جيل العواطف في زمن العواصف

**Al3sjd** · 21-01-12, 01:22 AM

جيل العواطف في زمن العواصف

كان الانحراف في السابق مدفوعاً – غالباً- بالهوى والميل.. أما الآن فإنّ الهوى خالطه شيء من الشكّ. نحن نرى في الشباب مظاهر انحراف سلوكي ساذج؛ قصات شعر غريبة، ملابس شاذة، رقص، غناء، متابعة الإسفاف.. ونظن أنّ خطبة بليغة، وكلمة دامعة، مؤثرة، وقصة مخيفة أو محزنة- نظن ذلك كفيلاً بعودة الشباب إلى الحاضنة الإسلامية.

دعني أقل لك إنّ هذا قد يفيد في عودة الكثيرين، لكنه ليس كفيلاً ببقائهم، وهذا ما حدث ويحدث مع أشخاص رأيناهم في صور محزنة بعد انتكاساتهم.
والذي لا مناص من الاعتراف به هو أنّ الخطاب الدعوي متخلف في بعض آلياته، فهو لا يواكب المتغيرات من حوله، وهذه المتغيرات قسمان: قسم متعلق بطبيعة المتغير الحياتي وظروف العصر، وقسم متعلق بطبيعة الدعوات المضادة: أساليبها وأدواتها.
ما ذكرته أعلاه من مظاهر الانحراف السلوكي عند الشباب، والتي نظنّها ساذجة وطبيعية تخفي تحتها بركاناً مكتوماً من أسئلة حائرة وعقول مترددة متأملة، لم يعد يكفيها الوعظ والشحن العاطفي، بل تحتاج إلى خطاب آخر يمزج القليل من العاطفة بالكثير من الحوار والإقناع.
وعندما أقول القليل من العاطفة فإني أعني ذلك صراحة؛ فالعاطفة إذا كانت قوية متدفقة عطّلت آلة الفكر أو أضعفتها، فيعتمد الشخص على عاطفته، ويجعلها دليله، لكنّ العاطفة مثل نار الجمر تحتاج إلى النفخ المستمر وإلاّ خبت، والعبد لا يملك أن يكون دائماً وفي كل وقت مع من يشحنه عاطفياً، فلابد له من أن يخلو أو ينفرد أو يسافر، فما لم يكن لديه المخزون العلمي: الفكري والثقافي فإنّ عاطفته تنهار أمام أوّل صدمة عاطفية أقوى منه.

وكما قلت فإنّ الانحراف السلوكي اليوم يغذيه تشكّك وتردّد وتساؤلات تهزّ أركان الإيمان، وتزلزل قاعدة التلقي والتسليم، ولذلك فليس من السهل أن يعود الشاب إلى الخير بمجرد عودته إلى البيئة الأصلية مهما كانت صحية؛ لأنّ بذور الشك والتردّد قد بُذرت في سويداء قلبه، ولا يكفي لعلاج هذا الأمر تلاوة آيات التسليم والاتباع المطلق.
أصبح الشاب يسأل: ما الحكمة من تحريم كذا؟ لماذا لا يجوز كذا؟ لماذا يجب عليّ كذا؟ إلى آخر هذه الأسئلة..

وأنا أتأسف كثيراً على سنوات طويلة ضاعت من عمر الصحوة في أشكال من الحركة مفيدة ولا شك، لكنها لم تشكّل رصيداً للدعوة، فنحن نلحظ نتائج السنوات الماضية الآن في مجموعات من طلبة العلم وهذا جيد، ومجموعات من الشباب القادر على العمل الخيري والإغاثي وهذا جيد، ومثلهم يجيدون إقامة المناشط الدعوية كالمراكز الصيفية والمخيمات الدعوية، وهذا جيد كذلك.

لكن أين الأفراد الذين امتلكوا آلة الفكر وأدوات الحوار والإقناع المعاصر؟ أين هم؟ وإن وجدوا فكم هي أعدادهم؟

نفرح كثيراً أن نرى أعداداً كثيرة من الشباب والدعاة يقيمون المناشط، ويرافقون الشباب المقبل على الله، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويبذلون النصح للناس.. لكني على يقين أنّ سؤالاً واحداً من شاب حائر، ربما يمر على عشرات أو مئات من الدعاة، فضلاً عن غيرهم لا يملكون له جوابا شافياً.. أليس الواقع مُراً وصعباً؟ بلى!

لهذا أنادي –وبقوة- أن نرفع جميعنا من مستوى الخطاب الدعوي لكل الناس. لا تظنّ أنّ الناس لا تفهم أو لا تعي الخطاب الإقناعي الحواري، بل على العكس يفهمونه ويقبلونه، ربما لا يستطيع الواحد منهم ترديده أو التعبير عنه.. لكنه يتقبله ويعيه، ويوسّده قاع روحه، تماماً كالعلاقة بين تذوق الشعر وإنشائه.. فكثير منا يتذوق الشعر وكافة أشكال الأدب، ويتفاعل معها، مع أنّه لا يقدر على نظم بيت واحد ولا نثر سطر واحد.

وهذا يعني أنّ على الدعاة وطلبة العلم بالذات أن يتسلحوا بمزيد من أدوات الفكر والثقافة المعاصرة، خاصة تلك التي يلحن بها أهل الريب والشك، ليحسنوا مخاطبة أعدادٍ غفيرة من الشباب الذي أصبح يسأل، ويناقش، ويطالب بالإقناع الفكري أكثر من الإخضاع العاطفي.