وتعال معي
أذكرك بأنني كنت أطوف حول صنم البدوي،
حتى إذا مثلت أمام الكوة الصغيرة في وثنه النحاسي البراق،
أنفذت منها يديّ – في رعشة التقديس – حتى ألمس ستر القبر،
ثم أخرجها رويداً رويداً في حرص وحذر بالغين،
وقد ضممت قبضتيهما على ...؟
على ماذا ؟
كنت أوقن حينذاك أنني أضمهما على بركات سماوية
تفيض من روح الله على القبر
(يزعم الصوفية أن فوق كل ضريح ولي
نافذة مفتوحة في السماء،
يفيض الله منها بركاته على الطائفين حول الضريح!)
ثم أبسط يدي في جيبي، ثم أمسح بها وجهي،
رجاء أن أكون ميسر الرزق،
داني قطوف النجاح، مشرق الوجه بنور الله!!
وتعال –
ولا تسأم من ذكرياتي، فإنها عبرة ضحية، وعظة مأساة –
أذكرك بذلك الدَوي ترجف منه الأرض، وترتعد جُدُر المعهد
حين كانت توزع أسئلة اختبار آخر العام الدراسي،
أتدري ماذا كان يحدث ؟.
تهب هذه الآلاف المضطربة من الطلبة
رافعة أكفها في ضراعة ناعقة بما لا يسمع، ولا يبصر،
حتى ليبح صوتها، وتتمزق حناجرها إذ تنعق ضارعة:
يا سيد!!
وياويل السمع من طول "ياء النداء"!!.
لقد كانت تطول، وتطول، حتى ليخيل إليك أنها دخان مارد يحترق،
فيلمس دخانه قبة النجم،
ولعلهم كانوا يفعلون ذلك؛
لتصل أصداء ضراعتهم
إلى حيث جثمت على الأرض في غيابة القبر
جيفة مَنْ دَعَوْهُ!!
ولعلك تسألني :
ماذا كان يفعل بك شيوخكم ؟
كانوا يرفعون في سكرة الحب وذل الخشية أيديهم المعروقة،
يمسحون بها وجوههم، أو يمشطون لحاهم،
ومن بين الشفاه الذوابل تنساب هذه الهمهمة :
"رضي الله عنك يا سيد!!"
ثم يلتفتون إلينا،
وعلى وجوههم ألَقُ الرضى ناصحين في تأييد وإعجاب:
"كفاية ما خلاص سمعكم السيد!!"
وتعال
– وناشدتك الله إلا ما أصغيت غير مَالٍّ ولا كاره –
أذكرك بذلك الشيخ الأكبر الذي كان يشرك الدهماء في يوم "الكَنْسة"
وكان يمزق عمامة صنم البدوي مزقاً مزقاً،
ثم يهديها إلى مريديه بركة – في زعمه – من روح الله
التي يغرق صَيِّبُها ذيالكَ الوثن!!.
لقد كان للشيخ الأكبر شيخ هو تاجر خيط في المدينة،
وقد أعطاه العهد، وألبسه "خرقة التصوف"،
وكان التاجر على أمية وجهالة،
بيد أنه كان خبيراً بزندقة الصوفية،
مؤمنا بها، يبثها، ويهوي بالهالكين في حمأتها!!.
ولقد كنا نرى الشيخ الأكبر يخفض من رأسه عبودية للتاجر الصوفي!!
ثم يلثم يديه في خشية ورهبة وإجلال!!
وكنا نهتف إعجاباً بصنيع الشيخ؟
إذ نراه دلائل قوية على إيمان عميق، وتواضع كريم!!.
كذلك كنا نحرص كل الحرص
على أن ننتشي بمشهد الشيخ،
وهو يطوف حول ضريح البدوي،
يتملس نحاسه وستره،
حتى إذا بلغ فمه موضعاً منه،
راح يشويه بسعير القبل من شفتيه الناريتين!!
ونحرص كل الحرص على أن نوفض من منازلنا سراعاً
إلى "مولد: البدوي؛
لنشهد سرادق الشيخ الأكبر
المضروب على أبَدٍ طويل عريض من الأرض
احتفاءً بمولد الوثن الأكبر !!
ولنطعم طعامه، ونشرب شرابه ،
ثم نخرج من السرادق الفخم الضخم مهرولين صوب النصُب الكبير،
أو ما يسميه الدراويش "العمود الصاري" ( 1 )
نقترف هذا لعلنا نصيب بركة من القطب الغوث الذي قيل لنا :
إنه لا يحرص على شيء
كما يحرص على شهود الليلة الخاتمة "للمولد"
هو والأقطاب الآخرون والأوتاد والأبدال والأنجاب!!
ولعلنا نبصر واحداً منهم فيما تجسد فيه من صور ( 2 )
ثم تعال معي
إلى الجامع الأحمدي الكبير،
أو هيكل الطاغوت الأكبر؛
لترى هذه الحشود التي يمور، ويموج بها الجامع
من نساء ورجال وأطفال، وفدوا إلى الصنم من كل فج عميق،
وقد أشعلوا مواقدهم، يطهون الطعام،
أو يصنعون "الشاي، والقرفة"
أمام كل منهم "شوال" خبزه ووعاء "دُقته"
وقد حبا على الأرض الأطفال يبولون، أو يتبرزون!!.
وهنا، وهناك حانات ذكر
يرقص فيها "الدراويش"
وتتخلع "الدرويشات"
*********************
( 1 ) هو عمود طويل من الخشب مفرط في الإرتفاع مثبت في قاعدة من الأسمنت.
( 2 ) كان قد حدثني نقيب صوفي من قريتي عن القطب وأنه رآه.
قال:"كنا بمولد البدوي مرة دون الصاري فسمعت من بعيد – فحيح مزمار،
فرأيت شيخي يهرول إلى باب السرادق، ثم يكسر من قامته، حتى لتكاد تمس رأسه بالأرض،
ويرفع يديه في رعب شديد يحيي بهما رجلاً أشعث أغبر منهتك السوأة،
وبيده عكاز طويل، يدب به على الأرض، وقد تقدمه رجل مثله ينفخ في "مزمار"
ثم تنهد الرجل وهو يستعيد ذكرياته،
ثم قال:"وهكذا رأيت القطب،
فقد سألت شيخي عن الرجل الأول: أليس هو القطب؟
وصاحب المزمار حاجبه؟!
فأجاب : بلى، ولكن اكتم السر!!".