(17)
109) لما تكلم الناس في القدر دخل على كثير من النظار وعلى كثير من أهل الأحوال والإرادات والطوائف
دعوى الاشتباه فيه فصاروا يقصدون إلى التكلف في تحرير مسائله .
110)ونتج عن هذا التكلف نوعان من المسائل :
أ) النوع الأول :
ضلالات قيلت في القدر ليست منه بل هي خطأ فيه كالقول بأن الله لم يرد أفعال العبادولم يشأها أو قول من قابل ذلك بأن الله جبر العباد أو أن مشيئة العباد معطلة عن الحقيقة وهم كاسبون وليسوا مختارين كمايقول أصحاب نظرية الكسب .
أو لزم عن ذلك مسائل في مقام الأحوال والإرادات عند من يقول بالفناء عن شهود السوى وعن وجود السوى كأقوال الوجودية الفلسفية أو مادون ذلك .
-فهذه الطرق نشأت عن عدم معرفة هذه الحقيقة الشرعية العظيمة وهي أن القدر بين -واضح -
( ماشرع الإيمان به )
فهو بَيِّن في الكتاب والسنة
بين في مدارك العقل
بين في مدارك الفطرة .
-فلما نُقِصَ هذا المقام عن الاتباع ودخل عليه مواد تخالف ذلك أو طرق أوجبت ذلك على وجه من التفريط عند أربابها وسالكيها
وقد يغلون في ذلك كماغلا أصحاب نظرية وحدة الوجود إلى مقامات فاسدة مضادة لأصل الدين وقاعدته في القدر وغيره وقعت هذه الانحرافات .
ب) النوع الثاني : الذي ينافي هذا البيان
أن لايكون بأقوال ضالة أو منحرفة عماجاءت به الرسالة من الحقائق الشرعية والعقلية والفطرية في مقام القدر التي زلت بها بعض الطوائف .
-من مقام العدل وتحرير المسائل أن يقال لايوجد طائفة من طوائف أهل القبلة ضلت في القدر ضلالاً عاماً
فمامن طائفة إلا وعندها من مقامات الإيمان بالقدر معروفة ثابتة لكنهم يضلون في مسائل دون مسائل .
فلم يطبق الضلال على طائفة من الطوائف البته .
وهذا من رحمة الله بعباده وفضل الشريعة ونورها .
-وأن من أصاب من نورها أصاب ماأصاب من الحق .
المقصود أن المعاني البينة في الشريعة الفصيحة في حكمها وخبرها وقضائها صار بعض الناظرين في القدر يعبر عن هذه المعاني الصحيحة على وجهها الصحيح ولكن بعبارات مغلقة أو عبارات متكلفة أو مجملة يدخلها الاشتباه .
كتعبير أهل الإخلاص عن إخلاصهم وصبرهم في طاعة الله بعبارة - الفناء عن إرادة السوى -
وهذا تعبير متكلف ولو عبروا بما جاءت به النصوص من الاخلاص لله ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚوَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )
ولم يأت في نصوص النبوة والكتب المنزلة -الفناء - بوجه من الوجوه بل صار اسماً مشتركاً يستعمله أرباب وحدة الوجود ويستعمله من يحتج بمقام الربوبية على مقامات من تحقيق العبودية
ويذكره أصحاب التحقيق والإخلاص وهم فضلاء في إخلاصهم وتحقيقهم وموافقتهم للكتاب والسنة .
ولكنهم استعملوا عن هذه الحقيقة الشرعية القدرية اسماً مشركاً محدثاً فلايكون استعمالهم فاضلاً من هذا الوجه وهذا نقص ولكنه ليس كالنقص الأول .
112)وهناك درجة من الثاني أن تحصل المعاني الصحيحة بألفاظ صحيحة تستعمل في ذكرها ولكن يخبر محصلها أن ماحصله من المعاني في القدر بأنه حصل له ذلك بكثير من النظروالتحصيل الذي صار له فيه وجه من الاختصاص وكأنه انتزعها تحصيلاً وولدها كما تحصل مسائل الاجتهاد في دقائق أوجه الاستنباط
فهذا إذا قيل في دقائق أوجه الاستنباط ناسبه هذا المقام .
أما في أصول القدر وحقائق الشريعة التي أوجبها وفرضها على جميع العباد فلايصح لأحد أن يدعي أنه حصلها بوجه من العناء في تحصيلها- إشارة - بل هي من البينات والهدى .
وإن كان الناس يتفاضلون في العلم بها وهذا أمر بين .
فكما أنك تقول : صلاة الظهر أربع ركعات -فبهذا الاعتبار جميع المسلمين يعرفون هذا القدر -
ولكن صلاتهم وعلمهم بفضل الصلاة وقدر الصلاة وماإلى ذلك هذه درجات يتفاضل فيها أهل العلم .
وقل مثل ذلك في سائر العبادات .
ولكن لو قال قائل أنه لم يحصل عدد الركعات وعدد الصلوات ومواقيت الصلاة إلا بوجه من التحقيق البالغ
لقيل هذا ليس كذلك .
113)بل لما ضاقت مدراكه أو اشتبه أمره أو غشى بصره ظن أن البين لايحصل إلا بوجه من العناء فهذا يرجع إلى وجه من غشاوة البصر .
وإلا فإن نور الشريعة في الأصول الشرعية بينة .
ولكن هذا البيان لاينافي تفاضل العلماء عن غيرهم او تفاضل العباد فيما بينهم في تحقيق العلم بالله وعبادته .
-هذا التفاضل في العلم والفعل مطرد في جميع أوجه الشريعة بلا استثناء .
ولهذا لم تكن صلاة آحاد الناس كصلاة أبي بكر
مع أن المسلمون يصلون الظهر كما يصليها أبوبكر أو من هو خير منه وهو رسول الله
لكن مقام التحقيق ومقام العلم التفاضل فيه بين .
-لكن لايصح لأحد أن يقول أن تحصيل الأحكام الشريعة البينة يحتاج إلى فقه واستباط واسع
الاستنباط في دقائق الأحكام .
إذا كان هذا مدركاً في فروع الشريعة ففي أصولها من باب أولى .