بسم الله الرحمن الرحيم
"ما أقلّت الغبراء (الأرض) ولا أظلّت الخضراء (السماء) من رجل أصدق لهجة من أبي ذر" (أخرجه ابن ماجة وصححه الألباني)
لئن أطاق الناسُ جهاد الكفار والمشركين؛ فإن القليل منهم من يطيق مجاهدة النفس، وأعظم هؤلاء من ينتصر على ذاته ويُخضعها لمراد الله ورسوله .. تلك هي الرسالة الخالدة التي رسّخها أبو ذر في أمة محمد قبل أن يلقى ربه!
وإليك التفاصيل ..!
كأي رجل يتطلّع لمعالي الأمور؛ تاقتْ نفسه للإمارة! .. وبما أنه صادق اللهجة لا يعرف التلوّن والخداع فقد صارح النبيَّ بهذه الأمنية!
ففي (صحيح مسلم) أنه قال: قلت يا رسول الله؛ ألا تستعملني؟! فضرب بيده على منكبي ثم قال: "يا أبا ذر؛ إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها"
لم يقف الأمر عند هذا الحدّ! بل كلفه النبي بأمر أشدّ من منعه من الإمارة! فقد أوصاه بأن يسمع ويطيع ولو لعبد حبشي! (أخرجه مسلم)
من الطبيعي (جداً): ألاّ يُراجع أبو ذر النبيَّ بعد هذا الحديث، وألاّ يُكرّر المطالبة، ولا حتى تلميحاً .. لكن الأمر غير الطبيعي والذي لا يُقوى عليه إلا الكبار: أن يتغلّب على ذاته ويمحو هذه الأمنية من قائمة اهتماماته! .. فبقدرة الله تحوّل الرجل الراغب في الإمارة إلى رجل زاهد في الدنيا بأسرها! مدرسة في السمع والطاعة لولي الأمر!
انظر للتاريخ المشرق وهو يحفظ له موقفاً يفوح منه (شذى) السنة ويتجلّى فيه (صدقُ الاتّباع)! .. فما أن ظهر الخوارج على عثمان حتى دخل أبو ذر على عثمان قائلاً بعفويته وصدق لهجته: أظننتَ أني منهم؟! لا والله ما أنا منهم ولا هم مني، والله لو أمرتني ان أحبو لحبوتُ! .. ثم استأذنه في أن يغادر إلى الربذة (بين مكة والمدينة) فأذن له، فانصرف!
وأعجب من هذا؛ أن يأتيه بعض أهل الكوفة وهو متوجّه للربذة، فيعرضون عليه أن يَنصب لنفسه لواءً (أشبه بالبيعة والعهد) ليجتمع إليه الناسُ! .. أبا ذر! صاحبَ رسول الله! ها هي الفرصة تلوح أمامك! وها هي الإمارة تتطلّع لك بعد أن كنتَ تتطلّع لها! فما أنت فاعل؟! ثبتت (المدرسة) أبو ذر ثبات الرجال، نهاهم .. وقال: لا تعرضوا علي ذاكم! ولا تذلّوا السلطان! فإنه من أذلّ السلطان فلا توبة له، والله لو صلبني على أطول خشبة أو حبل؛ لسمعتُ وصبرتُ ورأيتُ أن ذلك خير لي!
أراد الله بحكمته أن يتجدد الابتلاء مرة أخرى! .. ها هو الرجل الذي تطلّع للإمارة يوماً من الدهر؛ يدخل (الربذة) فيتفاجأ بعبد حبشي أميراً لعثمان في الربذة! ومن العجيب أن يكون دخوله في وقت صلاة! يهمّ الحبشي أن يُقدّم أبا ذر ليصلي بالناس؛ يمتنع أبو ذر ويقول: إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً مُجدّع الأطراف! (الحديث أخرجه البخاري ومسلم)
وأعجب من هذا؛ أن تنتقل السنة من قلب أبي ذر ولسانه فتتجلى واقعاً عملياً في مواقفه! .. قال أبو العالية: (قلت لعبد الله بن الصامت: نُصلّي يوم الجمعة خلف أمراء؛ فيؤخرون الصلاة)! فضرب فخذي ضربة أوجعتني وقال: (سألتُ أبا ذر عن ذلك فضرب فخذي وقال: سألت رسول الله عن ذلك فقال: "صلّوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة") قال أبو العالية: وقال عبدالله: ذُكر لي أن نبي الله ضرب فخذ أبي ذر! (أخرجه مسلم)
ويختم أبو ذر مسيرته في الربذة، فلا يرثيه إلا زوجته وابنه وخادمه، ودمعة صادقة من عبدالله بن مسعود وهو يقول: صدق رسولُ الله يوم قال: "رحم اللهُ أبا ذر؛ يمشي وحده ويموت وحده ويبعث يوم القيامة وحده"
مات (المدرسة) ولم يذق طعم الرياسة؛ بل ما شمّ لها رائحة! .. لكنه أقبل على الله بقلب مؤمن ولسان صادق ونفس راضية بالسنة .. وتزكيات مباركة من النبي ؛ من أعظمها أن شبّهه بأحد أنبياء الله عليهم السلام! "مَن سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم؛ فلينظر إلى أبي ذر" (صححه الألباني) وفي رواية "مَن سرّه أن ينظر إلى شبيه عيسى بن مريم خَلقاً وخُلقاً؛ فلينظر إلى أبي ذر"
يا من خالفتَ السنة في السمع والطاعة، يا من قضيتَ عمرك سعياً للرياسة، يا من أهملتَ توحيد الله والدعوة إليه ولهثت وراء سراب السياسة؛ اقرأ هذه المواقف العظيمة وابكِ على نفسك بكاء من بعُد عن قول الجبار جل وعلا (وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون)! .. هداك الله للحق وأنار بصيرتك بالإيمان وأضاء حياتك بالسنة
استمع واستمتع..