لكن المتأمل يجد أيضاً بأن هذا الأسلوب قد سلكه البعض على عهد النبي ويشهد لذلك ما رواه البخاري ومسلم(14) , فقد كان رسول الله صلى اله عليه مقيماً على المريسيع، ووردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير يقال جهجاه الغفاري فازدحم هو وسنان بن وبر الجهني على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني يا معشر الأنصار و صرخ جهجاه يا معشر المهاجرين، فقال النبي : (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟! دعوها فإنها منتنة) وبلغ عبد الله بن أبي ذلك فغضب - وعنده رهطٌ من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حدث - فقال : "أوقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا و والله ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول : سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم ... الحديث" .(15) ,
وهكذا فإنك تستطيع أن توجد العديد من أوجه الشبه بين الموقفين , ومن ذلك :
1. أن الفريقان قد استغلا ما وقع من أخطاء لاتهام خصومهم باستغلال الدين من اجل أهداف أخرى ( كالسيطرة على البلاد أو الوصول إلى السلطة ),ولم يحاولا تحديد سبب الخطأ ومعالجته بما يستحق.
2. أن الفريقان استخدما ( عمداً ) لغة التعميم , فكما أن الليبراليين قد وضعوا الدعوة و العلماء و الدعاة في المدارس والجامعات والمساجد والأسواق والمناهج المدرسية والجامعية ومختلف مؤسسات الدولة وقطاعاتها, في كفة واحدة مع شرذمة من المخربين و المفسدين وعمّوهم بلفظ ( تيار الإسلام السياسي ), فقد وضع عبد الله بن أبي النبي و الصحابة جميعاً مع من حدث منه الخطأ وعمهم بلفظ ( جلابيب قريش) .
(6) التحالف مع أعداء الإسلام في الداخل و الخارج .
أما داخلياً , فلا يخفى على أحد ما يمارسه أصحاب الفكر الليبرالي من تعاونٍ مع بعض الطوائف و الفرق المناوئة لمنهج أهل السنة و الجماعة وحضورٍ لمنتدياتهم و المشاركة فيها ويحتجون بأن ذلك هدفه تعزيز الوحدة الوطنية (16), ويصورون أن منع هذه الفئات من ممارسة طقوسهم و شعائرهم إنما هو نوع وصاية من طائفة معينة ذات مذهبٍ وفكرٍ معين ,وإقصاءٌ لا مبرر له ,
وقد كان من أشباههم في عهد النبي من يدافع حتى عن اليهود,
فقد ورد في قصة غزوة بني قينقاع أنهم وبعد نقضهم العهد مع النبي حاصرهم فنزلوا على حكمه في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا , فعند ذلك قام عبد الله بن أبي بن سلول فألح على رسول الله أن يصدر عنهم العفو ولم يرى مسوغاً لقتلهم وقال: يا محمد، أحسن فـي موإلى ـ وكـان بنـو قينـقاع حلفـاء الخزرج ـ فأبطأ عليه رسول الله فكرر ابن أبي مقالته فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول الله : (أرسلني)، وغضب حتى رأوا لوجهه ظُللاً ، ثم قال: (ويحك، أرسلني). ولكنه مضى على إصراره وقال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالى أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة ؟!! (17)
وأما خارجياً
فإنك لن تجد عناءً كبيراً في إثبات مدى التعاون القائم بين هؤلاء الليبراليين و بين أعداء الأمة من الدول الكافرة, بل كل ما عليك هو الرجوع إلى بعض التقارير التابعة لبعض مراكز البحوث الغربية و التي تنادي بدعم هذه الفئة واستغلال أنشطتها و منابرها لنشر الديمقراطية الغربية .(18) , وهم بذلك إنما يشابهون من نزل فيهم قول الله تعالى : ( وَالّذِينَ اتّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَىَ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) التوبة 107
فقد ذُكر أن سبب نزول هذه الاَيات الكريمات,
أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب, وكان له شرف في الخزرج كبير, فلما قدم رسول الله مهاجراً إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية, شرق بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها, وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد, ورأى أمر الرسول في ارتفاع وظهور, ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي فوعده ومناه وأقام عنده, وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله ويغلبه ويرده عما هو فيه, وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك, فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله إلى تبوك, وجاءوا فسألوا رسول الله أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته, وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية, فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: «إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله» فلما قفل راجعاً إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم, نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى. فبعث رسول الله إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة,(19) ,
فكم يوجد اليوم من ( جمعيات و أندية وملتقيات ضرارٍ ) ينشئها الليبراليون ويسعون دائما ً أن تحمل صفة الرسمية وأن يفتتحها بعض المسئولين , , ولو سألتهم عن أهدافها (لَيَحْلِفَنّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَىَ ) , بينما هي (ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ )
وبعد هذا العرض الموجز لبعض ما يدعوا إليه ويمارسه من يتسمون ب(الليبراليين) في هذا العصر وما كانت تدعوا إليه وتمارسه تلك الفئة المعروفة بمخالفة المسلمين في عهد النبي , نجد أن الطائفتان قد اتفقتا في مجمل تلك الدعوات والممارسات إلى حد التطابق , مما يؤكد لنا أن دوافع كلا الفريقين واحدة , وعليه فلا ينبغي أن تستوقفنا المصطلحات كثيراً , بل الواجب العودة الى المصطلح الذي وصف الله ورسوله به من يقع في مثل هذه الأعمال ,وتحذير من وقع فيها ( بعلم أو دون علم ) من أن يكون شريكاً لهم في العقوبة , وكذلك ينبغي علينا أن نكون على حذر ممن شابهوا من قال الله فيهم ( هم العدو فاحذرهم ) .
والحمد لله رب العالمين,,,
يـ&تـ&بـ&ـع