا يعود‏.‏ الشرط الخامس‏:‏ أن تكون التوبة في وقت تقبل فيه التوبة، لأنه يأتي أوقات لا تقبل فيها التوبة، وذلك في حالين‏:‏ الحال الأولى‏:‏ إذا حضره الموت فإن توبته لا تقبل لقول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 18‏]‏‏.‏ بعدما عاين الموت وشاهد العذاب يقول تبت فلا ينفع هذا، ومثال واقع لهذه المسألة أن فرعون لما أدركه الغرق ‏{‏قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ‏}‏ يعني بالله ولم يقل آمنت بالله إذلالًا لنفسه حيث كان يحارب بني إسرائيل على الإيمان بالله، والان يقول آمنت بالذي آمنوا به فكأنه جعل نفسه تابعًا لبني إسرائيل إلى هذا الحد بلغ به الذل ومع ذلك قيل له ‏{‏آلآن‏}‏ تتوب، آلان تؤمن بالذي آمنت به بنوا إسرائيل ‏{‏وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 91‏]‏‏.‏ إذًا إذا حضر الموت فإن التوبة لا تقبل، فلابد من المبادرة بالتوبة لأنك لا تدري في أي وقت يحضرك الموت، ألم تعلم أن من الناس من نام على فراشه في صحة وعافية ثم حمل من فراشه إلى سرير تغسيله‏؟‏‏!‏ ألم تعلم أن بعض الناس جلس على كرسي العمل يعمل ثم حمل من كرسي العمل إلى سرير الغسل‏؟‏‏!‏ كل هذا واقع، لذا يجب أن تبادر بالتوبة قبل أن تغلق الأبواب‏.‏ الحال الثانية‏:‏ إذا طلعت الشمس من مغربها، فإن الشمس إذا طلعت من مغربها ورآها الناس آمنوا لكن الله يقول‏:‏ ‏{‏لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ‏}‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ‏}‏ لما ذكر عقاب المجرمين ذكر ثواب المؤمنين، وهذه هي الطريقة المتبعة فيما يراد به الترغيب والترهيب، والقرآن الكريم مثاني، تذكر فيه المعاني المتقابلة، فيذكر فيه عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة، صفات المؤمنين وصفات الكافرين، من أجل أن يكون الإنسان سائرًا إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء، ويعرف نعمة الله عليه في الإسلام، ويعرف حكمة الله تعالى في وجود هؤلاء الكافرين المجرمين‏.‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ هم الذين آمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، والقدر خيره وشره فإن هذا هو الإيمان كما فسره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين سأله جبريل عن الإيمان فقال‏:‏ ‏(‏أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، والقدر خيره وشره‏)‏، وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ فالمراد عملوا الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة هي التي بنيت على الإخلاص لله، واتباع شريعة الله، فمن عمل عملًا أشرك به مع الله غيره فعمله مردود عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه أنه تعالى قال‏:‏ ‏(‏أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه‏)‏‏.‏ وأما المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن من عمل عملًا ليس على شريعة الله فإنه باطل مردود، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏(‏من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏، وبناء على ذلك تكون عبادة المرائي الذي يعبد الله لكن يرائي الناس أي يظهر العبادة ليراه الناس فيمدحوه وهو لا يريد التقرب إلى الناس، يريد التقرب إلى الله لكن يريد أن يمدحه الناس على تقربه إلى الله وعبادته لله فهذا مراءٍ وعمله مردود أيضًا، كذلك من تكلم بكلام قرآن أو ذكر ورفع صوته ليسمعه الناس فيمدحوه على ذكره لله فهذا أيضًا مراءٍ، عمله مردودٌ عليه؛ لأنه أشرك فيه مع الله غيره، أراد أن يمدحه الناس على عبادة الله، أما من تعبد للناس فهذا مشرك شرك أكبر يعني من قام يصلي أمام شخص تعظيمًا له، لا لله، وركع للشخص وسجد للشخص فهذا مشرك شركًا أكبر مخرج عن الملة، وكذلك أيضًا من ابتدع في دين الله ما ليس منه كما لو رتب أذكارًا معينة في وقت معين فإن ذلك لا يقبل منه، حتى ولو كان ذكر الله لو كان تسبيحًا، أو تحميدًا، أو تكبيرًا، أو تهليلًا ولكنه رتبه على وجه لم ترد به السنة فإن ذلك ليس مقبولًا عند الله عز وجل؛ لأنه عمل عملًا ليس عليه أمر الله ورسوله، فالمهم أن الله اشترط مع الإيمان العمل الصالح، وبهذا نعرف أنه لا ينبغي لنا أن نركز دائمًا على العقيدة، ونقول‏:‏ نحن على العقيدة الإسلامية وعلى كذا، وعلى كذا، ولا نذكر العمل؛ لأن مجرد العقيدة لا يكفي لابد من عمل، فينبغي عندما تذكر أننا على العقيدة الإسلامية ينبغي أن تقول ونعمل العمل الصالح؛ لأن الله يقرن دائمًا بين الإيمان المتضمن للعقيدة وبين العمل الصالح، حتى لا يخلو الإنسان من عمل صالح، أما مجرد العقيدة فلا ينفع لو أن الإنسان يقول أنا مؤمن بالله لكن لا يعمل فأين الإيمان بالله‏؟‏ ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء أن تارك الصلاة كافر كفرًا مخرج عن الملة وقد بينا أدلة ذلك في رسالة لنا صغيرة، يغني عن إعادتها هنا‏.‏ ‏{‏لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ ‏{‏لَهُمْ‏}‏ يعني عند الله ‏{‏جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ وذلك بعد البعث فإنهم يدخلون هذه الجنات التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقال الله في الحديث القدسي‏:‏ ‏(‏أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر‏)‏‏.‏ لأن فيها من النعيم ما لا يتصوره الإنسان والله تعالى يذكر في الجنات‏:‏ نخل، ورمان، وفاكهة، ولحم طير، وعسل، ولبن، وماء، وخمر، لكن حقائق هذه الأشياء ليست كحقائق ما في الدنيا أبدًا، لأنها لو كانت حقائقها كحقائق ما في الدنيا لكنا نعلم ما أخفي لنا من هذا، ولكنها أعظم وأعظم بكثير مما تتصوره، فالرمان وإن كنا نعرف معنى الرمان، ونعرف أنه على شكل معين، وطعم معين، وذو حبات معينة، لكن ليس الرمان الذي في الاخرة كهذه فهو أعظم بكثير، لا من جهة الحجم، ولا من جهة اللون، ولا من جهة المذاق، كما قال ابن عباس نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةا‏:‏ ‏(‏ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء فقط‏)‏، أما الحقائق فهي غير معلومة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ قال العلماء‏:‏ ‏{‏مِن تَحْتِهَا‏}‏ أي من تحت أشجارها وقصورها وإلا فهي على السطح فوق، ثم هذه الأنهار جاء في الأحاديث أنها لا تحتاج إلى حفر ولا تحتاج إلى بناء أخدود، وفي هذا يقول ابن القيم في النونية‏:‏ أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان الأنهار في المعروف عندنا تحتاج إلى حفر، أو إلى أخدود تمنع من تسرب الماء يمينًا وشمالًا، لكن في الجنة لا تحتاج إلى أخدود، تجري حيث شاء الإنسان، يعني يوجهها كما شاء بدون حفر، وبدون إقامة أخدود، والأنهار في هذه الآية وفي آيات كثيرة مجملة لكنه فصلت في سورة القتال - سورة محمد - قال‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ‏}‏ ‏{‏ذَلِكَ‏}‏ المشار إليه الجنات وما فيها من النعيم ‏{‏الْفَوْزُ الْكَبِيرُ‏}‏ يعني الذي به النجاة من كل مرهوب وحصول كل مطلوب؛ لأن الفوز هو عبارة عن حصول المطلوب وزوال المكروه، والجنة كذلك فيها كل مطلوب، وقد زال عنها كل مرهوب، فلا يذوقون فيها الموت، ولا المرض، ولا السقم، ولا الهم، ولا النصب‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ‏}‏ ‏{‏بَطْشَ‏}‏ يعني أخذه بالعقاب شديد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 98‏]‏‏.‏ فبطش الله يعني انتقامه وأخذه شديد عظيم ولكنه لمن يستحق ذلك، أما من لا يستحق ذلك فإن رحمة الله تعالى أوسع، ما أكثر ما يعفو الله عن الذنوب، ما أكثر ما يستر من العيوب، ما أكثر ما يدفع من النقم، وما أكثر ما يجري من النعم، لكن إذا أخذ الظالم لم يفلته كما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته‏)‏، وتلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ‏}‏، وعلى هذا فنقول‏:‏ ‏{‏بَطْشَ رَبِّكَ‏}‏ أي فيمن يستحق البطش، أما من لا يستحقه فإن الله تعالى يعامله بالرحمة، ويعامله بالكرم، ويعامله بالجود، ورحمة الله تعالى سبقت غضبه ‏{‏إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ‏}‏ يعني أن الأمر إليه ابتداء وإعادة وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ فهو الذي بدأ الأشياء، وإليه تنتهي الأشياء، الأشياء منه وإليه في كل شيء، الخلق من الله وإليه، الشرائع من الله وإليه، كل الأمور من الله وإليه، ولهذا قال ‏{‏يَبْدَأُ‏}‏ ولم يذكر ما الذي يبدؤه، فمعناه ‏{‏يَبْدَأُ‏}‏ كل شيء، ويعيد كل شيء، فكل الأمر بيده عز وجل، فاعرف أيها العبد من أين أنت، وأنك ابتدأت من عدم، واعرف منتهاك وغايتك، وأن غايتك إلى الله عز وجل ‏{‏وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ‏}‏ ‏{‏الْغَفُورُ‏}‏ يعني ذا المغفرة، والمغفرة ستر الذنب والعفو عنه فليست المغفرة ستر الذنب فقط بل ستره وعدم المؤاخذة عليه كما جاء في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن الله يخلو بعبده المؤمن يوم القيامة ويقرره بذنوبه حتى يقربها ويعترف فيقول الله عز وجل‏:‏ قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم‏)‏، ويُذكر أن بني إسرائيل كانوا إذا أذنب الواحد منهم ذنبًا وجده مكتوبًا على باب بيته فضيحة وعارًا، لكننا نحن ولله الحمد قد ستر الله علينا، فعلينا أن نتوب إلى الله ونستغفره من الذنب فتمحى آثاره، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْغَفُورُ‏}‏ أي الساتر لذنوب عباده المتجاوز عنها‏.‏ ‏{‏الْوَدُودُ‏}‏ مأخوذة من الود، والود هو خالص المحبة فهو جل وعلا ودود، ومعنى ودود أنه محبوب وأنه حاب، فهو يشمل الوجهين جميعًا، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏‏.‏ فهو جل وعلا واد يحب الأعمال، ويحب الأشخاص، ويحب الأمكنة وهو كذلك أيضًا محبوب يحبه أولياؤه ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏‏.‏ فكلما كان الإنسان أتبع لرسول الله - صلى الله عليه وسلّم - كان أحب إلى الله، فهو جل وعلا واد وهو أيضًا مودود، أي أنه يِحب ويَحب، يِحب سبحانه وتعالى الأعمال ويحب العاملين، ويحب الأشخاص يعني أن محبة الله قد تتعلق بشخص معين مثل قول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في يوم خيبر‏:‏ ‏(‏لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله‏.‏ فبات الناس ثم غدوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - كلهم يرجوا أن يُعطاها فقال‏:‏ ‏"‏أين علي بن أبي طالب‏"‏‏؟‏ قالوا‏:‏ يشتكي عينيه فدعا به فأتى فبصق في عينه فبرأ كأن لم يكن به وجع في الحال، ثم أعطاه الراية وقال‏:‏ ‏"‏انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام‏)‏‏.‏ الشاهد قوله‏:‏ ‏(‏يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله‏)‏ فهنا أثبت أن الله يحب هذا الرجل بعينه علي بن أبي طالب، ولما بعث على سرية صار يقرأ لهم في الصلاة ويختم القراءة بـ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ فلما رجعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلّم - أخبروه بذلك، لأن عمله هذا وهو أنه يختم القراءة بـ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ غير معروف، فقال‏:‏ ‏(‏سلوه لأي شيء كان يصنع ذلك‏"‏‏؟‏ فسألوه فقال‏:‏ إنها صفة الله وأنا أحب أن أقرأها‏.‏ فقال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏"‏أخبروه إن الله يحبه‏"‏‏)‏، فهنا المحبة علقت بشخص معين يحبه الله، وقد تكون محبة الله بمعينين بأوصافهم مثل‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 4‏]‏‏.‏ هذا ليست في شخص معين لكن في شخص موصوف بصفة، كذلك يحب الله سبحانه وتعالى الأماكن ‏(‏أحب البقاع إلى الله مساجدها‏)‏، وأخبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن مكة أحب البقاع إلى الله هذه المحبة متعلقة بالأماكن فالله تعالى يِحب ويَحب ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ‏}‏‏.‏ ثم بين عظمته وتمام سلطانه في قوله‏:‏ ‏{‏ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ‏}‏ ‏{‏ذُو الْعَرْشِ‏}‏ أي صاحب العرش، والعرش هو الذي استوى عليه الله عز وجل، وهو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها، وقد جاء في الأثر أن السماوات السبع والأراضين السبع بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ألقيت في فلاة في الأرض، وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة، حلقة الدرع صغيرة ألقيت في فلاة من الأرض ليست بشيء بالنسبة لها، ‏"‏وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة‏"‏، إذن لا أحد يقدر سعته، وإذا كنا نشاهد من المخلوقات المشهودة الان التباين العظيم في أحجامها‏.‏ ولقد أطلعني رجل على صورة الشمس وصورة الأرض، فوجدت أن الأرض بالنسبة لهذه الشمس كنقطة غير كبيرة في صحن واسع كبير، وأنها لا تنسب إلى الشمس إطلاقا، فإذا كان هذا في الأشياء المشهودة التي تدرك بالتلسكوب وغيره فما بالك بالأشياء الغائبة عنا لأن ما غـاب عنا أعظم مما نشاهد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏ فالحاصل أن العرش هو سقف المخلوقات كلها، عرش عظيم استوى عليه الرحمن - جل وعلا - كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الْمَجِيدُ‏}‏ فيها قراءتان ‏(‏المجيدِ‏)‏ و‏(‏المجيدُ‏)‏ فعلى القراءة الأولى تكون وصفًا للعرش، وعلى الثانية تكون وصفًّا للرب عز وجل، وكلاهما صحيح فالعرش مجيد، وكذلك الرب عز وجل مجيد، ونحن نقول في التشهد إنك حميد مجيد‏.‏ ‏{‏فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ‏}‏ كل ما يريده فإنه يفعله عز وجل؛ لأنه تام السلطان لا أحد يمانعه، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه ‏{‏وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فكل ما يريده فإنه يفعله، لكن ملوك الدنيا وإن عظمت ملكيتهم لا يفعلون كل ما يريدون، ما أكثر ما يريدون ثم يوجد مانع يمنع، أما الرب فهو ذو السلطان الأعظم الذي لا يرد ما أراده شيء ‏{‏فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ‏}‏ وفي هذا دليل على أن جميع ما وقع في الكون فإنه بإرادة الله عز وجل؛ لأن الله هو الذي خلقه فيكون واقعًا بإرادته، ولكن الله لا يريد شيئًا إلا لحكمة، فكل ما يقع من أفعال الله فإنه لحكمة عظيمة قد نعلمها وقد لا نعلمها‏.‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ‏}‏

