على أن الدعوة الخلقية الصوفية،
هي دعوة إلى الأخلاق السَّلبية ( 1 )، فحسب،
إذ هي قائمة على الزهد المانَوِيِّ،
فهي – على الزعم بأنها خير،
ودون التفات إلى معتقدها –
لا تصلح لأمة تريد أن تقود الحياة
بقوة الحق والعدل إلى الخير العام ،
وأن تتزعم العالم في سلام وأمن.
تريد الوثبة الجريئة المقدامة التي تُسَخِّر كل شيء،
أذن الله لها فيه في سبيل تحقيق قِيَمِها الرفيعة المؤمنة.
تريد الحياة دَفَّاقَة التيار،
زَخَّارة المشاعر بالحيوية المتدفقة،
المندفعة دائماً إلى الأمام،
جَيَّاشة الليل والنهار بالعمل الدائب المنتج المثمر،
والجهاد في سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا،
إنما تصلح دعوة الصوفية الخلقية
– بذلك الاعتبار نفسه –
لجماعة تعيش في الكهوف، أو المغاور،
أو على قنن الجبال في الحِسِّ الهامد،
والشعور الخامد،
والوجدان الأصم البليد،
وكل إنسان فيها منطوٍ على نفسه.
لجماعة تقطعت أرحماها،
فعاش كل فرد فيها لنفسه،
يسخر ليله ونهاره لنفسه،
دون أن يحول عينيه وغاياته عن نفسه وحدها!
فهي أخلاق تطفح بالأثرة الضيقة المكتومة الخانقة،
والفردية التي ترى الدنيا لها وحدها،
وتعمل؛ ليكون كل شيء لها وحدها!
إنها رهبانية
تسري فيها قشعريرة الخوف المذعور من الحياة،
ورِعْدَةُ الفَرَقِ القَلِقِ من المجتمع.
رهبانية تعيش في غيابة الخمول الأَسْوَان
وراء الوجود الإنساني!
تصلحُ لجماعة تعيش للعدم الميت،
لا للحياة الشاعرة بذاتها وَمُقَوِّماتها،
تعيش للوحدة الكابية الساهمة المحتضرة،
لا للجماعة التي يعمل فيها كل إنسان لنفسه،
ولمن معه،
وتجعل الإيثار النبيل شعارها،
وابتغاء مرضاة الله فَلَكَ حياتها وغاياتها وبواعثها.
فدعوة الصوفية الأخلاقية.
فِرَارٌ ذليل من الحياة،
وجُبْنٌ يرتجف من الحياة،
وتَفرُّدٌ موحش في تيه الوحدة الذاهلة القاتمة،
وقَتْل ظلوم لقوى الإنسانية
المكافحة في سبيل تقدم الحياة،
وكفران باغٍ بما أنعم الله به على الإنسان من قوى؛
ليعمل باسم الله ما يعمله لنفسه،
وللجماعة التي يجب أن يشيد صروحها
سامقات عاليات الذُّرى.
*****************
( 1 ) يمتاز الإسلام في دعوته الخلقية
بأنه يدعو إلى أقوى وأعز الأخلاق الإيجابية وإلى أقدس الأخلاق السلبية،
فهو لا يطلب منك ألا تفعل الشر فحسب، بل يأمرك أن تفعل الخير،
فهو يأمر مثلاً بالجهاد والسعي في سبيل الرزق،
وينهى عن الرهبانية والسرقة
يتجلى لك ذلك في قوله سبحانه:
( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر )
وفي قوله ( وافعلوا الخير لعلكم تفلحون )
وقوله: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان،
واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به)
بل يتجلى لك ذلك أي جانب الإيجاب وجانب السلب
في عقيدة التوحيد
( واعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً )