ولم يعرف تاريخ الإسلام على كثرة ما نزل به من الخطوب هولاً أشد من غزوات التتار، وهاك مثالاً على ذلك: يوم مروا بمدينة "هراة" الزاهرة جعلوا قاعًا صفصفـًا، وحين غادروها لم يخرج من أهلها غير أربعين رجلاً من مخابئهم؛ هم البقية الباقية من سكان المدينة الذين يربو عددهم على مائة ألف.
وفي شهر صفر سنة ستمائة وست وخمسين: كانت النكبة الكبرى والداهية العظمى التي حلت بعاصمة الخلافة وقاعدة الحضارة "بغداد"؛ فأنزلوا في ربوعها الشُمِّ ما تشيب لهوله الولدان؛ حيث استباحوا المدينة العريقة أربعين يومًا بلياليها؛ هدموا قصورها، ونسفوا مساجدها، وأحرقوا مكتباتها، ومدارسها، وأعملوا السيوف في الرقاب حتى سالت الدماء في الأزقة أنهارًا، ولم يسلم إلا اليهود والنصارى، وكان من جملة من قتلوه "المستعصم" خليفة المسلمين الذي كان يشاهد رقص الجواري بين يديه والتتار على أبواب بغداد، وقتلوا معه ولديه، وسبوا بناته الثلاثة، وقال المؤرخون: "إن القتلى ألفُ ألفٍ أو يزيدون".
ثم اندفعوا إلى بلاد الشام فتساقطت تحت أقدامهم كتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف مما أغراهم بغزو مصر والقضاء على ملكها الجديد "سيف الدين قطز"، وكان قطز قد تربى على يد "العز بن عبد السلام" -رحمه الله-؛ فنشأ نشأة كريمة صالحة، فجمع إلى ذكاء القلب وعلو النفس صدق الإيمان وسمو هداية الإسلام، وكان شابًا تقيـًا، ورعًا، صوامًا، قوامًا.
وقد ملأت أحاديث شيخ دمشق العز بن عبد السلام عن الجهاد والاستشهاد على هذا الشاب اليقظ قلبه ولبه، ثم زاده ولعًا بالأمر أنه رأى الرسول -- في المنام وقد أقبل عليه في كوكبة من الفرسان، وعلى رأسه جُمَّة يبشره بملك مصر وهزيمة التتار، ومنذ ذلك اليوم طمحت نفسه إلى الرحيل إلى مصر، وقد زاد تعلقه بها رحيل شيخه إليها، ولحق بعد ذلك بشيخه في مصر، والتحق بخدمة حكام مصر.
وطفق يبدي من ضروب الشجاعة، ويظهر من صنوف الحكمة والحنكة ما مهد السبيل أمامه ليغدوا قائدًا كبيرًا من قواد الجيش، ثم نائبًا للسلطان، ثم ملكًا لمصر حيث لـُقِّب بالملك المظفر "سيف الدين قطز"، وما كاد قطز يستقر على عرش البلاد حتى أرسل إليه ملك التتار "هولاكو" رسالة مع خمسة من رجاله يتهدده ويتوعده إذا لم يسلم له مصر، ويذكره بما حل بغيرها من ديار المسلمين.
فجمع الملك المظفر أمراءه وشاورهم في الأمر، فاجتمعت كلمتهم على ملاقاة العدو، فأمر بقتل رسل هولاكو، وعلق رؤوسهم على "باب زويلة"؛ ليقطع الطريق على كل متردد أو خائف؛ وليظهر لهولاكو عزمه على اللقاء، وبث روح الجهاد والقوة في المسلمين، وقام يستعد للحرب على قدم وساق، غير أنه رأى هلع الناس من التتار وخوفهم من أن يصيروا هم ومدنهم إلى ما صارت إليه بغداد.
فهب يعالج الأمر بإيقاد جذوة الإيمان في النفوس، والعودة بالناس إلى الله، فأنشأ ديوانـًا للجهاد وأوكل أمره إلى شيخه عز الدين بن عبد السلام، واعتمد عز الدين بن عبد السلام على المسجد في إيقاظ القلوب الغافية، وشحذ الهمم الوانية؛ فجمع خطباء المساجد ولقنهم ما يجب أن يخطبوا به على المنابر، وحضهم على دعوة الناس إلى الجهاد، وترغيبهم في الاستشهاد، وأصبح لا يجيز أحدًا من الخطباء حتى يحفظ سورتي الأنفال، والتوبة عن ظهر قلب، وكان من آثار ذلك أن غدت المنابر والبيوت والأسواق تعج بآيات القتال حتى كان العامة من الرجال والنساء والأطفال يستظهرونها حفظـًا.