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ يشمل كل من كفر بالله ورسوله سواء كان من المشركين، أو من اليهود، أو النصارى أو غيرهم؛ وذلك لأن اليهود والنصارى الان وبعد بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلّم - ليسوا على دين ولا تنفعهم أديانهم لأنه - أي النبي - صلى الله عليه وسلّم - خاتم الأنبياء فمن لم يؤمن به فليس على شيء من دينه، بل إن من لم يؤمن برسول واحد من الرسل فهو كافر بجميع الرسل، فمثلًا من لم يؤمن بنوح أنه رسول ولو آمن بغيره من الأنبياء فإنه مكذب لغيره من الرسل، فإذا ادعت اليهود أنهم على دين وأنهم يتبعون التوراة التي جاء بها موسى نقول لهم‏:‏ أنتم كافرون بموسى كافرون بالتوراة، وإذا ادعت النصارى الذين يسمون أنفسهم اليوم ‏(‏بالمسيحيين‏)‏ أنهم مؤمنون بعيسى قلنا لهم‏:‏ كذبتم أنتم كافرون بعيسى؛ لأنكم كافرون بمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - والعجب أن هؤلاء اليهود والنصارى يكفرون بمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - مع أنهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، لكن العناد والكبرياء والحسد منعهم أن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 109‏]‏‏.‏ فالحاصل أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ يشمل كل من كفر بمحمد حتى من اليهود والنصارى، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة - يعني أمة الدعوة- يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار‏)‏، كل الكفار في تكذيب وقال ‏{‏فِي تَكْذِيبٍ‏}‏ فجعل التكذيب كالظرف لهم يعني أنه محيط بهم من كل جانب ‏{‏وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ‏}‏ يعني أن الله تعالى محيط بهم من كل جانب لا يشذون عنه لا عن علمه ولا سلطانه ولا عقابه، ولكنه عز وجل قد يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته‏.‏ ‏{‏بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ‏}‏ ‏{‏بَلْ هُوَ‏}‏ أي ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏{‏قُرْآنٌ مَّجِيدٌ‏}‏ أي ذو عظمة ومجد، ووصف القرآن بأنه مجيد لا يعني أن المجد وصف للقرآن نفسه فقط، بل هو وصف للقرآن، ولمن تحمل هذا القرآن فحمله وقام بواجبه من تلاوته حق تلاوته، فإنه سيكون لهم المجد والعزة والرفعة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ‏}‏ يعني بذلك اللوح المحفوظ عند الله عز وجل الذي هو أم الكتاب كما قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 39‏]‏‏.‏ وهذا اللوح كتب الله به مقادير كل شيء، ومن جملة ما كتب به أن هذا القرآن سينزل على محمد - صلى الله عليه وسلّم - فهو في لوح محفوظ، قال العلماء ‏{‏مَّحْفُوظٍ‏}‏ لا يناله أحد، محفوظ عن التغيير والتبديل، والتبديل والتغيير إنما يكون في الكتب الأخرى؛ لأن الكتابة من الله عز وجل أنواع‏:‏ النوع الأول‏:‏ الكتابة في اللوح المحفوظ وهذه الكتابة لا تبدل ولا تغير، ولهذا سماه الله لوحًا محفوظًا، لا يمكن أن يبدل أو يغير ما فيه‏.‏ الثاني‏:‏ الكتابة على بني آدم وهم في بطون أمهاتهم، لأن الإنسان في بطن أمه إذا تم له أربعة أشهر، بعث الله إليه ملكًا موكلًا بالأرحام، فينفخ فيه الروح بإذن الله، لأن الجسد عبارة عن قطعة من لحم إذا نفخت فيه الروح صار إنسانًا، ويؤمر بأربع كلمات‏:‏ بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد‏.‏ النوع الثالث‏:‏ كتابة حولية كل سنة، وهي الكتابة التي تكون في ليلة القدر، فإن الله سبحانه وتعالى يقدر في هذه الليلة ما يكون في تلك السنة، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 4‏]‏‏.‏ فيكتب في هذه الليلة ما يكون في تلك السنة‏.‏ النوع الرابع‏:‏ كتابة الصحف التي في أيدي الملائكة، وهذه الكتابة تكون بعد العمل، والكتابات الثلاث السابقة كلها قبل العمل، لكن الكتابة الأخيرة هذه تكون بعد العمل، يكتب على الإنسان ما يعمل من قول بلسانه، أو فعل بجوارحه، أو اعتقاد بقلبه، فإن الملائكة الموكلين بحفظ بني آدم أي بحفظ أعمالهم يكتبون قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 9 - 12‏]‏‏.‏ فإذا كان يوم القيامة فإنه يعطى هذا الكتاب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏ يعني تعطى الكتاب ويقال لك أنت‏:‏ اقرأ وحاسب نفسك، قال بعض السلف‏:‏ لقد أنصفك من جعلك حسيبًا على نفسك، وهذا صحيح أي إنصاف أبلغ من أن يقال للشخص تفضل هذا ما عملت حاسب نفسك، أليس هذا هو الإنصاف‏؟‏‏!‏ بل أكبر إنصاف هو هذا، فيوم القيامة تعطى هذا الكتاب منشورًا مفتوحًا أمامك ليس مغلقًا، تقرأ ويتبين لك أنك عملت في يوم كذا، في مكان كذا، كذا وكذا، فهو شيء مضبوط لا يتغير، وإذا أنكرت فهناك من يشهد عليك ‏{‏يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ‏}‏ يقول اللسان‏:‏ نطقت بكذا ‏{‏وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ تقول اليد‏:‏ بطشت، تقول الرجل‏:‏ مشيت، بل يقول الجلد أيضًا، الجلود تشهد بما لمست ‏{‏وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 21‏]‏‏.‏ فالأمر ليس بالأمر الهين - نسأل الله تعالى أن يتولانا وإياكم بعفوه ومغفرته - وإلى هنا ينتهي الكلام على هذه السورة العظيمة التي ابتدأها الله تعالى بالقسم بالسماء ذات البروج وأنهاها بقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ‏}‏ فمن تمسك بهذا القرآن العظيم فله المجد والعزة والكرامة والرفعة، ولهذا ننصح أمتنا الإسلامية بادئين بأفراد شعوبها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم، ونوجه الدعوة على وجه أوكد إلى ولاة أمورها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم، وأن لا يغرهم البهرج المزخرف الذي يرد من الأمم الكافرة التي تضع القوانين المخالفة للشريعة، المخالفة للعدل، المخالفة لإصلاح الخلق، أن يضعوها موضع التنفيذ، ثم ينبذوا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وراء ظهورهم، فإن هذا والله سبب التأخر ولا أظن أحدًا يتصور أن أمة بهذا العدد الهائل تكون متأخرة هذا التأخر، وكأنها إمارة في قرية بالنسبة للدول الكافرة، لكن سبب ذلك لا شك معلوم هو أننا تركنا ما به عزتنا وكرامتنا وهو‏:‏ التمسك بهذا القرآن العظيم، وذهبنا نلهث وراء أنظمة بائدة فاسدة مخالفة للعدل، مبنية على الظلم والجور، فنحن نناشد ولاة أمور المسلمين جميعًا، أناشدهم أن يتقوا الله عز وجل، وأن يرجعوا رجوعًا حقيقيًّا إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلّم - حتى يستتب لهم الأمن والاستقرار، وتحصل لهم العزة والمجد والرفعة، وتطيعهم شعوبهم، ولا يكون في قلوب شعوبهم عليهم شيء؛ وذلك لأن الإنسان إذا أصلح ما بينه وبين ربه، أصلح الله ما بينه وبين الناس، فإذا كان ولاة الأمور يريدون أن تذعن لهم الشعوب، وأن يطيعوا الله فيهم، فليطيعوا الله أولًا حتى تطيعهم أممهم، وإلا فليس من المعقول أن يعصوا مالك الملك وهو الله عز وجل، ثم يريدون أن تطيعهم شعوبهم هذا بعيد جدًّا، بل كلما بَعُد القلب عن الله بعد الناس عن صاحبه، وكلما قَرُب من الله قرب الناس منه، فنسأل الله أن يعيد لهذه الأمة الإسلامية مجدها وكرامتها، وأن يذل أعداء المسلمين في كل مكان، وأن يكبتهم، وأن يردهم على أعقابهم خائبين، إنه على كل شيء قدير‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:29 PM   المشاركة رقم: 14
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة الطارق



‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ‏}‏‏.‏

البسملة سبق الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ‏}‏ ابتدأالله عز وجل هذه السورة بالقسم، أقسم الله تعالى بالسماء والطارق وقد يشكل على بعض الناس كيف يقسم الله سبحانه وتعالى بالمخلوقات مع أن القسم بالمخلوقات شرك لقول النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك‏)‏، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت‏)‏‏.‏ فلا يجوز الحلف بغير الله لا بالأنبياء، ولا بالملائكة، ولا بالكعبة، ولا بالوطن، ولا بأي شيء من المخلوقات‏؟‏ والجواب على هذا الإشكال أن نقول‏:‏ إن الله سبحانه وتعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه، وإقسامه بما يقسم به من خلقه يدل على عظمة الله عز وجل، لأن عِظم المخلوق يدل على عِظم الخالق، وقد أقسم الله تعالى بأشياء كثيرة من خلقه، ومن أحسن ما رأيته تكلم على هذا الموضوع ابن القيم رحمه الله في كتابه ‏(‏التبيان في أقسام القرآن‏)‏ وهو كتاب جيد ينفع طالب العلم كثيرًا، فهنا يقسم الله تعالى بالسماء، والسماء هو كل ما علاك، فكل ما علاك فهو سماء، حتى السحاب الذي ينزل منه المطر يسمى سماءً، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وإذا كان يطلق على كل ما علاك فإنه يشمل ما بين السماء والأرض ويشمل السماوات كلها لأنها كلها قد علتك وهي فوقك‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَالطَّارِقِ‏}‏ فهو قسم ثان، أي أن الله أقسم بالطارق فما هو الطارق‏؟‏ ليس الطارق هو الذي يطرق أهله ليلًا بل فسره الله عز وجل بقوله‏:‏ ‏{‏النَّجْمُ الثَّاقِبُ‏}‏ هذا هو الطارق، والنجم هنا يحتمل أن يكون المراد به جميع النجوم فتكون ‏(‏ال‏)‏ للجنس، ويحتمل أنه النجم الثاقب، أي‏:‏ النجم اللامع، قوي اللمعان، لأنه يثقب الظلام بنوره، وأيًّا كان فإن هذه النجوم من آيات الله عز وجل الدالة على كمال قدرته، في سيرها وانتظامها، واختلاف أشكالها واختلاف منافعها أيضًا، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 5‏]‏‏.‏ فهي زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يهتدى بها‏.‏ ثم بين الله المقسم عليه بقوله‏:‏ ‏{‏إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ‏}‏ ‏{‏إِن‏}‏ هنا نافية يعني ما كل نفس، و‏{‏لَمَّا‏}‏ بمعنى ‏(‏إلا‏)‏ يعني ما كل نفس إلا عليها حافظ من الله، وبين الله سبحانه وتعالى مهمة هذا الحافظ بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 10 - 12‏]‏‏.‏ هؤلاء الحفظة يحفظون على الإنسان عمله، ما له وما عليه، ويجده يوم القيامة كتابًا منشورًا يقول له‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 14‏]‏‏.‏ هؤلاء الحفظة يكتبون ما يقوم به الإنسان من قول، وما يقوم به من فعل، سواء كان ظاهرًا كأقوال اللسان، وأعمال الجوارح، أو باطنًا حتى ما في القلب مما يعتقده الإنسان فإنه يكتب عليه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق 16 - 18‏]‏‏.‏ هذا الحافظ يحفظ عمل بني آدم، وهناك حفظة آخرون ذكرهم الله في قوله‏:‏ ‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏‏.‏ ‏{‏فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ‏}‏ ‏(‏اللام‏)‏ هنا للأمر، والمراد بالنظر هنا نظر الاعتبار وهو النظر بالبصيرة، يعني ليفكر الإنسان مما خلق‏؟‏ هل خلق من حديد‏؟‏ هل خلق من فولاذ‏؟‏ هل خلق من شيء قاسٍ قوي‏؟‏ والجواب على هذه التساؤلات‏:‏ أنه ‏{‏خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ‏}‏ وهو ماء الرجل، ووصفه الله تعالى في آيات أخرى بأنه ماء مهين ضعيف السيلان ليس كالماء العادي المنطلق، ووصفه الله تعالى في آية أخرى أنه نطفة أي قليل من الماء، هذا الذي خلق منه الإنسان، والعجب أن يخلق الإنسان من هذا الماء المهين، ثم يكون قلبه أقسى من الحجارة - والعياذ بالله - إلا من ألان الله قلبه لدين الله، ثم بين أن هذا الماء الدافق ‏{‏يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ‏}‏ من بين صلب الرجل وترائبه أعلى صدره، وهذا يدل على عمق مخرج هذا الماء، وأنه يخرج من مكان مكين في الجسد، وقال بعض العلماء‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ‏}‏ أي صلب الرجل ‏{‏وَالتَّرَائِبِ‏}‏ ترائب المرأة‏.‏ ولكن هذا خلاف ظاهر اللفظ، والصواب أن الذي يخرج من بين الصلب والترائب هو ماء الرجل، لأن الله تعالى وصفه بذلك‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ‏}‏ ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ أي الله عز وجل‏.‏ ‏{‏عَلَى رَجْعِهِ‏}‏ أي على رجع الإنسان ‏{‏لَقَادِرٌ‏}‏ وذلك يوم القيامة لقوله ‏{‏يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ‏}‏ فالذي قدر على أن يخلق الإنسان من هذا الماء الدافق المهين، قادر على أن يعيده يوم القيامة، وهذا من باب الاستدلال بالمحسوس على المنظور المترقب، وهو قياس عقلي، فإن الإنسان بعقله يقول إذا كان الله قادرًا على أن يخلق الإنسان من هذا الماء المهين ويحييه قادر على أن يعيده مرة ثانية ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏ ولهذا يستدل الله عز وجل بالمبدأ على المعاد لأنه قياس جلي واضح، ينتقل العقل من هذا إلى هذا بسرعة وبدون كلفة، وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ‏}‏ أي تختبر السرائر، وهي القلوب، فإن الحساب يوم القيامة على ما في القلوب، والحساب في الدنيا على ما في الجوارح، ولهذا عامل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المنافقين معاملة المسلمين حيث كان يُستأذن في قتلهم فيقول‏:‏ ‏(‏لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه‏)‏، فكان لا يقتلهم وهو يعلم أن فلانًا منافق، وفلانًا منافق، لكن العمل في الدنيا على الظاهر ويوم القيامة على الباطن ‏{‏يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ‏}‏ أي تختبر وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 9، 10‏]‏‏.‏ ولهذا يجب علينا العناية بعمل القلب أكثر من العناية بعمل الجوارح، عمل الجوارح علامة ظاهرة، لكن عمل القلب هو الذي عليه المدار، ولهذا أخبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الخوارج يخاطب الصحابة يقول‏:‏ ‏(‏يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم - يعني أنهم يجتهدون في الأعمال الظاهرة لكن قلوبهم خالية والعياذ بالله - لا يتجاوز الإسلام حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية‏)‏، قال الحسن البصري رحمه الله‏:‏ ‏(‏والله ما سبقهم أبو بكر بصلاة ولا صوم، وإنما سبقهم بما وقر في قلبه من الإيمان‏)‏ والإيمان إذا وقر في القلب حمل الإنسان على العمل، لكن العمل الظاهر قد لا يحمل الإنسان على إصلاح قلبه، فعلينا أن نعتني بقلوبنا وأعمالها، وعقائدها، واتجاهاتها، وإصلاحها وتخليصها من شوائب الشرك والبدع، والحقد والبغضاء، وكراهة ما أنزل الله على رسوله وكراهة الصحابة نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة، وغير ذلك مما يجب تنزيه القلب عنه‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ‏}‏ يعني يوم القيامة ما للإنسان من قوة ذاتية ‏{‏وَلا نَاصِرٍ‏}‏ وهي القوة الخارجية، هو بنفسه لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ولا أحد يستطيع أن يدافع عنه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 101‏]‏‏.‏ في الدنيا يتساءلون، يسأل بعضهم بعضًا، ويحتمي بعضهم ببعض، لكن يوم القيامة لا أنساب يعني لا قرابة، لا تنفع القرابة ولا يتساءلون‏.‏

‏{‏وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا‏}‏‏.‏

بعد أن ذكر الله تعالى الإقسام ‏{‏وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ‏}‏ إلى آخره‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله ‏{‏يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ‏}‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ‏}‏ هذا هو القسم الثاني للسماء، والقسم الأول ما كان في أول السورة، فهناك قال‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ‏}‏ هنا قال‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ‏}‏ والمناسبة بين القسمين - والله أعلم - أن الأول فيه إشارة إلى الطارق الذي هو النجم، والنجم تُرمى به الشياطين الذين يسترقون السمع، وفي رمي الشياطين بذلك حفظ لكتاب الله عز وجل، أما هنا فأقسم بالسماء ذات الرجع أن هذا القرآن قول فصل، فأقسم على أن القرآن قول فصل، فصار القسم الأول مناسبته أن فيه الإشارة إلى ما يحفظ به هذا القرآن حال إنزاله، وفي القسم الثاني الإشارة إلى أن القرآن حياة، يعني يقال‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ‏}‏ الرجع هو المطر، يسمى رجعًا لأنه يرجع ويتكرر، ومعلوم أن المطر به حياة الأرض‏.‏ ‏{‏وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ‏}‏ الصدع هو الانشقاق يعني الشتقق بخروج النبات منه، فأقسم بالمطر الذي هو سبب خروج النبات، وبالتشقق الذي يخرج منه النبات، وكله إشارة إلى حياة الأرض بعد موتها، والقرآن به حياة القلوب بعد موتها، كما قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏‏.‏ فسمى الله القرآن روحًا لأنه تحيى به القلوب‏.‏ يقول عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ‏}‏ أي ذات المطر‏.‏ ‏{‏وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ‏}‏ أي ذات الانشقاق لخروج النبات منها‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ أي القرآن ‏{‏لَقَوْلٌ فَصْلٌ‏}‏ وصفه الله تعالى بأنه قول فصل، وهو قول الله عز وجل، فهو الذي تكلم به وألقاه إلى جبريل - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم نزل به جبريل على قلب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد أضاف الله القرآن قولًا إلى جبريل، وإلى محمد عليهما الصلاة والسلام، فقال تعالى في الأول‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 19 - 21‏]‏‏.‏ وقال في الثاني إضافته إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 40، 41‏]‏‏.‏ ففي الأول أضاف القول إلى جبريل - صلى الله عليه وآله وسلم - لأنه بلغه عن الله إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفي الثاني أضافه إلى محمد - صلى الله عليه وسلّم - لأنه بلغه إلى الناس، وإلا فإن الذي قاله ابتداءً هو الله سبحانه وتعالى‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ‏}‏ فصل يفصل بين الحق والباطل، وبين المتقين والظالمين، بل إنه فصل أي قاطع لكل من ناوأه وعاداه، ولهذا نجد المسلمين لما كانوا يجاهدون الكفار بالقرآن نجدهم غلبوا الكفار، وقطعوا دابرهم، وقضي بينهم، فلما أعرضوا عن القرآن هُزموا وأذلوا بقدر بُعدهم عن القرآن، وكلما أبعد الإنسان عن كتاب الله ابتعدت عنه العزة، وابتعد عنه النصر حتى يرجع إلى كتاب الله عز وجل‏.‏ ‏{‏وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ‏}‏ أي ما هو باللعب والعبث واللغو، بل هو حق، كلماته كلها حق، أخباره صدق، وأحكامه عدل، وتلاوته أجر، لو تلاه الإنسان كل أوانه لم يمل منه، وإذا تلاه بتدبر وتفكر فتح الله عليه من المعاني ما لم يكن عنده من قبل، وهذا شيء مشاهد، اقرأ القرآن وتدبره، كلما قرأته وتدبرته حصل لك من معانيه ما لم يكن يحصل لك من قبل، كل هذا لأنه فصل وليس بالهزل، لكن الكلام اللغو من كلام الناس كلما كررته مججته وكرهته ومللته أما كتاب الله فلا‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا‏}‏ ‏{‏إِنَّهُمْ‏}‏ يعني الكفار المكذبين للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ‏{‏يَكِيدُونَ كَيْدًا‏}‏ أي كيدًا عظيمًا، يكيدون للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ويكيدون لمن اتبعه، وانظر ماذا كانوا يفعلون بالمؤمنين أيام كانوا في مكة من التعذيب والتوبيخ والتشريد، هاجر المسلمون مرتين إلى الحبشة، ثم هاجروا إلى المدينة كل ذلك فرارًا بدينهم من هؤلاء المجرمين، الذين آذوهم بكل كيد، وأعظم ما فعلوه بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حين الهجرة حيث اجتمع رؤساؤهم وأشرافهم يتشاورون ماذا يفعلون بمحمد‏؟‏ فكلما ذكروا رأيًا نقضوه، قالوا هذا لا يصلح، حتى أشار إليهم فيما ذكره أهل التاريخ الشيطان الذي جاء بصورة رجل وقال لهم‏:‏ إني أرى أن تختاروا عشرة شبان من قبائل متفرقة، وتعطوا كل واحد منهم سيفًا حتى يقتلوا محمدًا قتلة رجل واحد، فإذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل، فلم تستطع بنو هاشم أن تقتص من القبائل كلها فيرضخون إلى أخذ الدية‏.‏ وهذا هو الذي يريدون، فأجمعوا على هذا الرأي واستحسنوا هذا الرأي، وفعلًا جلس الشبان العشرة ينتظرون خروج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليقتلوه، ولكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج من الباب وهم جلوس ولم يشاهدوه، وذكر التاريخ أنه جعل يذر التراب على رؤوسهم إذلالًا لهم، ويقرأ قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 9‏]‏‏.‏ ولا تتعجب كيف خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بينهم ولم يشاهدوه، لا تعجب من هذا، فها هم قريش حين اختبأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الغار لما خرج من مكة يريد المدينة اختبأ في الغار ثلاثة أيام ليخف عنه الطلب؛ لأن قريش صارت تطلبه، وجعلت لمن جاء به مئة بعير، ولمن جاء به مع أبي بكر مئتي بعير، وهذه جائزة كبيرة، فوقفوا على الغار الذي فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر، وكلنا يعلم أن الغار المفتوح إذا كان فيه أحد فسوف يُرى، ولكنهم لم يروا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا أبا بكر نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة، فقال‏:‏ يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك باثنين الله ثالثهما‏)‏‏.‏ فاطمأن أبو بكر‏.‏ هؤلاء القوم الذين وقفوا على الغار ليس عندهم قصور في السمع، ولا قصور في البصر، ولا قصور في الذكاء، ولكن أعمى الله أبصارهم عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبه، فلا تعجبوا أن خرج من بين هؤلاء الشبان العشرة كما قال أهل التاريخ، وجعل يذر التراب على رؤوسهم ويقول‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏‏.‏ وقال الله تعالى في سورة الأنفال‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ‏}‏ يعني يحبسوك ‏{‏أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا‏}‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا‏}‏ مهل وأمهل معناهما واحد يعني انتظر بمهلة ولا تنتظر بمهلة طويلة، ‏{‏رُوَيْدًا‏}‏ أي قليلًا، ورويدًا تصغير رود أو إرواد، والمراد به الشيء القليل‏.‏ وفي هذه الآية تهديد لقريش، وتسلية للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ووعد له بالنصر‏.‏ وحصل الأمر كما أخبر الله عز وجل، خرج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مهاجرًا منهم، وحصل بينه وبينهم حروب، وفي السنة الثانية من الهجرة قُتل من صناديد قريش وكبرائهم وزعمائهم نحو أربعة وعشرين رجلًا، منهم قائدهم أبو جهل، وبعد ثماني سنوات بل أقل من ثماني سنوات دخل النبي - صلى الله عليه وسلّم - مكة فاتحًا منصورًا ظافرًا، حتى إنه قال كما جاء في التاريخ وهو ممسك بعضادتي باب الكعبة وقريش تحته قال لهم‏:‏ ‏(‏ما ترون أني فاعل بكم‏)‏‏؟‏ لأن أمرهم أصبح بيده - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏(‏ما ترون أني فاعل بكم‏"‏‏؟‏ قالوا‏:‏ أخٌ كريم، وابن أخ كريم‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏إني أقول لكم كما قال يوسف لأخوته‏:‏ ‏{‏لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 92‏]‏‏.‏ اذهبوا فأنتم الطلقاء‏)‏، وإنما منّ عليهم هذه المنة - صلى الله عليه وآله وسلم - لأنهم أسلموا، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏‏.‏ نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته، وأن ينفعنا به، وأن يجعله شفيعًا لنا يوم القيامة، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
قديم 26-03-12, 10:31 PM   المشاركة رقم: 15
المعلومات
الكاتب:
همة داعية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية همة داعية


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 7030
المشاركات: 167 [+]
الجنس:
المذهب:
بمعدل : 0.04 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 13
نقاط التقييم: 47
همة داعية على طريق التميز

الإتصالات
الحالة:
همة داعية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : همة داعية المنتدى : بيت الكتاب والسنة
افتراضي

