ليبرالية العرب في الجاهلية
إبراهيم بن محمد الحقيل
بسم الله الرحمن الرحيم
تقوم فكرة الليبرالية على الحرية، وكسر القيود التي تقيد الإنسان، دينية كانت أم أخلاقية أم عرفية، باعتبار أن الإنسان هو مركز الكون، وهو الذي يضع القيود التي تقيده، فيجب أن تكون القيود نابعة منه لا من غيره.
ولما كان لا بد من عيش الإنسان مع غيره كان اختيار القيود التي تقيد حرية الإنسان من مجموع الناس عن طريق اختيار ممثلين عنهم يتفقون على هذه القيود، وهو ما تقوم به المجالس التشريعية والبرلمانات في النظام الليبرالي، ولا ثبات لهذه القيود بل تغير بحسب رغبة الناس؛ إذ الأخلاق والقيم والمثل عندهم نسبية، وهي من صنع الإنسان، ويستطيع تغييرها، وهو ما عُبِّر عنه في القرآن بعبادة الهوى في قول الله تعالى [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ] {الجاثية:23}.
ومن قارن فكرة الحرية بمفهومها الغربي بما كان عليه حال أهل الجاهلية في جاهليتهم وجد أنهما متشابهتان إلى حد كبير، يصل إلى التماثل بينهما في كثير من التفصيلات، وأن التعددية التي يفاخر بها الغرب، ويدعو إليها الليبراليون السعوديون كانت موجودة عند مشركي العرب، وأن الحرية المطلقة من قيود الدين والأخلاق كان المشركون يمارسونها في مجالها الشخصي والفكري والديني والاقتصادي، ولا يضعون من القيود إلا ما تعارفوا عليه فاتفقوا أن يكون قيدا، وإلا فالأصل عندهم الانفلات والحرية. ويتبين ذلك بعرض مجالات الحرية عند المشركين، ولن أتعرض في هذه الورقة للحرية السياسية عند العرب في جاهليتهم؛ لأن الليبراليين السعوديين لا يدعون إلى ليبرالية سياسية -وهي الديمقراطية- وإلا لما بقيت لهم صحفهم وفضائياتهم ونفوذهم، وهم أبعد الناس عن ممارستها ولو زعموا خلاف ذلك.
الحرية الشخصية عند المشركين:
الحرية الشخصية لها قيمة عالية في الفكر الغربي، وتقدم في كثير من الأحيان على حرية الرأي، والمشركون العرب كان عندهم قدر كبير من الحرية الشخصية، بل كانوا يعارضون التدخل في خصوصياتهم، ومن مظاهر حريتهم الشخصية عدم تحريم محرمات المآكل والمشارب والملابس، وإن كانت محرمة في بعض الأديان المحرفة كاليهودية والنصرانية، أو كانت محرمة فيما توارثوه من بقايا الحنيفية؛ ولذا كانوا يأكلون محرمات الطعام، ويشربون الخمر، ويلبسون الذهب والفضة.
يقول جواد علي:«وكان من أغنياء مكة من يأكل بصحاف من ذهب وفضة، ويشرب بآنية من ذهب وفضة ومن بلور، ويأكل على طريقة الروم والفرس بسكاكين وشوكات مصنوعة من ذهب أو من فضة, على حين كان أكثر أهل مكة فقراء لا يملكون شيئًا, وكانوا يلبسون الحرير، ويتحلون بالخواتم المصنوعة من الذهب، تزينها أحجار كريمة.... وكان استعمال الأغنياء لآنية من الفضة والذهب في أكلهم وشربهم معروفًا بمكة».([1])
وفي حريتهم الشخصية في المآكل والمشارب والملابس ونحوها لم يتقيدوا بقيود إلا حسب أعرافهم أو ما استقذروه، وأبين دليل على إطلاقهم الحرية الشخصية، وتمتعهم بها: قول جعفر بن أبي طالب للنجاشي لما سأله عما جاء به النبي ، قال يصفهم حالهم:«أَيُّهَا الْمَلِكُ كنا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِى الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ ونسيء الْجِوَارَ...وقال يحكي ما جاءهم به النبي : وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الحديث وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحاَرِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ... وقال يحكي حالهم مع النبي : فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ على ما جاء بِهِ فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فلم نُشْرِكْ بِهِ شَيْئاً وَحَرَّمْنَا ما حُرِّمَ عَلَيْنَا وَأَحْلَلْنَا ما أُحِلَّ لنا».([2])
فهذا الحديث يكشف حال أهل الجاهلية وما كانوا عليه من الحرية الشخصية في المآكل والمشارب والأفعال وإتيان الفواحش، واستحلال المحرمات، وأن النبي جاءهم بعبودية تقيدهم وتكفهم عن ذلك، وأن حالهم تغير بعد طاعتهم للنبي فصاروا يحرمون ما حرم عليهم، وهذا تقييد الحرية الشخصية بالدين وقد كانت مطلقة قبله.
