لماذا هذا الحديث المتكرر في كثير من سور القرآن الكريم عن موسى -- وفرعون -لعنه الله-؟
إنها أكثر قصة معروضة في القرآن (بعد قصة بدء الخلق)، وفي كل سورة يعرض جانبا من جوانب هذه المواجهة بين موسى -- وفرعون، أليس هذا دليلاً على أن من الأهداف الرئيسة للقرآن الكريم محاربة الطغيان كظاهرة بشرية، وتوضيح نفسية وعقلية الطغاة، وكيف يتصرفون وكيف يفكرون؟!
هذا الطغيان الذي يفسد المجتمعات والأفراد، بل يدمر نفسية الإنسان ويحطم شخصيته وكرامته.
إن الإسلام -وهو خاتمة الرسالات إلى الأرض- جاء ليحرر الإنسان من الشرك، ومن اتخاذ الأرباب من دون الله، وقصة الأنبياء مع البشرية ما هي إلا لحل مشكلة الإنسان الذي يقع في المعضلات والنكد والخسران؛ حين لا يتوجه بالعبودية إلى خالقه، وحين يتكبر عن الخضوع لرسالة السماء، وإنها قصة الصوت الصارخ في وجه الظلم، وإنقاذ المجتمع مما يعاني من أزمات اجتماعية وسياسية.
الإنسان مخلوق مكرم، ولكنه إذ لم يهتد بالوحي، وإذ يظن أنه استغنى؛ فإنه يطغى، والطغيان هو مجاوزة الحد, وعندما يظن هذا الإنسان -بسبب أهوائه ووسوسة الشيطان له- أنه يستطيع عمل كل شيء، وأنه مستغنٍ بذاته وبقوته وبذكائه وبزبانيته؛ فإنه يتجاوز حدوده، ويستعبد الناس ويقهرهم.
ولذلك حارب الإسلام كل أنواع الطغيان:
طغيان الفرد: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:4].
وطغيان المال والميزان: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[الرحمن:8-9].
واعتبرَ إفساد عقيدة الناس من الطغيان: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ}[ق:27], {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}[الطور:32].
ووصف العقائد الضالة والمذاهب المنحرفة بالطاغوت: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا}[البقرة:256].
فقمة الطغيان والمثل الأعلى له هو فرعون، والقرآن الكريم على طريقته في تناول بعض الأحداث والقصص لا يذكر الأسماء؛ لأن فرعون نموذج لكل متكبر عالٍ في الأرض من المسرفين، إنه يمثل الطغيان السياسي حين استكبر وظن أنه يملك مصر وأنهارها وسكانها: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[الزخرف:51], واستعبد وسخّر بني إسرائيل لأهوائه ومطامعه: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:22].
والطاغية يوهم الناس أنه من طينة غير طينتهم، وكأنّ فيه جزءًا من الإلهية ولذلك يجب أن يخضعوا له: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[النازعات:24], ولا يخفى على فرعون أنه ليس الإله الذي يخلق ويرزق ويحي ويميت، ولكنه يرى نفسه أنه هو السيد الأعلى، الذي يجب أن يسخر له كل شيء، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}[النمل:14].
إنه التكبر واستعباد الناس حين يظن الطاغية أنه هو الأقدر على فهم الأمور، وهو الأذكى وهو الأعلم: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى}[غافر:29], فليس للناس رأي ولا للمصلحين.
وفرعون يتعجب من دعوة موسى له ومجابهته إياه: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ}[الشعراء:25]، أي: كيف يتجرأ موسى على مخاطبتي؟!
وعقيدة قوم فرعون أنه ربهم ومعبودهم، ولا يستبعد هذا عن الشعب الذي يغلب عليه الإيمان بالأشياء المادية المحسوسة ولا يؤمن بالغيب، ولكنّ فرعون يعلم قدر نفسه، ولذلك يحرضهم على عدم الاستماع لموسى ويؤلبهم عليه، ويقول لهم: إن موسى وأخاه يريدان إفساد نظامكم ودولتكم، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}[غافر:26]، وكأننا نرى هنا أن الطاغية مهزوم في داخله، ونفسه خواء وهو يعوض عن هذا النقص بقهر الناس، وتقريب زمرة صغيره؛ ليكونوا شركاء له في جرائمه، ويدربهم على القسوة البالغة نحو المجتمع، إنه يريد الاستقرار والاستمرار في الظلم، والحاشية تريد الاستفادة من تراكم الأموال، وفي العادة فإن الطاغية يُرضي هؤلاء بترك الحرية لهم في أكل أموال الناس.
هل يكفي أن نأخذ العبرة، ونتحدث عن مساوئ الطغيان؟ وكيف أنقذ الله موسى -عليه السلام- وقومه من فرعون وعمله؟ أم إنه زيادة على ذلك، يريد الله -سبحانه وتعالى- منا أن ندرس هذه الظاهرة، وكيف نتجنبها، وكيف نقاومها؟ لأنها موجودة في كل زمان ومكان، فالطغيان أمر كريه، يفسد كل شيء وهو أمر لا ينبغي أن يكون ولا أن يبقى.
القرآن الكريم أدان هذه الظاهرة، وهذا معناه إدانة أي حاكم يتصف بالصفات المذكورة عن فرعون أو ببعضها، وظاهرة الطغيان السياسي تتفاقم عندما تتنازل الشعوب عن حقها في العزة والكرامة، وهي تفعل هذا مخدوعة من جهة وخائفة من جهة أخرى، ولكن هذه الشعوب لا تعلم أن هذا الخوف هو وهم، فلا يمكن أن يطغى فرد في أمة كريمة.
أراد الإسلام اقتلاع جذور الطغيان، ليس في نفس الحاكم وحسب، بل وفي نفس المحكوم -أيضا-، حين يرضى به، وحين يعتبره وكأنه شيء طبيعي ويجب الخضوع له.
وحتى لا يمارس الفرد الطغيان -أيضا- في أسرته وعمله، أراد الإسلام اقتلاع الطغيان؛ لأن الطغاة يفقرون شعوبهم، ويشغلونهم برزقهم اليومي حتى لا يفكروا في التغيير، فالفقر يجلب معه رذائل شتى، من سقوط الهمم والجهل والمرض.
والطاغية لا يقف عند حد، فإذا أنت أسلمتَ أمرك للطاغية لم يرض منك بالطاعة؛ بل يصر على أن تكون طاعة وإذلالاً، والطاغية يكره العظماء من القادة والساسة والعلماء والأدباء، وإذا قبلهم فإنه يريد أن يكونوا أذناباً له.
والطاغية يخدع الناس بالوعود الكاذبة، ثم يبدأ بتكوين حرس خاص به، بحجة المحافظة على مطالب الشعب، ثم يبدأ بمحاكمة من يعارضه، ويخترع لهم تهمًا باطلة، ثم ينقلب حكمه في النهاية إلى كارثة.
عاقب الله -سبحانه وتعالى- هؤلاء الطغاة الظالمين الذين لا يتحرك لهم ضمير ولا يتعظون بمصير من قَبْلهم، عاقبهم بصرفهم عن الهداية: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}[الأعراف:146].
ومن عقوبة الله للطغاة أنهم يعيشون في خوف دائم -وإن كان الظاهر غير ذلك- وذلك؛ لكثرة المؤامرات والدسائس وكثرة الوشاة، ولذلك فهم يرتابون في كل أحد.
والخلاصة أن الطغيان ظاهرة مَرَضِية ركز عليها القرآن، وفصل فيها حتى يتجنبها المسلمون، ويقاومها أهل العلم والفضل.
الا نتدبر ذلك ؟؟