تفسير سورة الأعلى



‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى‏}‏‏.‏

البسملة سبق الكلام عليها، وإنها آية من كتاب الله مستقلة ليست من الفاتحة ولا من البقرة، ولا من آل عمران، ولا من أي سورة من القرآن، لكنها آية مستقلة تنزل في ابتداء كل سورة سوى سورة ‏(‏براءة‏)‏‏.‏ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى‏}‏ الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والخطاب الموجه للرسول في القرآن الكريم على ثلاثة أقسام‏:‏ القسم الأول‏:‏ أن يقوم الدليل على أنه خاص به فيختص به‏.‏ القسم الثاني‏:‏ أن يقوم الدليل على أنه عام فيعم‏.‏ القسم الثالث‏:‏ أن لا يدل دليل على هذا ولا على هذا، فيكون خاصًّا به لفظًا، عامًّا له وللأمة حكمًا‏.‏ مثال الأول‏:‏ قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏ ومثاله أيضًا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏‏.‏ فإن هذا من المعلوم أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏.‏ ومثال الثاني الموجه للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وفيه قرينة تدل على العموم‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏ فوجه الخطاب أولًا للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ‏}‏ ولم يقل ‏"‏يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم‏"‏ قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ‏}‏، ولم يقل‏:‏ ‏(‏يا أيها النبي إذا طلقت‏)‏ قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ‏}‏ فدل هذا على أن الخطاب الموجه للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - موجه له وللأمة‏.‏ وأما أمثلة الثالث‏:‏ فهي كثيرة جدًا يوجه الله الخطاب للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - والمراد الخطاب له لفظًا وللعموم حكمًا‏.‏ هنا يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى‏}‏ ‏{‏سَبِّحِ‏}‏ يعني نزه الله عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته، فإن التسبيح يعني التنزيه، إذا قلت‏:‏ سبحان الله، يعني أنني أنزه الله عن كل سوء، عن كل عيب، عن كل نقص، ولهذا كان من أسماء الله تعالى ‏(‏السلام، القدوس‏)‏ لأنه منزه عن كل عيب‏.‏ وأضرب أمثلة‏:‏ من صفات الله تعالى‏:‏ الحياة ليس فيها نقص بوجه من الوجوه، وحياة المخلوق فيها نقص، أولًا‏:‏ لأنها مسبوقة بالعدم فالإنسان ليس أزليًا‏.‏ وثانيًا‏:‏ أنها ملحوقة بالفناء ‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 26‏]‏‏.‏ مثال آخر‏:‏ سمع الله عز وجل ليس فيه نقص يسمع كل شيء، حتى إن المرأة التي جاءت تشتكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلّم - والتي ذكر الله تعالى قصتها في سورة المجادلة، كانت تُحدث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعائشة في الحجرة يخفى عليها بعض حديثها، والله تعالى يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 1‏]‏‏.‏ ولهذا قالت عائشة‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات‏)‏، إن المرأة المجادلة لتشتكي إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإنه ليخفى علي بعض حديثها‏.‏ إذن معنى ‏{‏سَبِّح‏}‏ نزه الله عن كل عيب ونقص‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى‏}‏ قال بعض المفسرين‏:‏ إن قوله ‏{‏اسْمَ رَبِّكَ‏}‏ يعني مسمى ربك؛ لأن التسبيح ليس للاسم بل لله نفسه، ولكن الصحيح أن معناها‏:‏ سبح ربك ذاكرًا اسمه، يعني لا تسبحه بالقلب فقط بل سبحه بالقلب واللسان، وذلك بذكر اسمه تعالى، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 96‏]‏‏.‏ يعني سبح تسبيحًا مقرونًا باسم، وذلك لأن تسبيح الله تعالى قد يكون بالقلب، بالعقيدة، وقد يكون باللسان، وقد يكون بهما جميعًا، والمقصود أن يسبح بهما جميعًا بقلبه لافظًا بلسانه‏.‏ وقوله ‏{‏رَبِّكَ‏}‏ الرب معناه الخالق المالك المدبر لجميع الأمور، فالله تعالى هو الخالق، وهو المالك، وهو المدبر لجميع الأمور، والمشركون يقرون بذلك ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 25‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 87‏]‏‏.‏ وأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم إذا سئلوا ‏{‏أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 31‏]‏‏.‏ فهم يقرون بأن الله له الملك، وله التدبير، وله الخلق، لكن يعبدون معه غيره، وهذا من الجهل، كيف تقر بأن الله وحده هو الخالق، المالك، المدبر للأمور كلها وتعبد معه غيره‏!‏‏!‏ إذن معنى الرب هو الخالق، المالك، المدبر لجميع الأمور، وكل إنسان يقر بذلك يلزمه أن لا يعبد إلا الله، كما تدل عليه الآيات الكثيرة‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ‏}‏ يعني لا تعبدون غيره‏.‏ ‏{‏الأَعْلَى‏}‏ من العلو، وعلو الله عز وجل نوعان‏:‏ علو صفة، وعلو ذات، أما علو الصفة‏:‏ فإن أكمل الصفات لله عز وجل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 60‏]‏‏.‏ وأما علو الذات‏:‏ فهو أن الله تعالى فوق عباده مستو على عرشه، والإنسان إذا قال‏:‏ يا الله أين يتجه‏؟‏ يتجه إلى السماء إلى فوق، فالله جل وعلا فوق كل شيء مستو على عرشه‏.‏ إذن ‏{‏الأَعْلَىَ‏}‏ إذا قرأتها فاستشعر بنفسك أن الله عال بصفاته، وعال بذاته، ولهذا كان الإنسان إذا سجد يقول‏:‏ سبحان ربي الأعلى، يتذكر بسفوله هو، لأنه هو الان نزل، فأشرف ما في الإنسان وأعلى ما في الإنسان هو وجهه ومع ذلك يجعله في الأرض التي تداس بالأقدام، فكان من الحكمة أن تقول‏:‏ سبحان ربي الأعلى، يعني أنزه ربي الذي هو فوق كل شيء، لأني نزلت أنا أسفل كل شيء، فتسبح الله الأعلى بصفاته، والأعلى بذاته، وتشعر عندما تقول‏:‏ سبحان ربي الأعلى، أن ربك تعالى فوق كل شيء، وأنه أكمل كل شيء في الصفات‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى‏}‏ ‏{‏خَلَقَ‏}‏ يعني أوجد من العدم، كل المخلوقات أوجدها الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وهو مثل عظيم، كل الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا، ولو اجتمعوا له، لو يجتمع جميع الالهة التي تعبد من دون الله وجميع السلاطين وجميع الرؤساء وجميع المهندسين على أن يخلقوا ذبابًا واحدًا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ونحن في هذا العصر وقد تقدمت الصناعة هذا التقدم الهائل لو اجتمع كل هؤلاء الخلق أن يخلقوا ذبابًا ما استطاعوا، حتى لو أنهم كما يقولون‏:‏ صنعوا آدميًا آليًا ما يستطيعون أن يخلقوا ذبابة، هذا الادمي الالي ما هو إلا الالات تتحرك فقط، لكن لا تجوع، ولا تعطش، ولا تحتر، ولا تبرد، ولا تتحرك إلا بتحريك، الذباب لا يمكن أن يخلقه كل من سوى الله، فالله سبحانه وتعالى وحده هو الخالق وبماذا يخلق‏؟‏ بكلمة واحدة ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏‏.‏ كلمة واحدة، الخلائق كلها تموت وتفنى وتأكلها الأرض، وتأكلها السباع، وتحرقها النيران، وإذا كان يوم القيامة زجرها الله زجرة واحدة أخرجي فتخرج‏.‏ ‏{‏فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 13‏]‏‏.‏ ‏{‏إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 53‏]‏‏.‏ كل العالم من إنس وجن، ووحوش وحشرات وغيرها كلها يوم القيامة تحشر بكلمة واحدة‏.‏ إذن فالله عز وجل وحده هو الخالق ولا أحد يخلق معه، والخلق لا يعسره ولا يعجزه وهو سهل عليه ويكون بكلمة واحدة‏.‏ وقوله ‏{‏فَسَوَّى‏}‏ يعني سوى ما خلقه على أحسن صورة، وعلى الصورة المتناسبة، الإنسان مثلًا قال الله تعالى في سورة الانفطار‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 7، 8‏]‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4‏]‏‏.‏ لا يوجد في الخلائق شيء أحسن من خلقة الإنسان، رأسه فوق، وقلبه في الصدر، وعلى هيئة تامة، ولهذا أول من يدخل في قوله‏:‏ ‏{‏فَسَوَّى‏}‏ هو تسوية الإنسان ‏{‏الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى‏}‏ كل شيء يسوى على الوجه الذي يكون لائقًا به‏.‏ ‏{‏وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ قدر كل شيء عز وجل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 2‏]‏‏.‏ قدره في حاله، وفي مآله، وفي ذاته، وفي صفاته، كل شيء له قدر محدود، فالاجال محدودة، والأحوال محدودة، والأجسام محدودة، وكل شيء مقدر تقديرًا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَهَدَى‏}‏ يشمل الهداية الشرعية، والهداية الكونية، الهداية الكونية‏:‏ أن الله هدى كل شيء لما خلق له، قال فرعون لموسى‏:‏ ‏{‏فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 49، 50‏]‏‏.‏ تجد كل مخلوق قد هداه الله تعالى لما يحتاج إليه، فالطفل إذا خرج من بطن أمه وأراد أن يرضع يهديه الله عز وجل إلى هذا الثدي يرتضع منه، وانظر إلى أدنى الحشرات النمل مثلًا لا تصنع بيوتها إلا في مكان مرتفع على ربوة من الأرض تخشى من السيول تدخل بيوتها فتفسدها، وإذا جاء المطر وكان في جحورها، أو في بيوتها طعام من الحبوب تخرج به إذا طلعت الشمس تنشره لئلا يعفن، وهي قبل أن تدخره تأكل أطراف الحبة لئلا تنبت فتفسد عليهم، هذا الشيء مشاهد مجرب من الذي هداها لذلك‏؟‏ إنه الله عز وجل، وهذه هداية كونية أي‏:‏ أنه هدى كل مخلوق لما يحتاج إليه‏.‏ أما الهداية الشرعية - وهي الأهم بالنسبة لبني آدم - فهي أيضًا بينها الله عز وجل حتى الكفار قد هداهم الله يعني بيّـن لهم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏‏.‏ والهداية الشرعية هي المقصود من حياة بني آدم ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وإنما أخبرنا الله بذلك لأجل أن نلجأ إليه في جميع أمورنا، إذا علمنا أنه هو الخالق بعد العدم وأصابنا المرض نلجأ إلى الله لأن الذي خلقك وأوجدك من العدم قادر على أن يصحح بدنك، إذًا الجأ إلى ربك، اعتمد عليه، ولا حرج أن تتناول ما أباح لك من الدواء، لكن مع اعتقاد أن هذا الدواء سبب من الأسباب جعله الله عز وجل، وإذا شفيت بهذا السبب فالذي شفاك هو الله عز وجل، هو الذي جعل هذا الدواء سببًا لشفائك، ولو شاء لجعل هذا الدواء سببًا لهلاكك، فإذا علمنا أن الله هو الخالق فنحن نلجأ في أمورنا كلها إلى الله عز وجل، إذا علمنا أنه هو الهادي فإننا نستهدي بهدايته، بشريعته حتى نصل إلى ما أعد لنا ربنا عز وجل من الكرامة‏.‏ ‏{‏سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى‏}‏ هذا وعد من الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه يقرئه القرآن ولا ينساه الرسول، وكان الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يتعجل إذا جاء جبريل يُلقي عليه الوحي فقال الله له‏:‏ ‏{‏لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 16 - 19‏]‏‏.‏ فصار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ينصت حتى ينتهي جبريل من قراءة الوحي ثم يقرأه، وهنا يقول‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ‏}‏ يعني إلا ما شاء أن تنساه فإن الأمر بيده عز وجل ‏{‏يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 39‏]‏‏.‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106، 107‏]‏‏.‏ وربما نُسّي النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية من كتاب الله ولكنه سرعان ما يذكرها - صلى الله عليه وآله وسلم - وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ‏}‏ أي أن الله تعالى يعلم الجهر، والجهر‏:‏ ما يجهر به الإنسان ويتكلم به مسموعًا‏.‏ ‏{‏وَمَا يَخْفَى‏}‏ أي ما يكون خفيًّا لا يُظهر فإن الله يعلمه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 16‏]‏‏.‏ فهو يعلم عز وجل الجهر ويعلم أيضًا ما يخفى‏.‏ ‏{‏وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى‏}‏ وهذا أيضًا وعد من الله عز وجل لرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن ييسره لليسرى، واليسرى أن تكون أموره ميسرة، ولاسيما في طاعة الله عز وجل، ولما أخبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه ما من أحد من الناس إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار، كل بني آدم مكتوب مقعده من الجنة إن كان من أهل الجنة، ومقعده من النار إن كان من أهل النار، قالوا‏:‏ ‏(‏يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل - يعني على ما كتب - قال‏:‏ ‏(‏لا‏.‏ اعملوا فكلٌّ ميسر لما خلق له‏)‏ فأهل السعادة ييسرون لعمل أهل السعادة، وأهل الشقاوة ييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى‏}‏ وهذا الحديث يقطع حُجة من يحتج بالقدر على معاصي الله فيعصي الله ويقول‏:‏ هذا مكتوب علي‏.‏ وهذا ليس بحجة؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قال‏:‏ ‏(‏اعملوا فكلٌّ ميسر لما خلق له‏)‏ هل أحد يحجزك عن العمل الصالح لو أردته‏؟‏ أبدًا‏.‏ هل أحد يجبرك على المعصية لو لم تردها‏؟‏ أبدًا لا أحد، ولهذا لو أن أحدًا أجبرك على المعصية وأكرهك عليها لم يكن عليك إثم، ولا يترتب على فعلك لها ما يترتب على فعل المختار لها، حتى إن الكفر وهو أعظم الذنوب، قال الله تعالى فيه‏:‏ ‏{‏مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏‏.‏ إذن نقول اعمل أيها الإنسان، اعمل الخير وتجنب الشر، حتى ييسرك الله لليسرى ويجنبك العسرى، فرسول الله - صلى الله عليه وسلّم - وعده الله بأن ييسره لليسرى فيسهل عليه الأمور، ولهذا لم يقع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في شدة وضنك إلا وجد له مخرجًا - صلى الله عليه وآله وسلم ـ‏.‏ ثم أمره تعالى أن يذكر فقال‏:‏ ‏{‏فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏}‏ يعني ذكر الناس، ذكرهم بآيات الله، ذكرهم بأيام الله، عظهم، ‏{‏إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏}‏ يعني في محل تنفع فيه الذكرى، وعلى هذا فتكون ‏{‏إِن‏}‏ شرطية والمعنى إن نفعت الذكرى فذكر، وإن لم تنفع فلا تذكر، لأنه لا فائدة من تذكير قوم نعلم أنهم لا ينتفعون، هذا ما قيل في هذه الآية‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ المعنى ذكر على كل حال، إن كان هؤلاء القوم تنفع فيهم الذكرى فيكون الشرط هنا ليس المقصود به أنه لا يُذكر إلا إذا نفعت، بل المعنى ذكر إن كان هؤلاء القوم ينفع فيهم التذكير، فالمعنى على هذا القول‏:‏ ذكر بكل حال، والذكرى سوف تنفع‏.‏ تنفع المؤمنين، وتنفع الُمذكِّر أيضًا، فالمذكر منتفع على كل حال، والمذكر إن انتفع بها فهو مؤمن، وإن لم ينتفع بها فإن ذلك لا ينقص من أجر المذكر شيئًا، فذكر سواء نفعت الذكرى أم لم تنفع‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ إن ظن أن الذكرى تنفع وجبت، وإن ظن أنها لا تنفع فهو مخير إن شاء ذكر وإن شاء لم يذكر‏.‏ ولكن على كل حال نقول‏:‏ لابد من التذكير حتى وإن ظننت أنها لا تنفع، فإنها سوف تنفعك أنت، وسوف يعلم الناس أن هذا الشيء الذي ذكرت عنه إما واجب، وإما حرام، وإذا سكتَّ والناس يفعلون المحرم، قال الناس‏:‏ لو كان هذا محرمًا لذكَّر به العلماء، أو لو كان هذا واجبًا لذكَّر به العلماء، فلابد من التذكير ولابد من نشر الشريعة سواء نفعت أم لم تنفع‏.‏ ثم ذكر الله عز وجل من سيذكر ومن لا يتذكر فقال‏:‏ ‏{‏سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى‏}‏ فبين تعالى أن الناس ينقسمون بعد الذكرى إلى قسمين‏:‏ القسم الأول‏:‏ من يخشى الله عز وجل، أي يخافه خوفًا عن علم بعظمة الخالق جل وعلا، فهذا إذا ذكر بآيات ربه تذكر كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 73‏]‏‏.‏ فمن يخشى الله ويخاف الله إذا ذكر ووعظ بآيات الله اتعظ وانتفع‏.‏ أما القسم الثاني‏:‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى‏}‏ أي يتجنب هذه الذكرى ولا ينتفع بها الأشقى و‏{‏الأَشْقَى‏}‏ هنا اسم تفضيل من الشقاء وهو ضد السعادة كما في سورة هود‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 106‏]‏‏.‏ ‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 108‏]‏‏.‏ فالأشقى المتصف بالشقاوة يتجنب الذكرى ولا ينتفع بها، والأشقى هو البالغ في الشقاوة غايتها وهذا هو الكافر، فإن الكافر يذكر ولا ينتفع بالذكرى، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى‏}‏ الذي يصلى النار الموصوفة بأنها ‏{‏الْكُبْرَى‏}‏ وهي نار جهنم؛ لأن نار الدنيا صغرى بالنسبة لها، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏(‏أن نار الدنيا جزء من سبعين جزءًا من نار الآخرة‏)‏، أي أن نار الاخرة فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا، والمراد بنار الدنيا كلها أشد ما يكون من نار الدنيا فإن نار الاخرة فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا ولهذا وصفها بقوله‏:‏ ‏{‏النَّارَ الْكُبْرَى‏}‏ ثم إذا صلاها ‏{‏لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيى‏}‏ المعنى لا يموت فيستريح، ولا يحيى حياة سعيدة، وإلا فهم أحياء في الواقع لكن أحياء يعذبون ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 56‏]‏‏.