ومن دلائل حريتهم الشخصية تمتعهم بأنواع اللحوم دون قيود، حتى نزل تقييد ذلك في قوله سبحانه [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ] {المائدة:3} فهذه الأطعمة كان أهل الجاهلية يستبيحونها فحرمها الله تعالى عليهم.([3])
وكان من أهل الجاهلية من حرم على نفسه الخمر والأزلام ومنهم: عبد المطلب بن هاشم، وشيبة بن ربيعة بن عبد شمس المقتول ببدر، وعثمان بن عفان، وورقة بن نوفل، وقيس بن عاصم السعدي، وعبد الله بن جدعان، وجماعة غيرهم.([4])
وحرمها أيضا العباس بن مرداس السلمي، وقال: لا اشرب شرابا أصبح سيد قومي وأمسي سفيههم، وكان سكر فجعل يساور القمر. فلما أصبح أخبر بذلك فحرمها. ([5])
وأول من حرم الخمر في الجاهلية الوليد بن المغيرة، وقيل: قيس بن عاصم، ثم جاء الإسلام بتقريره.([6])
والملاحظ في نظام أهل الجاهلية أن من حرم الخمر على نفسه لم يلزم بالتحريم غيره من الناس، ومن استباحها لم يلزم غيره بتعاطيها، بل لكل واحد حريته الشخصية في ذلك، وهو ما تدعو إليه الليبرالية المعاصرة.
وفيما يتعلق بالعلاقات الخاصة التي يفاخر الغرب بإتاحة الحرية فيها، وهي التي كانت سببا في انتشار الفواحش وما نجم عنها من أضرار صحية ومشاكل اجتماعية، وهي التي يستميت الليبراليون السعوديون في الوصول إليها كما هي في الغرب، وذلك بمحاولة إلغاء سلطة الشريعة على الناس، وفرض الاختلاط بقوة القرار الحكومي، وربط الاختلاط بأرزاق الناس حتى تلجئهم الحاجة إلى استساغته وقبوله؛ فإن المشركين كانوا يؤمنون بالحرية الشخصية، ويمارسون الزنا بل يفاخرون به، ولم تكن تمنع منه إلا المرأة الحرة، فتأنف هي منه، وتعاقب عليه لو وقعت فيه، وقد روي عن هند زوج أبي سفيان ا قولها لما نزلت آية بيعة النساء وفيها قول الله تعالى [وَلَا يَزْنِينَ] {الممتحنة:12} قالت: وهل تزني الحرة؟! ([7])
قال ابن عاشور: كان البغاء في الحرائر باختيارهن إياه للارتزاق... وكان في الإماء من يُلزمهن سادتهن عليه لاكتساب أجور بغائهن، فكما كانوا يتخذون الإماء للخدمة وللتسري كانوا يتخذون بعضهن للاكتساب، وكانوا يسمون أجرهن مهراً كما جاء في حديث أبي مسعود أن رسول الله: نهى عن مهر البغي.([8])
وقد كان الزنا معروفًا في الجاهلية يفعله الرجال علنًا؛ إذ لم يكن هذا النوع من الزنا محرمًا عندهم. وإذا ولد مولود من الزنا وألحقه الزاني بنفسه، عدّ ابنًا شرعيًّا له، له الحقوق التي تكون للأبناء من الزواج المعقود بعقد، ولا يعد الزنا نقصًا بالنسبة للرجل ولا يعاب عليه؛ لأن الرجل رجل، ومن حق الرجال الاتصال بالنساء، وقد كانوا يفتخرون به...والزنا الذي يعاقب عليه الجاهليون، هو زنا المرأة المحصنة من رجل غريب بغير علم زوجها، وهو خيانة وغدر. أما زنا الإماء، فلا يعدّ عيبًا إذا كان بعلم مالكهن وبأمره.([9])
ويدل على انتشار الزنا فيهم، وتسخير الإماء لممارسته تحريمه في القرآن، قال الله تعالى [وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا] {النور:33}
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت. فلما جاء الإسلام نهى الله المسلمين عن ذلك. وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة -فيما ذكره غير واحد من المفسرين من السلف والخلف -في شأن عبد الله بن أبي بن سلول المنافق؛ فإنه كان له إماء، فكان يكرههن على البغاء؛ طلبا لخراجهن، ورغبة في أولادهن، ورئاسة منه فيما يزعم.([10])
وفي آية ما ينكح من النساء وما يحرم قال الله تعالى [مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ] {النساء:25} فالمسافحات: المعلنات بالزنا. والمتخذات أخدان: ذات الخليل الواحد. كانت المرأة تتخذ صديقا تزني معه، ولا تزني مع غيره.([11]) قال الحسن رحمه الله تعالى: المسافحة: هي امرأة كل من أوى إليها تبعته، وذات الخدن: هي أن تختص بصديق.([12])
وهذا الفعل بشقيه المسافحة والمخادنة موجود في الحضارة الغربية المعاصرة، وتقره القوانين من باب الحرية الشخصية؛ فالمرأة الغربية تتخذ لها صديقا تخادنه ولا يمنعها القانون من ذلك، والمسافحة منتشرة في الغرب، وهو عملية منظمة يستصدر فيها لدور البغاء تصاريح، وتستجلب النساء للدعارة، ويرتادها من يريدها، وكل ذلك يتم تحت حق الحرية الشخصية، فمن حق المرأة أن تؤجر جسدها وهي حرة فيه، ومن حق من شاء أن يضاجعها إذا تراضى الطرفان، والقانون يحمي هذا الحق ويكفله للناس.