ولقد غمر الشعور الديني سائر النفوس، وشمل جميع الفئات: فكف الفسقة عن ارتكاب المعاصي وامتنع المدمنون عن شرب الخمور، وآب الناس إلى الله -تعالى-، وامتلأت المساجد بالركع السجود، ولم يبقَ للناس من حديث غير الحديث عن لقاء عدو الله وعدوهم، وما كاد الملك المظفر يستكمل استعداداته العسكرية التي بذل فيها ما يستطيع، وتحمل الأمراء والسادة، بل وعوام المسلمين تكاليف هذه الاستعدادات عن سماحة نفس وطيب منها محبة في الله ودينه، ورغبة في إعزاز الإسلام والمسلمين؛ حتى جاءته الأخبار بتحرك التتار نحو بلاده؛ لينتقموا منه على ما فعل.
فنادى في الناس بالجهاد فلبوا نداءه خفافـًا وثقالاً، وشيبًا وشبانـًا، وآلوا "أقسموا" على أنفسهم أن يظفروا بإحدى الحسنيين: "النصر أو الشهادة".
وفي صباح يوم الجمعة لخمس بقين من رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة التقى الجمعان في"عين جالوت"، وانتظر الملك المظفر ساعة صلاة الجمعة ليبدأ القتال والخطباء على المنابر يدعون لهم، وأخذت سهام التتار تنصب على رؤوس المسلمين انصبابًا، وكان على التتار "كتبغا نوين"، وأمر قطز جنوده بالهجوم على عدو الله وعدوهم؛ فتصافحت السيوف مع السيوف، واشتجرت -"اشتبكت"- الرماح مع الرماح، واستحر القتل في الفريقين، واستبسل كل منهما غاية الاستبسال.
ولما رأى الملك المظفر قطز شدة بأس عدوه، ووفرة عَددِه، وكثرة عُدَده؛ خلع خوذته عن رأسه وألقى بها على الأرض، وردد بأعلى صوته: "وا إسلاماه.. وا إسلامـاه".
ذلك النداء الذي صار شعارًا من بعده، وكلمة محفورة في قلوب المسلمين يهتفون بها بين الحين والآخر على مر الزمان، فألهب قلوب جنوده بنار الإيمان، وأضرم أفئدتهم بالحميَّة للإسلام؛ فانقضوا على عدوهم انقضاض الشهب، وما زالوا يناضلونه حتى خلخلوا صفوفه المتراصة، وأوغلوا في جموعه المحتشدة؛ فألقى الله الوهن في نفوس التتار، وقذف في قلوبهم الرعب، وما هي إلا ساعة وبعض الساعة حتى بدأ العدو يتأخر، ثم طفق يتقهقر، ثم ولى الدبر؛ فركب المسلمون ظهورهم، وأعملوا السيوف في رقابهم، ومزقوهم شر ممزق، وفروا هاربين لا يلوون على شيء، وأرسل السلطان خلفهم القائد "بيبرس البندقداري"؛ ليتبع فلولهم، ويجهز على البقية الباقية منهم، وانجلت المعركة عن نصر مؤزر للمسلمين.
ووقف الملك المظفر قطز، ليذكر جنوده بنعمة الله بالنصر، وفضله عليهم؛ فلولاه -سبحانه وتعالى- ما كان ذلك.
ويذكرهم بأن دعاء إخوانهم المسلمين في المساجد كان أشد على عدوهم من سيوفهم، وكانت هذه المعركة أول يوم يُغلب فيه الغالبون، ويقهر فيه المتجبرون، ثم لم تقم لهم قائمة بعد ذلك.
وكان الإسلام وما يزال عدة النصر للمسلمين، وسبيل العزة للمؤمنين، وصدق الله -تعالى- إذ يقول: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور:55)، وقوله -تعالى-: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:26).
وصلِ اللهم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.