‏ كما قال الله عز وجل ‏{‏وَنَادَوْا يَا مَالِكُ‏}‏ وهو خازن النار ‏{‏لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ‏}‏ يعني ليهلكنا ويريحنا من هذا العذاب ‏{‏قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ‏}‏ ولا راحة ويقال لهم‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 78‏]‏‏.‏ هذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى‏}‏ لأنه قد يشكل على بعض الناس كيف يكون الإنسان لا حي ولا ميت‏؟‏ والإنسان إما حي وإما ميت‏؟‏ فيقال‏:‏ لا يموت فيها ميتة يستريح بها، ولا يحيى حياة يسعد بها، فهو في عذاب وجحيم، وشدة يتمنى الموت ولكن لا يحصل له، هذا هو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى‏}‏‏.‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏‏.‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏}‏ ‏{‏أَفْلَحَ‏}‏ مأخوذ من الفلاح، والفلاح كلمة جامعة، وهو‏:‏ الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، هذا هو معنى الفلاح فهي كلمة جامعة لكل خير، دافعة لكل شر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَن تَزَكَّى‏}‏ مأخوذة من التزكية وهو التطهير، ومنه سميت الزكاة زكاة؛ لأنها تطهر الإنسان من الأخلاق الرذيلة، أخلاق البخل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏ إذن ‏{‏تَزَكَّى‏}‏ يعني تطهر، ظاهره وباطنه، يتزكى أولًا من الشرك بالنسبة لمعاملة الله، فيعبد الله مخلصًا له الدين، لا يرائي، ولا يسمع، ولا يطلب جاهًا، ولا رئاسة فيما يتعبد به الله عز وجل، وإنما يريد بهذا وجه الله والدار الاخرة‏.‏ تزكى في اتباع الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بحيث لا يبتدع في شريعته لا بقليل ولا كثير، لا في الاعتقاد، ولا في الأقوال ولا في الأفعال، وهذا أعني التزكي بالنسبة للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو اتباعه من غير ابتداع لا ينطبق تمامًا إلا على الطريقة السلفية طريقة أهل السنة والجماعة الذين يؤمنون بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، على الطريقة السلفية الذين لا يبتدعون في العبادات القولية، ولا في العبادات الفعلية شيئًا في دين الله، تجدهم يتبعون ما جاء به الشرع، خلافًا لما يصنعه بعض المبتدعة في الأذكار المبتدعة، إما في نوعها، وإما في كيفيتها وصفتها، وإما في أدائها كما يفعله بعض أصحاب الطرق من الصوفية وغيرهم‏.‏ كذلك يتزكى بالنسبة لمعاملة الخلق بحيث يطهر قلبه من الغل والحقد على إخوانه المسلمين فتجده دائمًا طاهر القلب يحب لإخوانه ما يحب لنفسه لا يرضى لأحد أن يمسه سوء، بل يود أن جميع الناس سالمون من كل شر، موفقون لكل خير‏.‏ فـ‏{‏مَن تَزَكَّى‏}‏ أي من تطهر ظاهره وباطنه، فتطهر باطنه من الشرك بالله عز وجل، ومن الشك، ومن النفاق، ومن العداوة للمسلمين والبغضاء، وغير ذلك مما يجب أن يتطهر القلب منه، وتطهر ظاهره من إطلاق لسانه وجوارحه في العدوان على عبادالله عز وجل، فلا يغتاب أحدًا، ولا ينم عن أحد، ولا يسب أحدًا، ولا يعتدي على أحد بضرب، أو جحد مال أو غير ذلك، فالتزكي كلمة عامة تشمل التطهر من كل درن ظاهر أو باطن، فصارت التزكية لها ثلاث متعلقات‏:‏ الأول‏:‏ في حق الله‏.‏ والثاني‏:‏ في حق الرسول‏.‏ والثالث‏:‏ في حق عامة الناس‏.‏ في حق الله تعالى يتزكى من الشرك فيعبد الله تعالى مخلصًا له الدين‏.‏ في حق الرسول يتزكى من الابتداع فيعبد الله على مقتضى شريعة النبي - صلى الله عليه وسلّم - في العقيدة، والقول، والعمل‏.‏ في معاملة الناس يتزكى من الغل والحقد والعداوة والبغضاء، وكل ما يجلب العداوة والبغضاء بين المسلمين يتجنبه، ويفعل كل ما فيه المودة والمحبة ومن ذلك‏:‏ إفشاء السلام الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم‏:‏ أفشوا السلام بينكم‏)‏، فالسلام من أقوى الأسباب التي تجلب المحبة والمودة بين المسلمين وهذا الشيء مشاهد، لو مر بك رجل ولم يسلم عليك صار في نفسك شيء، وإذا لم تسلم عليه أنت صار في نفسه شيء، لكن لو سلمت عليه، أو سلم عليك صار هذا كالرباط بينكما يوجب المودة والمحبة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في السلام‏:‏ ‏(‏وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف‏)‏، وأكثر الناس اليوم إذا سلم يسلم على من يعرف، وأما من لا يعرفه فلا يسلم عليه، وهذا غلط، لأنك إذا سلمت على من تعرف لم يكن السلام خالصًا لله، سلم على من عرفت ومن لم تعرف من المسلمين حتى تنال بذلك محبة المسلمين بعضهم لبعض، وتمام الإيمان، والنهاية دخول الجنة جعلنا الله من أهلها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏}‏ أي‏:‏ ذكر الله، ولكنه ذكر سبحانه وتعالى الاسم من أجل أن يكون الذكر باللسان؛ لأنه ينطق فيه باسم الله فيقول مثلًا‏:‏ سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، فيذكر اسم الله، ويعني أيضًا ذكر اسم الله تعالى بالتعبد له، ويدخل في ذكر اسم الله الوضوء، فالوضوء من ذكر اسم الله، أولًا‏:‏ لأن الإنسان لا يتوضأ إلا امتثالًا لأمر الله‏.‏ وثانيًا‏:‏ أنه إذا ابتدأ وضوءه قال‏:‏ بسم الله، وإذا انتهى قال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين‏.‏ ومن ذكر الله عز وجل خطبة الجمعة، فإن خطبة الجمعة من ذكر الله، لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وعلى هذا قال بعض العلماء‏:‏ ‏{‏وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ‏}‏ يعني الخطيب يوم الجمعة ‏{‏فَصَلَّى‏}‏ أي صلاة الجمعة‏.‏ فهذه الآية تشمل كل الصلوات التي يسبقها ذكر، وما من صلاة إلا ويسبقها ذكر؛ لأن الإنسان يتوضأ قبيل الصلاة فيذكر اسم الله ثم يصلي‏.‏ لكن الصحيح‏:‏ أنها أعم من هذا، وأن المراد به كل ذكر لاسم الله عز وجل، أي كلما ذكر الإنسان اسم الله اتعظ وأقبل إلى الله وصلى‏.‏ والصلاة معروفة هي عبادة ذات أقوال وأفعال، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏ ‏{‏بَلْ‏}‏ هنا للإضراب الانتقالي، لأن ‏{‏بَلْ‏}‏ تأتي للإضراب الإبطالي، وتأي للإضراب الانتقالي، أي أنه سبحانه وتعالى انتقل ليبين حال الإنسان أنه مؤثر للحياة الدنيا لأنها عاجلة، والإنسان خلق من عجل، ويحب ما فيه العجلة، فتجده يؤثر الحياة الدنيا، وهي في الحقيقة على وصفها دنيا، دنيا زمنًا، ودنيا وصفًا، أما كونها دنيا زمنًا فلأنها سابقة على الاخرة فهي متقدمة عليها، والدنو بمعنى القرب‏.‏ وأما كونها دنيا ناقصة فكذلك هو الواقع فإن الدنيا مهما طالت بالإنسان فإن أمدها الفناء، ومنتهاها الفناء، ومهما ازدهرت للإنسان فإن عاقبتها الذبول، ولهذا لا يكاد يمر بك يوم في سرور إلا وعقبه حزن، وفي هذا يقول الشاعر‏:‏ فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر تأمل حالك في الدنيا تجد أنه لا يمر بك وقت ويكون الصفو فيه دائمًا بل لابد من كدر، ولا يكون السرور دائمًا بل لابد من حزن، ولا تكون راحة دائمًا بل لابد من تعب، فالدنيا على اسمها دنيا‏.‏ ‏{‏وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏ الآخرة خير من الدنيا وأبقى، خير بما فيها من النعيم والسرور الدائم الذي لا ينغص بكدر ‏{‏لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 48‏]‏‏.‏ كذلك أيضًا هي أبقى من الدنيا؛ لأن بقاء الدنيا كما أسلفنا قليل زائل مضمحل، بخلاف بقاء الاخرة فإنه أبد الابدين‏.‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ أي ما ذكر من كون الإنسان يؤثر الحياة الدنيا على الاخرة وينسى الاخرة، وكذلك ما تضمنته الآيات من المواعظ ‏{‏فِي الصُّحُفِ الأُولَى‏}‏ أي السابقة على هذه الأمة ‏{‏صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏ وهي صحف جاء بها إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام، وفيها من المواعظ ما تلين به القلوب وتصلح به الأحوال، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن أوتي في الدنيا حسنة، وفي الاخرة حسنة، ووقاه الله عذاب النار، إنه جواد كريم‏.‏










