وبعدُ:
توطئة:
يقول أحدُهم:
وَإِذَاكَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا
تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأَجْسَامُ
ويقول المتنبي:
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ العَزْمِ تَأْتِي العَزَائِمُ
وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الكِرَامِ المَكَارِمُ
وَتَعْظُمُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صِغَارُهَا
وَتَصْغُرُ فِي عَيْنِ العَظِيمِ العَظَائِمُ
في المجتمع أشخاصٌ لا يجعَلُون من العلم وسيلةً لنيل المال، ولا يقتَصِر التفوُّق العلمي عندَهم على امتِلاك مُعدَّلات جامعيَّة مرتفعة ودروع شرف، بل ينظُرون إلى كلِّ ذلك على أنَّه جزءٌ صغيرٌ جِدًّا من النَّجاح.
ويرتَبِط النَّجاح العلمي في أذهانهم بالعمل بهذا العلم، وليس العمل هنا هو (الوظيفة) التي ذُبِح العِلمُ على عتبتها، لكنَّه خِدمَة العِلم، وتحويله إلى جزءٍ مُؤثِّر في واقعهم والبيئة من حولهم، وها هنا مربط الفرس.
وبطبيعة الحال، فإنَّ أمثال هؤلاء يُصبِحون كُنُوزًا إنسانيةً، حين يكون فَضاء تفوُّقهم العلمي مُرتَبِطًا بشكلٍ كامِلٍ بهويَّة أمَّتهم الحضاريَّة؛ إذ تُضحِي خدمتهم للعِلم خدمةً لحضارة أمَّتهم، ويا سعد أمَّتنا التي تُعانِي وَيْلات الحُرُوب الحضاريَّة المُختَلِفة بأمثالهم.
من هؤلاء امرأةٌ من الأقارب، اختارَتْ في مَسِيرتها الجامعيَّة اللغة العربيَّة عن حبٍّ وقَناعَة بأنها سيِّدة لغات البشريَّة جمعاء، ومضَتْ تسطر صفحات من التفوُّق العلمي والتفوُّق العملي، مُوائِمة بين مهامِّها الدراسيَّة ومهامِّها العمليَّة، ومنتَقِلة من طَوْرِ التعلُّم إلى طَوْرِ التعليم باكِرًا، باذِلَة من وقتها وجُهدِها في سَبِيل العربيَّة.
لقد سبحت هذه المرأة عكس التيَّار، وتحدَّت نظرات الناس واستِغرابهم، ووقَفتْ تُعلِن أنها عربيَّة الهويَّة واللسان، لا عربيَّة الهويَّة أجنبيَّة اللسان، وصرَّحت بملء (فيها) بأنَّ تمكين العربيَّة في نفوس الصِّغار لا يتوقَّف على اللغة العاميَّة، بل يتجاوَزه إلى الفُصحَى، حتى صار إخوتها الصِّغار مُتَحدِّثين جيِّدين بالعربيَّة الفَصِيحة، بل أرغمت الكِبار من أهلها على ذلك، وأدخلَتْهم مُرغَمين في دوَّامة تجربة العربيَّة الفصيحة في الأماكن العامَّة؛ إذ رصدت لهم جائزةً ماليَّة نظير اقتصارهم على العربيَّة الفصيحة في نُزهةٍ لهم إلى مدينة الملاهي، وكان لها ما أرادت، فتحدَّثوا العربيَّة الفصيحة، وتخاطَبُوا بها مع مَن حولَهم من الناس، حتى استَثارُوا عجبهم وإعجابهم، وأرغَمُوهم على الحديث معهم بهذه اللغة العظيمة.
ولم يَهدَأ لهذه المرأة بالٌ وهي ترى أخاها الصغير يَعُدُّ بالإسبانيَّة، حتى علَّمَتْه العدَّ بالعربيَّة، وجعَلتْ منه متحدِّثًا فصيحًا بها، وكرَّرت الأمر نفسه حينما سمعتْ أمَّه تُلاعِبه بأرجوزةٍ إنجليزيَّة، حفظ منها بِضعَة كلمات، فقامَتْ بترجمة الأرجوزة وتلحينها، ولاعبَتْه بها حتى استقرَّ الأمرُ على الأرجوزة العربيَّة، ونُسِيت الإنجليزية.
وليست هذه الأخبار إلاَّ شيئًا ممَّا يُسمَع عنها، وعن عزمها الجبَّار، الذي تفجَّر عن حبٍّ عظيم للعربيَّة، ويقينٍ راسِخٍ بمتانَتِها وقوَّتها وقُدرَتِها على السِّيادة واستِحقاقها للرِّيادة، وإلاَّ فإنَّ مجرَّد الالتِحاف بلحاف الهويَّة العربيَّة ليس كافيًا لخدمتها، وليس شيئًا في بحر الاعتزاز بها.
وقبل النِّهاية تحيَّة إلى كلِّ إنسانٍ رابَط على ثُغُور الحِمَى الحضاريَّة لأمَّته، معتزًّا محتسبًا ومُتفائِلاً، وله أقول: كان الماضي لأسلافنا، وسيكون المستقبل لنا - بإذن الله تعالى.
مصعب الخالد