والفارق بين هذا العمل وعمل أهل الجاهلية أن البغي في الجاهلية مملوكة لسيدها، وتعمل لحسابه، بينما في الحضارة الغربية لا يملكها من يشغلها وإن عملت لحسابه وأعطاها أجرتها.
وأما مسألة الإكراه التي يراها المدافعون عن الحرية بمفهومها الغربي فرقا جوهريا بين ممارسة الغربيين وممارسة أهل الجاهلية، فالحقيقة أن معنى الإكراه موجود؛ لأن المجتمع الرأسمالي المتوحش الذي لا مكان فيه للرحمة هو الذي ألجأ البغايا إلى ممارسة هذه المهنة؛ فالفتاة في الغرب يجب أن تعتمد على نفسها عند سن معينة، ويتخلى عنها ذووها، وتواجه الحياة ومصاعبها وأراذل الرجال وحدها، فتضعف أمام المغريات، وتنكسر كرامتها مع إلحاح الحاجة، فتمتهن البغاء لسد حاجاتها، وإلا فمن التي ترضى أن تؤجر جسدها لمن لا تعرف من الرجال لقاء مبلغ من المال لولا الحاجة التي ألجأتها إلى ذلك. فمعنى الإكراه على البغاء موجود في الحضارة الغربية، ولكنه ليس إكراه أفراد بل إكراه مجتمع كامل بقسوته وقوانينه الجائرة.
وإذا كان كسب الزانية في الجاهلية يعود إلى مولاها ومن يملك رقبتها؛ لأنها مملوكة، والمملوك وما يملك ملك سيده؛ فإن كسب الزانية في الحضارة الغربية يعود لمن شغلها، ويعطيها أجرة على ذلك، كما أن السيد في الجاهلية يتولى سكنى وكسوة وإطعام أمته التي أجرها للزنا، فالحالان متشابهان جدا، وهذا يدل على ما كان يتمتع به أهل الجاهلية من الحرية الشخصية المطلقة من قيود الدين، وهي عين الحرية الشخصية الموجودة في الغرب الآن، وإن اختلفت مفردات التمتع بهذه الحرية، بحيث إن العرب في الجاهلية يستقبحون مثلا السحاق وعمل قوم لوط، والحضارة الغربية المعاصرة تجيزه وتشرعه من باب الحرية الشخصية.
صحيح أن هذه الحرية الشخصية يتمتع بها الرجال دون النساء؛ فالنساء كن مظلومات مضطهدات، بل كانت الزوجة إذا مات زوجها تورث كما يورث المال، فكرم الله تعالى المرأة ونهى عن أفعال أهل الجاهلية، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا] {النساء:19} قال ابن عَبَّاسٍ ا: كَانُوا إذا مَاتَ الرَّجُلُ كان أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ إن شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ شاؤوا زوجوها وإن شاؤوا لم يزوجوها فَهُمْ أَحَقُّ بها من أَهْلِهَا فَنَزَلَتْ هذه الْآيَةُ في ذلك.([13])
فالحرية الشخصية في الجاهلية كانت من حق الرجل دون المرأة، والغرب جعل الحرية الشخصية للمرأة كما هي للرجل، فاشتركا في منح الحرية الشخصية المطلقة من الدين وإن اختلفا فيمن يتمتع بها، وفي حين أن القيود على الحرية الشخصية كانت عند أهل الجاهلية تستقى من أعرافهم فإنها عند الحضارة الغربية تؤخذ من القانون الذي تقره المجالس التشريعية، والجامع بينهما أن مرجعها أهواء البشر، وتقديرهم للمصالح والمفاسد، ولا يسندها شرع عند كليهما.