توقيع : همة داعية

رحم الله بوح قلمي



يقظة الضمير بقلم الداعية بوح قلمي رحمها الله




هااااااااام وعااااااااجل لكل غيور


رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته

عرض البوم صور همة داعية   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

(مشاهدة الكل عدد الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0 :
لا يوجد أعضاء

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

Bookmark and Share


الساعة الآن 07:16 PM

أقسام المنتدى

قســم إسلامنا تاريخٌ ومنهاج | بيت الكتاب والسنة | قســم موسوعة الصوتيات والمرئيات والبرامج | بيت الشكـاوي والإقتراحــات | بيت الآل والأصحاب من منظور أهل السنة والجماعة | قســم الموسوعـة الحواريـة | بيت الحــوار العقـائــدي | بيت الطـب البـديـل وطـب العـائلـة | بيت الأسـرة السعيــدة | قســم الدعم الخاص لقناة وصــال | بيت شبهات وردود | بيت التـاريـخ الإسلامي | بيت المهتدون إلى الإسلام ومنهج الحق | قســم موسوعة الأسرة المسلمـــة | وحــدة الرصــد والمتـابعــة | بيت الصوتيـات والمرئيـات العــام | بيت الصــــور | بيت الأرشيــف والمواضيــع المكــررة | بيت الترحيب بالأعضاء الجدد والمناسبات | بيت الجـوال والحـاسـب والبـرامـج المعـربـة | بيت المكتبـة الإسلاميـة | بيت الأحبـة فــي اللــه الطاقــم الإشـرافــي | بيت موسوعة طالب العلم | قســم الموسوعة الثقافية | البيــت العـــام | قســم دليل وتوثيق | بيت وثائق وبراهين | بيت القصـص والعبـــــــر | بيت الإدارة | بيت الصوتيـات والمرئيـات الخــاص | بيت المعتقد الإسماعيلي الباطني | بيت مختارات من غرف البالتوك لأهل السنة والجماعة | بيت الأحبـة فــي اللــه المراقبيـــــــن | بيت أهل السنه في إيران وفضح النشاط الصفوي | بيت المحــذوفــات | بيت ســؤال وجــواب | بيت أحداث العالم الإسلامي والحوار السياسـي | بيت فـرق وأديـان | باب علــم الحــديـث وشرحــه | بيت الحـــوار الحــــــــّر | وصــال للتواصل | بيت الشعـــر وأصنافـــه | باب أبـداعـات أعضـاء أنصـار الشعـريـة | باب المطبــخ | بيت الداعيـــات | بيت لمســــــــــــات | بيت الفـلاش وعـالـم التصميــم | قســم التـواصـي والتـواصـل | قســم الطــاقــــــــم الإداري | العضويات | بـاب الحــــج | بيـت المــواســم | بـاب التعليمـي | أخبــار قناة وصــال المعتمدة | بيت فـريـق الإنتـاج الإعـلامـي | بيت الـلـغـة العــربـيـة | مطبخ عمل شامل يخص سورية الحبيبة | باب تصاميم من إبداع أعضاء أنصـار آل محمد | بـاب البـرودكــاسـت | بيت تفسير وتعبير الرؤى والأحلام | ســؤال وجــواب بمــا يخــص شبهات الحديث وأهله | كلية اللغة العربية | باب نصح الإسماعيلية | باب غرفـة أبنـاء عائشـة أنصـار آل محمـد | بـيــت المـؤسـســيـــن | بـاب السيـرة النبـويـة | بـاب شهـــر رمضــان | تـراجــم علمـائـنـا |



Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
This Forum used Arshfny Mod by islam servant